على درَج البطريرك ..

مقالات 26 نوفمبر 2007 0

يتّسع أمام عينيك الأفق حيث تعتقد انه سيضيق. تنفتح أمامك طاقة الكلام حين تظن انها مقفلة. تتنوع الأفكار وتزدان الكلمات بما يعطيها دفعة الأمل وأنت تقفل على أفكارك باعتبار ان مجال بحثها ليس حيث تذهب. تحتار في توزيع ميزان الخطأ والصواب نسباً ومقادير فيستقبلك وضوح في الحساب لا ظلم فيه ولا شكوى. تعتقد أنك ستجد أمامك الانكفاء مقيماً ومقرراً بعد تجارب إقدام مخيبة للآمال فإذا بك أمام مزيد من الاندفاع المسؤول ولو على توتّر. تختلط عندك المشاعر بين ان تجد من هو مقيم على الصلاة تاركاً الدنيا لمريديها وسياسييها يفعلون بها وبأهلها أسوأ الأفعال. فلا تجده، بل تجد من يؤكد ان في صلاته إصلاحاً لأحوال الناس ورغبة صادقة في إنقاذ الرعية المؤمنة من رعونة قادتها.
ليست هذه لغة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، بطريرك الموارنة في انطاكية وسائر المشرق الذي يحرص على ان يكتب عظاته الأسبوعية وبيانات اجتماعاته الموسعة بلغة مباشرة، واضحة، صريحة لا تترك مجالاً لاجتهاد أو تفسير. ولكن هل تكفي اللغة المباشرة والصلاة الصادقة للوصول الى ما يريده اللبنانيون من استقرار؟
على درج بكركي، حيث البطريركية المارونية، تجد آثار من مروا من قبلك صعوداً نحو سيدها. وهم كثر. إلا ان استعراضاً في ذاكرتك القريبة لعشرات المسؤولين الأوروبيين والأميركيين والعرب الذين صعدوا على هذا الدرج في الأشهر الأخيرة، يزيد في تساؤلاتك: ما الذي يجلب هؤلاء المسؤولين الى هذا الصرح. هل هو الفراغ في القيادة السياسية؟ هل لأنها موضع الرعاية الكاملة للمسيحيين المنقسمين على أنفسهم وعلى وطنهم، فيهرب الوسيط صاحب اللقب والمنصب العربي او الأوروبي من انقساماتهم الى حيث الرعاية الأبوية المسؤولة تجمعهم؟ هل هي المسألة المسيحية الشرقية التي تجعلهم يأتون الى رمزها الأنصع في لبنان علّهم ينقذون الوجود والحدود؟ هل هو التطرف السياسي الذي لا مواجهة له إلا بالتوازن والاعتدال المسؤول؟
يخفت ضوء النهار بعد الظهر فيلف السكون ساحة بكركي التي تشهد دائماً ضجيجاً سياسياً ما بعده ضجيج وحضوراً من اللبنانيين على تنوع صلاتهم. إذ تدور الأحداث منذ 30 سنة وحتى الآن ويعود اللبنانيون الى هذه الساحة يناشدون مرجعيتها الوقوف في وجه ارتكابات سياسييهم، ليس بالصلاة فقط، بل قبلها وبعدها بالتصرف السياسي المواجه والمباشر مثله مثل كلمات العظات التي يكتبها سيد بكركي.
في داخل الصرح حيث الهدوء لا يقطعه إلا مكالمة من وزيرة خارجية الولايات المتحدة الى البطريرك صفير ينسّقها أبونا ميشال عويط صاحب الابتسامة الألطف والعريق في اختيار كلماته لرسم الحدود البروتوكولية لسيده وقتاً وحركة.
