عملية “الحضن الدافئ”..

مقالات 19 نوفمبر 2007 0

لم يستطع العاهل الأردني عبد الله بن الحسين ان يبقى على هدوئه، متابعاً عن بعد المبادرة الفرنسية في لبنان والتي تحمل تواقيع تأييد عربية ودولية كثيرة. فكلما توزعت وتفرّعت الحركة الدبلوماسية الفرنسية ازدادت مصاعبها، وازداد معه القلق عند العاهل الأردني. فهو من الحكام العرب القلائل الذين مهدوا لعلاقة مع المرشح نيكولا ساركوزي قبل ان يصبح سيداً لقصر الإليزيه. وهو أيضاً من الذين يرسمون على خريطتهم السياسية ضرورة الحضور الأوروبي في شبكة الاتصالات الدائمة حول النزاع العربي الإسرائيلي، ونقطة الجذب في هذا الحضور الأوروبي هو الرئيس ساركوزي القادم الى الرئاسة بعد جاك شيراك الرئيس الأوروبي الأكثر حضوراً وفعالية في الشرق الأوسط خلال السنوات العشر الماضية.
الترجمة الفرنسية الى العربية وبالعكس لا تعني بالضرورة وصول الرسالة لأي من الطرفين المتحاورين. وما دام الرئيس الفرنسي أخذ على عاتقه المجازفة في الرمال المتحركة اللبنانية، واضعاً رئاسته الجديدة في مرمى النيران الأميركي السوري، فلماذا لا يفعل العاهل الأردني الشاب وهو يرى عجزاً حقيقياً من الحكومة الإسرائيلية عن تحقيق تقدم في القضية الأولى في العالم العربي أي النزاع العربي الإسرائيلي، خصوصاً أنه يشهد أيضاً على تجاهل الإدارة الأميركية لقدرة دول الاعتدال العربي على تحمّل نتائج السياسة الأميركية في المنطقة، في العراق أولاً ثم في فلسطين والآن في لبنان. هذا إذا أردنا ان نتجاهل ما يحدث مع الجنرال برويز مشرف الحليف للسياسة الأميركية في باكستان الدولة الإسلامية الأولى والوحيدة التي تملك قنبلة نووية.
اتخذ الملك عبد الله قراره بزيارة دمشق التي تمت أمس بعد أيام طويلة من النقاش مع مساعديه، وبعد سنوات شهدت فيها العلاقات السورية الأردنية الكثير من المطبات السياسية والأمنية.
***
اعتمد الداعون الى تحسين العلاقات السورية الأردنية والراغبون في اتمام زيارة مفاجئة الى دمشق على عدة عناصر في مناقشتهم للموضوع.
أولاً: لا يجوز ترك ساحة المفاوضات حول المسألة اللبنانية التي تحمل عنواناً مرحلياً هو الانتخابات الرئاسية للرئيس الفرنسي وحده، ومن ثم تحميله مسؤولية الفشل لو حدث ليس من قبل العرب المعنيين فقط وهو يعرف مدى رغبة رفاقه في الرباعي العربي أي مصر والسعودية والامارات في إنجاح المسعى الفرنسي بل سيتحمل المسؤولية أيضاً أمام الإدارة الأميركية التي مددت فعالية وكالتها للدور الفرنسي حتى موعد نهاية الفترة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية. فضلاً عن ان هذا الفشل سيصيب الدور الفرنسي في أوروبا ويضعف القدرة الفرنسية والأوروبية بالتالي على لعب دور ولو محدود الفعالية في ملف المنطقة الأساسي أي النزاع العربي الإسرائيلي.
ثانياً: إذا كانت الإدارة الفرنسية الجديدة قادرة على الحصول على الإذن بفك الحصار الدبلوماسي على سوريا من أوروبا والولايات المتحدة والدول العربية ايضاً، ولو تحت شعار مسعى الفرصة الأخيرة لسوريا بالمساعدة على انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية،
… إذا كان الأمر كذلك فما الذي يمنع العاهل الأردني من القيام بمسعى داعم للحركة الفرنسية التي تعتمد سياسة الحضن الدافئ للنظام السوري يساعدها على الترجمة بين اللغتين العربية والفرنسية من جهة، ويحقق للمجموعة العربية التي ينتمي إليها الأردن حضوراً مباشراً في ملف آني له أولوية مطلقة مثل الانتخابات الرئاسية اللبنانية، دون ان تلتزم أي من الدول العربية المعنية بنتائج زيارته.
