عهد “التواضع” السياسي

مقالات 22 أكتوبر 2007 0

يسرع الرئيس نبيه بري الخطى في القاعة الكبرى لمقر الرئاسة الثانية في عين التينة، وكأنه يستعجل الوصول الى هدف محدد. تحاول أن تجاريه في خطاه المنتظمة الحركة لتصل معه الى هدفه، فإذا بك تعود معه الى حيث بدأ في مدخل القاعة.
هكذا الأمر مساء كل يوم منذ أشهر طويلة، حين التزم رئيس المجلس النيابي منزله أمنياً، فأصبح لا يعرف ضوء النهار إلا من النافذة المغلقة. ويسمع اتهامه بأنه يغلق المنزل السياسي للبلد أي المجلس النيابي من نشرات الأخبار.
لا يدّعي الرئيس بري رغبة في الاغتيال السياسي، ولا يسعى للحصول على لقب الشهادة. وهو يعلم أن عصر البطولات قد انقضى منذ زمن طويل. وصار للبطل مهام مستحدثة تنص على تحمّل المسؤولية بقدر ما تسمح به الخرائط السياسية الثابتة في أزماتها في منطقة الشرق الأوسط.
هو بكل بساطة وتواضع يريد أن يكون عفيّ الصحة، حاضر الذهن، صحيح التمثيل، منقذا لما بقي من لبنانيته، حين يحين وقت الجلوس الى طاولة التسوية. بعد أن صار خبيراً محلفاً في ترتيب وإدارة طاولات الحوار.
لم يكن سهلاً على الرئيس بري بعد 30 عاماً من العمل في السياسة أن يعترف بكل هذه الصفات المخالفة لنشأته الشخصية والسياسية دفعة واحدة. فقد بنى بري صورته السياسية على أنه إذا كان هناك من اشتباك سياسي فلا بد أن يكون هو قد افتعله، وإذا كان هناك من صوت عال في مجلس الوزراء فصوته هو الأعلى، وإذا كان هناك من حروب مسلحة بحجم الجبال كافراً كان الخصم أم مؤمناً، لبنانياً أم عربياً فلا بد أن تكون حركة أمل التي يترأسها هي البادئة بالاشتباك وهي المنهية له. وإذا كان هناك من مال عام لمرفق في الجنوب فهو الممسك به، وإذا كان هناك من إدارة شاغرة فقدت هويتها الطائفية بفعل حدث ذات مرة فهو الذي يتفضل على هذه الدائرة بواحد من طائفته ليديرها وفق حاجاته وموازينه.
تتغيّر الآن صورة رئيس المجلس النيابي بأسرع مما هو متوقع لها، وصار إذا ما راجعه أحد بالاحتلال المستدام لقلب بيروت والذي تشارك فيه حركته، يتجاهل حجم المشكلة باعتباره مسؤولاً فقط عن الحوار الوفاقي الذي يثمر لهذه المشكلة ولغيرها حلولاً سريعة. كما أنه لو جاءه أحد مساعديه بتصريح ناري لأحد أغرار قوى الرابع عشر من آذار ما عدا وليد جنبلاط، لاستمع إليه باسماً باعتبار أن صاحب التصريح يحتاج الى من يلفت نظره الى خريطة المنطقة فتبرد أعصابه وتتلطف كلماته. ينطبق الوصف نفسه لرد فعله على تصريح لواحد من أبطال السياسة في حزب الله ، الذي لا يجد ما يقوله لتسهيل الحوار الوفاقي إلا التهديد بالثبور وعظائم الأمور، فيطلب ممن حوله أن يرسلوا خريطة حديثة للمنطقة هدية من بري الى صاحب التهديد.
***
من أين أتى هذا التواضع المنبسط سياسياً الى دائرة الرئاسة الثانية؟
في الأسبوع الماضي أظهرت الاهتمامات الدولية والاتصالات العربية والمشاورات التركية، أن حجم الأزمة في لبنان يكبر بدلاً من أن يصغر. وبالتالي فأن حجم الضغوط التي تمارس في الداخل اللبناني وخارجه تريد أن تسهّل حدوث الاستحقاق الرئاسي على قاعدة الوفاق، منعاً للانفجار الذي يسهل أن يأخذ أشكالاً متعددة في حال تعذر الوفاق. والمنع هنا يندرج تحت عبارة بأي ثمن.
