عيد ميلاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري- طرابلس: العروبة الحديثة

كلمات 01 نوفمبر 2008 0

لم يخطر في بالي أبداً أنني سأتحدث عن الشهيد رفيق الحريري في عيد مولده. فهو بهذا المعنى، لم يكن احتفالياً ولولا ضغوط الحلقة الضيقة من أهله لما أراد أن يتذكر يوم مولده. فهو في لبنان حيث تصغر به السنوات كلما رأى حلمه يتحقق في بلده.

المشكلة الثانية في هذه المناسبة أن لكل منّا تاريخ واحد لميلاده أما الرئيس رفيق الحريري فله ثلاثة مواعيد اختارها القدر له. التاريخ الأول هو موعد مولده كإنسان الذي يصادف غداً وإنما منذ 64 عاماً. التاريخ الثاني هو 14 شباط من العام 2005 حين قام للشهادة ولم يسقط باغتياله. التاريخ الثالث هو الرابع عشر من آذار حين ذهب كل لبناني إلى ضريحه ليقول له أن قامته تصنع التاريخ حتى وهو في قبره المطل على ساحة الشهداء، قائلاً لمن سبقوه إلى الشهادة في سبيل لبنان لا تقلقوا، لا ترتبكوا، لا تتساءلوا. جئت لأطمئنكم انه ما زال في لبنان رجالاً يموتون من أجل وطنهم.

عن أي تاريخ أتحدث؟

عن الإنسان الذي ما ترك صيدا أهلاً ومرتع طفولة وفضاء أحلام منذ اللحظة الأولى لولادته حتى اللحظة الأخيرة في حياته. بعث بأول ما تيسر بين يديه من مال ليبني مدرسته التي تعلّم فيها حرفه الأول. مشى دروبه الأولى، فتش عن رفاقه الأوائل، زار بساتين عمل فيها والده، تذكّر تراباً مشى عليه ولم ينسَ رائحته مرة في حياته. أعطى الرئيس الشهيد المال العربي معنى جديداً غير الذي تعوّدنا عليه. لقد عاش جيلي على صورة المال العربي الباذخ حتى الكفر في غير مكانه وفي غير اهله. بينما هو جعل العلم لشباب بلده عنوناً ينفرد به دون غيره من الأثرياء. ذهب إلى ساحات القرى ومآذن المساجد وقاعات الكنائس داعياً الشباب للذهاب إلى حيث يصنعون أنفسهم بالعلم. أنقذهم من الحاجة ما لم يكملوا تعليمهم العالي، وحاول أن ينأى بهم من قذارات الحرب وأهمها ما يدخل إلى العقول.

هل نجح؟

يقول جون واتربوري، رئيس الجامعة الأميركية الأسبق عنه، في حفل تأبينه “كان رفيق الحريري يعلم من خبرته الشخصية أن أهم مورد للبنان هو شعبه وهو سيمضي به إلى المستقبل. كان رفيق الحريري يؤمن أن العلم هو ما سيبرز قيمة رجال لبنان ونسائه”.
يكمل واتربوري “أكثر من 36 ألف طالب أفادوا من مؤسسة الحريري، من بينهم 4500 مهندس، و1600 طبيب حازوا شهاداتهم المتقدمة بدعم من المؤسسة.

لم أر الشهيد الحريري يوماً فرحاً كما هو عندما يكون بين خريجي المؤسسة محاوراً. كان يرى في عيونهم تفاؤله بالنجاح، ويرى في سواعدهم قدرة على حماية لبنان وبنائه. لم يخيّب اللبنانيون والخريجون منهم ظنّه في يوم من الأيام”.

لا أضيف جديداً إذا قلت أنه سكن قصوراً كثيرة وزار العالم كله ربما، لكن قلبه بقي دائماً حيث كانت الحاجّة ام رفيق رحمها الله والسيدة بهية حيث هي الآن في دار عائلتها أطال الله في عمرها.

آتي إلى التاريخ الثاني، الرابع عشر من شباط. لم يسقط الشهيد ومعه رفاقه، بل قاموا بجثامينهم ليقولوا للقاتل أنه قتل حلماً، لكن للبنانيين أحلاماً دائمة لا يستطيع أحد إطفاء ضوئها. وقف العالم كله على المنبر مجدداً ليقول للنظام الذي لا يعرف غير القتل وسيلة للحوار. لن يترك اللبنانيون أنفسهم ضحية ولن يتخلوا عن حرية قرارهم ولا وحدة مجتمعهم ولا عن طبيعة نظامهم وأعرافه التوافقية والمدنية. صار هو العلم بعد أن كان البوصلة للحياة السياسية اللبنانية. لم يعرف الذين قتلوه أنه في حياته ما كان ليقبل بخروج الجيش السوري من لبنان كما خرج. ولا ترك العنان للكلام المجنون الصادر من القلوب المحروقة عليه ورفاقه، ولا قبِل أن يسمع أصوات الثأر من دولة لا يرى رئيسها في أحلامه إلا لبنان المؤامرة والشهداء الذين يجب أن يسقطوا لما قالوه، أو ما اعتقد هو أنهم فعلوه.