ثالثاً: ليس هناك من أحد في العواصم الغربية او العربية ينكر أهمية لبنان وارتباط قضاياه الداخلية في ملفات المنطقة. هناك حزب الله المسلح بنظرية الحرب المباشرة على إسرائيل والتي تلقى مزيداً من الرواج في العالم العربي. كذلك النفوذ الإيراني الذي تجاوز تنظيم حزب الله الى مجموعات سياسية متعددة في النظام اللبناني. في الوقت الذي لا يمكن فيه تجاهل مصالح سوريا السياسية المشروعة في العلاقات مع جارها اللبناني، وسط حملة الاتهامات المتبادلة بين البلدين.
رابعاً: تشهد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لوضع ورقة عمل مشتركة تنفيذية للحل النهائي، عقبات أساسية توحي انها وصلت الى طريق مسدود هذه الأيام على الأقل، مرة لضعف الحكومة الإسرائيلية بعد حرب تموز من السنة الماضية في لبنان. ومرات أخرى بسبب التفكك الفلسطيني.
كل هذا وسط تقدم حركة حماس ومنطقها الى حد القدرة على التفرّد بقطاع غزة عملياً، في الوقت الذي أصبح فيه مؤتمر أنابوليس الدولي المفترض عقده في الولايات المتحدة قبل نهاية الشهر في مهب الريح.
فما الذي يمنع والكلام لا يزال للمدافعين عن الزيارة من استعادة الحوار السوري الأردني في الموضوع الفلسطيني إذا أظهر الرئيس السوري في الاتصالات المسبقة استعداداً للتفاهم.
خامساً: لقد حان الوقت لدخول الفائض من مال النفط العربي الى ميدان المواجهة مع سيل المال الإيراني الفاعل في سوريا وفلسطين ولبنان والعراق. فإيران تساعد سوريا على سبيل المثال بخمسة مليارات دولار سنوياً بمختلف أنواع المساعدات من سلاح ونفط وتبادل تجاري، فضلاً عن الدعم السياسي. فماذا تقدم الدول النفطية العربية والإدارة الأميركية لسوريا او لدول مثل الأردن ومصر؟ هذا دون الحديث عن الدور الإيراني في العلاقات القطرية السورية. والدور الإيراني في اتمام زيارة رئيس دولة الامارات العربية خليفة بن زايد الى سوريا منذ ثلاثة اشهر.
سادساً: إن الاعلان عن اي مفاوضات تمهيدية لاتمام الزيارة يعرضها للإلغاء بسبب التدخلات المنتظرة عربياً ودولياً والتي ستنصح بتأجيل الزيارة الى ما بعد انتخابات الرئاسة اللبنانية. دون الأخذ في الاعتبار رغبة العاهل الاردني بالتأكيد على ضرورة اجراء الانتخابات الرئاسية خلال زيارته التي لم تكن قد حصلت بعد. لذلك لم يعلن عن الزيارة الملكية الى العاصمة السورية إلا قبل ساعات قليلة من إتمامها، وهذا يخلي طرف مصر والسعودية، اللتين تقاطعان النظام السوري تماماً، من المسؤولية وتترك لنتائج الزيارة ان تحدد ما إذا كان تقدير الملك عبد الله بن الحسين للزيارة سليماً أم لا.
تمت زيارة العاهل الاردني بعد ظهر أمس في اللحظة الاخيرة من المفاوضات على صياغة البيان المشترك.