حرص وزراء خارجية فرنسا وإسبانيا وإيطاليا على إبلاغ من التقوه من المسؤولين أنهم لا يتحدثون باسم بلادهم فقط، بل إنهم مكلفين من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قاطبة أن يطلبوا من المسؤولين اللبنانيين بذل كل الجهد للوفاق حول الاستحقاق الرئاسي لأنه تحت هذا الوفاق تندرج عناوين كثيرة بشأن مستقبل لبنان وعلاقات العالم الغربي به.
لم يكن هذا الكلام من باب التهديد بل هو إشارة الى مدى أهمية تحييد لبنان عن الأزمات المشتعلة في المنطقة، سواء في العراق حيث كل خطوة نحو وحدة الدولة، تسبقها عشرات الخطوات الدامية الداعمة للتقسيم. وفي فلسطين حيث تبحث واشنطن بجهد كبير عن نجاح لحوار فلسطيني إسرائيلي ينقذ ماء وجه الإدارة الأميركية التي تعهدت لكل الدول العربية الصديقة لها أن مؤتمراً دولياً سيعقد قبل نهاية هذه السنة لبحث المواضيع الرئيسية في النزاع العربي الإسرائيلي.
ليس هناك ما يوحي بنجاح الحركة الدبلوماسية الأميركية سواء في العراق أو في فلسطين، فلماذا الإصرار عبر عدم التوافق على انضمام لبنان الى المناطق المشتعلة في المنطقة؟
لم يكن هذا هو الجانب الوحيد في الصورة التي رسمها وزراء الخارجية الأوروبيين، بل إنهم اعتبروا استمرار مشاركتهم في قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان دليل عملي على مدى اهتمامهم بالحفاظ على الهدنة السياسية والأمنية التي يعيشها لبنان.
العنصر الثالث في الكلام هو أهمية التماسك اللبناني الذي تجلى في مواجهات مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني وتنظيم فتح الإسلام ، مما أعطى انطباعاً جدياً على القدرات اللبنانية في مواجهة التجمعات الإرهابية أياً كان مصدرها.
العنصر الرابع هو الكلام المتداول منذ زيارة البطريرك صفير الأخيرة الى الفاتيكان، بأن الرئيس اللبناني هو المسيحي الوحيد بين الرؤساء العرب، وبالتالي فان انتخابه بشكل طبيعي وسليم ودستوري يجعل منه في موقعه عنوانا مشجعا للوجود المسيحي في الشرق والذي تراجع الى درجة كبيرة في العراق وبنسبة أقل في مصر.
يوضح كلام المسؤولين الأوروبيين أن لبنان أصبح نقطة مضيئة على خارطة الإرهاب الدولي، فضلاً عن كونه دولة حدودية مع إسرائيل ما يجعله معنياً مباشرة بالأمن الإسرائيلي، كما انه العنوان الاول لمسيحيي الشرق الاوسط.
حين ناقشت هذه الصورة مع مسؤول سعودي قال ل السفير إن اللبنانيين لا يعلمون ماذا يمكن أن يحدث لهم لو لم يتوافقوا. لأن كل الجهات العربية والدولية ستعمل على أن يبقى الحريق داخل لبنان مهما كلف ذلك من جهد ومال ومواجهة. لن يقبل أحد من الأطراف المعنية بمنع تصدير الإرهاب، أن يتباهى اللبنانيون بامتداداتهم الخارجية لنشر حرائقهم حيث ترى تحالفاتهم الإقليمية ذلك مناسباً .
ليس هذا هو الموقف السعودي فقط بل أن الرباعي العربي المشكّل من السعودية ومصر والإمارات العربية والأردن يلتزمون هذا الموقف ويبلغونه الى كل اللبنانيين الذين يلتقوهم. بل أن الأمر وصل بأحد كبار المسؤولين في الرباعي العربي الى القول إننا مللنا من اللبنانيين، فلكل منهم رأي لا يحيد عنه. وهناك داخل الفريق الواحد من الاجتهادات في المواقف مما يصعّب علينا الثقة بهم والعمل على مساعدتهم .