عروبة رفيق الحريري ثابتة وأكيدة، لكنها متدرجة تأخذ بعين الاعتبار تغيّر الظروف والأحوال والمصالح المشتركة وحاجات الشعوب في حقها في التعبير عن رأيها دون أن تدخل إلى السجن كلما قالت كلمة حق.

لا يستطيع رفيق الحريري أن يكون عروبياً دون حداثة ومعرفة بأحوال العصر وتقلباته. دفع الشهيد حياته ثمناً لمفاهيمه اللبنانية ولقدرته على صد العاصفة التي جاءت على لبنان منذ اغتياله حتى الآن، سواء من الخارج الإيراني الذي يملك أحلاماً إمبراطورية بينما لا يملك ثلث شعبه قوت يومه. أم من الداخل حيث اعتقد مناصرو هذه الأحلام أنهم يستطيعون بسلاحهم القضاء على الإنجازات السياسية الاستقلالية التي حققها اغتيال الرئيس الحريري.

صار واضحاً أن الضريح في ساحة الشهداء هو المقر والممر لاستعادة الاستقلال وللإصرار على فكرة الدولة مهما كلفت من دماء. نحن نعيش منذ ثلاث سنوات ونصف حتى الآن حول عناوين الضريح التي صارت شعارات الوطن. حرية، سيادة، استقلال، واعتدال أيضاً.

جاء التاريخ الثالث في الرابع عشر من آذار ليكشف أن اللبنانيين قادرون بملايينهم أن يحتفلوا باستقلالهم، جاؤوا إلى ساحة الشهداء ليبلغوا ضريحه أنهم لن يساوموا ولن يتراجعوا وأن الظلم يصهرهم ويزيد من قدرتهم على التمسك بكلامهم الحق. لبنان أولاً، لكن ليس على حساب الآخرين، كما فعلوا هم بنا ويحاولون حتى اليوم أن يحققوا سيادتهم على حسابنا.

لبنانيون كثر أكثر مما توقّع هو جاؤوا كما في كل رابع عشر من آذار ليقولوا له أننا صامدون لن نتغير لن نبدل قناعاتنا ولن نستسلم. حقق الشهيد رفيق الحريري للبنانيين في شهادته ما لم يستطع فعله في حياته. هذا قدر العِظام الذين يجعلون من ذكراهم نوراً وطنياً يذكّر من نسي أن رفرفة علمهم تجعل هواءهم حراً عليلاً صادقاً.

حين أنظر في عيونكم خاصة أنتم أهل الشمال أرى عزيمة لا تلين وإيماناً لا يتبدد وقدرة كانت لنا دائماً نحن أهل الأمة مدىً ومدداً.

ليس ما قلته هو كل الحقيقة، هناك عقبات تعرفونها والمشروع الآخر لا زال على إصراره الانتقام من لبنان. لكن الأمل فيكم والخير منكم. هذا لا يعني أنه ليس هناك من مشروع أميركي أيضاً. نعم، هناك مشروع أميركي للمنطقة. لكن السؤال هو عن كيفية مواجهته. هل نواجهه بالفرقة والانقسام والاعتداء والاستباحة؟ أم نواجهه بالمفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، كما فعلت القيادة السورية؟ لست أنا من يجيب، لكنني لا أرى فيما أراه منذ أكثر من ثلاث سنوات مواجهة للمشروع الأميركي.

لا ينشغل لكم بال ولا يرفّ لكم جفن من الاستعراضات التي تتوالى أمامنا مهما افتعلت من ضجيج فارغ المضمون. نحن أصحاب رسالة ودور. عروبتنا عقلانية وواقعية. إسلامنا قائم على التسامح وقبول الآخر. كلمتنا في السياسة أكبر من كل سلاح. ومن يعش يرى.

كان الشهيد رفيق الحريري سياسياً حتى اغتيل. صار رمزاً لفكرة الدولة المستعادة. أنتم وغيركم طبعاً حوّلتم الرمز إلى حقيقة مهما ظهر من صعاب أمامها فإن تحققها هو الأكيد.

اصبروا وصابروا وتفكروا وتدبروا أمركم بالتشاور في ما بينكم. نحن صامدون. ماذا عنكم؟ عشتم وعاش لبنان… شكراً لشباب المستقبل..

لحظة لو سمحتم.. لدي شهادة لا بد من قولها. كان للرئيس الشهيد هوىً شمالي. أما سعد الحريري قلبه شمالي وعقله بيروتي وأهله من صيدا.