***
لا تقل الحاجة السورية للزيارة عن الرغبة الاردنية. فهي تكسر مقاطعة عربية طال امدها. فالأردن دولة رئيسية في الرباعي العربي من جهة، واتصالات مليكه السياسية بالادارة الاميركية والحكومة الاسرائيلية متواصلة لا تتوقف، وهو يقوم بهذه الزيارة في الوقت الذي طلبت فيه الادارة الاميركية من الرئيس التركي عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب اردوغان تجميد دور بلادهما في المفاوضات عن بعد بين الحكومة الاسرائيلية والنظام السوري. وقد استجابت الحكومة التركية للضغوط الاميركية مؤقتاً على الاقل. فالعلاقات السورية التركية تتقدم الى درجة اعتبار المسؤولين في دمشق ان هناك تفاهما ثلاثيا على كثير من القضايا بين العواصم السورية والايرانية والتركية. بصرف النظر عن دقة هذا الوصف فإن شركة قطرية عقارية انهت بناء 26 فيلا رئاسية تحضيراً للقمة العربية المقرر عقدها في شهر آذار المقبل في دمشق. لذلك اعتبرت الادارة السياسية السورية ان الوقت قد حان للانفتاح العربي بما يطمئن القيادات المدعوة الى القمة. ومن هنا جاءت الدعوة في البيان المشترك لبناء موقف عربي موحد في مواجهة التحديات الأمنية والتطرف والإرهاب، ونص البيان المشترك نفسه على اعتماد المبادرة العربية للسلام لإيجاد حل شامل للصراع العربي الاسرائيلي.
الأهم في النص المشترك بين العاهل الاردني والرئيس السوري هو التزام سوريا حل الدولتين والدعم الكامل للسلطة الوطنية الفلسطينية، وهو التزام لا يطابق النص الإيراني سواء بشأن حل الدولتين او دعم السلطة الوطنية الفلسطينية.
أليس هذا بكثير على العاهل الاردني؟
يتضح من البيان المشترك ان الرئيس السوري يريد ان يفتح أبواباً دولية وعربية من خلال عبد الله بن الحسين، بعد ان اعتاد استعمال مفاتيح اخرى استنفد فعاليتها في السنوات الثلاث الاخيرة.
بالطبع لا ينتظر النظام السوري من جاره الاردني الكثير لكنه في الزيارة التي تمت أمس استعاد صلة كانت في وقت ما وثيقة بينه وبين العاهل الاردني. اما الاجوبة على من سيعترض من الدول العربية والادارة الاميركية فهي ليست مطلوبة من الجانب السوري.
***
ماذا عن لبنان؟
لم يقم العاهل الأردني بزيارته الى دمشق لو لم يكن متأكداً من حصول الانتخابات الرئاسية اللبنانية بدعم من سوريا. لذلك بدا المقطع اللبناني من البيان المشترك متساهلاً اكثر من اللازم من وجهة نظر غالبية القوى السياسية اللبنانية. إذ كيف يمكن للعاهل الاردني ان يؤكد على اهمية الدور الايجابي الذي يمكن ان تلعبه سوريا لضمان أمن واستقرار لبنان، وهو يعلم ان هذا النص مثار اشتباك في لبنان وليس وسيلة وفاق؟
يتضح من قراءة شاملة للبيان المشترك الاردني السوري ان العاهل الاردني حقق علناً في الموضوع الفلسطيني وفي عنوان الإرهاب، وحصل على وعود شفهية ومباشرة من الرئيس السوري بضمان اجراء الاستحقاق الرئاسي اللبناني. لذلك تجاهل البيان القرارات الدولية المتعلقة بلبنان ونص عليها في الصراع العربي الاسرائيلي.
يبدو ان لعملية الحضن الدافئ الفرنسية الاردنية شروط نجاح في لبنان اهمها التساهل في الشكل والتأكد من المضمون. هذا ما يفترض ان يكون العاهل الاردني قد حققه. ولن يسمع العاهل الاردني اعتراضاً او تشجيعاً لما فعل قبل نهاية المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، بعد اربعة ايام من اليوم.
إذا ما تمت الانتخابات الرئاسية سيكون لمغامرته معنى ومغزى. اما إذا لم تتم فيكون قد تأكد وصديقه الفرنسي انه ليس لديهما ما يكفي من الحرارة لتدفئة الانتخابات الرئاسية اللبنانية.