***
لا يعني هذا الكلام تردداً أو تراجعاً في الرغبة العربية والأوروبية لدعم التقدم السياسي للبنان، لكنه بالتأكيد يعبّر عن ملل من مبالغات السياسيين اللبنانيين في قدراتهم ومواقفهم ورغباتهم.
يتصرف السياسيون اللبنانيون بغالبيتهم العظمى أبعد ما يكون عن التواضع السياسي. بعضهم يعتبر أن قرار الدنيا والآخرة في يده، والآخر لا يقبل بأقل من رؤوس الجبال مقراً لآراءه. وثالث يعتقد أن بيده قرار المنطقة، يسقط أنظمة ويدعم أخرى.
هذا ليس جديداً على التاريخ اللبناني، إنما الجديد أن المعنيين بالشأن اللبناني من العرب والأوروبيين لم يعد باستطاعتهم استساغة هذا النوع من الأدب السياسي.
هل يؤدي هذا الى وفاق صادق بتواضعه حول الاستحقاق الرئاسي؟
اولاً: هناك تغيير ولو طفيفا في الموقف الاميركي عبّر عنه السفير فيلتمان بدعوته الى تحقيق نطاق واسع من التأييد لرئيس الجمهورية الجديد. والارجح ان حركة النائب سعد الحريري العائد من جولة في الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية تهدف الى تحقيق هذا التأييد الواسع للرئيس الجديد عبر الوفاق. وقد أكد النائب الحريري موقفه الايجابي من الحوار أثناء اجتماعه بالوزراء الاوروبيين في قصر الصنوبر، لكنه اعتبر ان اغتيال النائب انطوان غانم موجه ضد الحوار بينه وبين الرئيس بري. وبالطبع كرر تحميله للنظام السوري مسؤولية اغتيال النائب غانم في جملة من اغتيلوا من السياسيين اللبنانيين.
ثانياً: هناك من ينقل عن مسؤولين سوريين أو حلفاء موثوقين منها ان دمشق على استعداد لمناقشة أسماء المرشحين المطروحة على طاولة البحث خارج مرشحي 14 آذار وبالطبع العماد ميشال عون من الجانب الآخر.
ما يدعم هذا القول العرض الذي حمله وزير الخارجية التركي الى رئيس الحكومة اللبنانية بالتوسط بين البلدين بتعليمات من رئيس حكومته رجب طيّب أردوغان. وذلك بعد زيارة الرئيس الأسد الى تركيا في الاسبوع الماضي.
لم يكن الرئيس السنيورة في جو التشاور مع دمشق ولو عبر الاتراك في مسألة الاستحقاق الرئاسي. لكنه وضع أمام الوزير التركي وقائع الملفات العالقة بين البلدين، دون أن يطلب منه السرعة في الحركة في البحث في هذه الملفات الآن مع المسؤولين السوريين، خاصة أن المساعي التركية القائمة منذ زيارة رئيس الوزراء التركي أردوغان الى بيروت في السنة الماضية لم تحقق نتائج ملموسة حتى الآن. هذا لا يمنع أن الطرف العربي الرئيسي في الوضع اللبناني أي السعودية، ترك للبنانيين حسب قول أحد كبار المسؤولين السعوديين إمكانية الوفاق حتى الرابع عشر من تشرين الثاني المقبل. وبعدها تتشاور السعودية مع الاوروبيين وواشنطن في ما يمكن عمله بشأن الاستحقاق الرئاسي.
***
إذا ما استمر الحوار في سياق التواضع السياسي الساري المفعول حتى الآن في الاستحقاق الرئاسي، فإن طاولة الترشيح لن تتسع لأكثر من ثلاثة أسماء أولهم من الادارة وثانيهم من مجلس النواب وثالثهم من الوطن. ورابع يأتي نتاجا لأزمة أكثر مما يتحقق في سياق انتخابات.
الاول رياض سلامة حاكم البنك المركزي. ليس هناك من الكثير في سيرته الذاتية غير انه من جبل لبنان، وحقق نجاحاً مشهوداً في سياسته النقدية خلال عمله الطويل في المصرف المركزي في ظروف استثنائية. محافظ في سياسته وفي اجتماعياته. لا يخرج إلا نادراً الى الاماكن العامة أو حتى الدعوات الموسعة على الطريقة التقليدية لحكام المصارف المركزية.
أظهر استقلالية في فترات متباعدة عن سياسة الرئيس الحريري، يأخذ عليه بعض من في قوى 14 آذار دوره في تعمية المشاركة السورية في قضية بنك المدينة. لكن مراجعة دقيقة لملف المصرف تثبت أن ما فعله سلامة انه ذكر الوقائع في تقديره الى المدعي العام التمييزي لكنه لم يسع الى التشهير بأي من المسؤولين السوريين المتورطين في بنك المدينة ونجح في تأمين أموال المودعين. ويمكنه القول انه شارك في معظم قراراته بشأن إفلاس المصرف رئيس الحكومة آنذاك الشهيد رفيق الحريري وبالطبع رئيس الجمهورية العماد اميل لحود.
ينطبق عليه القول بأنه سيد ما لم يقله. لذلك فإن معرفة مواقفه السياسية الاكيدة من أي موضوع غير متوفر بشكل موسع.
الثاني هو النائب روبير غانم. حدودي في العلاقة مع سوريا. ناخبوه مختلطون من كل الطوائف. معتدل. خبير في شؤون الادارة والعدل، لم يجعل من نفسه مرة قضية سياسية. يعتبر نفسه في عداد نصاب قوى الرابع عشر من آذار. دون حضور غالبية اجتماعاتهم. وقّع على العريضة النيابية التي طالبت بالمحكمة الدولية دون تردد. استقلالي التربية اذ ان والده كان قائداً للجيش وشقيقه ضابط كبير ايضا. حفظ الرئيس الشهيد الحريري له دائما نزاهته واستقامته. اذ انه كان محاميا لرجل أعمال سعودي وأشرف بعد وفاة موكله على بيع طائرته الخاصة الى الرئيس الحريري بترفع ليس سائدا في مثل هذه الصفقات.
الثالث الوزير السابق جان عبيد، الذي اعتمد في عمله دائما الخفية أكثر من الظهور والسرية أكثر من العلنية. رغم انه تسلم وزارة التربية ثم الخارجية. في الاولى حرص على العدل والتماسك دون شهرة في وزارة هي الاهم داخليا. فلم يجعلها مرتعا لانتشاره السياسي. والثانية هي المنبر الذي استعمله بالحد الادنى داخليا رغم نجاحاته الخارجية.
يأخذ عليه السوريون لقاءه بعبد الحليم خدام في باريس بعد مغادرة الأخير النهائية لدمشق. وهو ان فعل ذلك فإنما من باب الوفاء لصداقة قديمة. اذ انه من المدرسة القائلة بالشهامة والنخوة والوفاء، ورغم معرفته بكلفة هذه المواصفات سياسيا، فإنه لا يتخلى عنها. من أساطين المعرفة بالصيغة اللبنانية والقدرة على إعادة إحيائها وإنعاشها. في كلامه عبر دائمة، تجعله رغم أهميتها وكأنه يستند الى التاريخ بأكثر مما يلزم لاستشراف المستقبل. قرأ مع الرئيس الشهيد الحريري أولى صفحات معرفة الحريري بالسياسة اللبنانية وبقي الى جانبه سياسيا في أصعب الظروف. نتاج طبيعي للكنيسة المارونية المنفتحة على العروبة.
الرابع هو العماد ميشال سليمان الذي يحسب له حسن إدارته لحركة الجيش السياسية والأمنية منذ اغتيال الرئيس الحريري وحتى أحداث مخيم نهر البارد. إلا أن الرفض الطبيعي لاستعادة تجربة قائد الجيش في رئاسة الجمهورية بعد العماد لحود، تجعل من الصعب رغم الفارق الكبير بين الشخصيتين وصول العماد سليمان الى بعبدا إلا نتيجة لأزمة سياسية وأمنية لا حل لها إلا به.
هل من المجازفة تسمية ثلاثة من لائحة طويلة من المرشحين لرئاسة الجمهورية، باعتبارها الاكثر قدرة على الوصول؟
طاولة التواضع السياسي لا تتسع للكثير من الأوراق. ولبنان يحتاج واحداً لا أكثر يبدأ معه عهد التواضع الرئاسي.