يخرج سيدنا من مكتبه الى القاعة الكبرى. يقفل الباب بمفتاح يخرجه من سيلته وهو التعبير العامي لجيب جبّته. في وجهه الكثير من الهموم، ومن الصلابة أيضاً. إذ ان عشرات السنين، وهذا ليس رقماً مجازياً، من المواجهة السياسية أظهرت على وجهه علائم القدرة على الاستمرار في المواجهة أياً كان الخصم، فكيف إذا كان المتخاصمون من أهله ورعيته وهو ما حدث في العام 89 عسكرياً بين الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون و القوات اللبنانية برعاية الدكتور سمير جعجع. وما يتكرر اليوم سياسياً بين الأفرقاء أنفسهم بأشكال مختلفة من التحالفات. لكنها توصل لنتيجة مماثلة. الفارق ان الشيخ أمين الجميل الذي كان رئيساً للجمهورية في تلك الأيام وأشرف على تنظيم الفراغ بنفسه لا يرتبك هذه الأيام في اعتبار شخصه مرشحاً لرئاسة الجمهورية، رافضاً لائحة البطريرك ما لم يرد اسمه فيها، متمرّدا على دور بكركي حين لا يكون لصالحه، طالباً من التاريخ ان يتراجع عن أحكام بحقه، ما دام قد فعل مع آخرين.
لا يترك البطريرك الأحداث تأخذ من قدرته على الإصرار الوطني مهما طالت الأحداث ومهما قست.
لذلك لا توقّع لتراجعه ولا خوف من تردّده. بالعودة الى القريب من الزمن، يسجّل للبطريرك انه أول من قرأ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان بأنه لا بد أن يتلازم مع الخروج العسكري السوري من لبنان وانسحاب الأمن السوري من السياسة اللبنانية. فكان بيان المطارنة في العام 2000 فاتحة حركة الاستقلال الثاني للبنان، الذي تستمر قوى سياسية مختلفة قادها وليد جنبلاط في مصالحة الجبل مع البطريرك أولاً ثم تحالف 14 آذار، تستمر في العمل بهدي ما ورد في البيان الأشهر في تاريخ بكركي الحديث.
***
ينتشر التوتر على جنبات البطريرك لمناسبة الانتخابات الرئاسية. هو بالتأكيد يريدها أن تحصل وفي موعدها. تجاوز من أجل ذلك وعداً قطعه على نفسه بأن لا يتبنى مرشحين ويترك غيرهم في وقت ينهار فيه سلّم القيم الذي يعطي لسياسي دون غيره الحق في الترشح. فبدت لائحة البطريرك الرئاسية وكأنها مسحوبة من سلة كبيرة فيها من المرشحين العلنيين كل من مضى على مارونيته أكثر من عشر سنوات ويحمل شهادة جامعية عملا بقانون الوظيفة العامة في الدولة اللبنانية.
هذا الوصف لا ينطبق على من وردت أسماؤهم في اللائحة الرئاسية. إذ ان البطريرك راعى فيهم معايير عدة لم تعترف بها الأطراف السياسية المتخاصمة.
المعيار الرئيسي أن الأسماء الثلاثة الواردة في اللائحة، غير مرشحي الخلاف، أي العماد عون والشيخ بطرس حرب ونسيب لحود. المرشحون الآخرون قادرون على لعب دور في مجال تحسين العلاقات اللبنانية السورية. فالأول أي ميشال إده رئيس سابق للرابطة المارونية وأحد أعمق العرب ثقافة في المسألة المسيحية الشرقية ولا يرى في مسيحيته غير الانتساب العربي الى درجة تعليمه بنفسه أحفاده اللغة العربية وهم مقيمون في فرنسا. والثاني روبير غانم نجل قائد الجيش ونائب عن منطقة حدودية مع سوريا. والثالث نجل أول رئيس لجمهورية لبنان المستقلة وأحد الداعين لموضوعية ورصانة العلاقات اللبنانية السورية. كذلك فإن التوافق هو سمة هذه الأسماء الحائزة على الأوصاف الرئاسية للبطريرك وهي أن شخصية المرشح يجب أن تجمع ولا تفرق وعلى مسافة واحدة من الجميع. يتمتع بخبرة سياسية ولا يخجل مستقبله من ماضيه. فما الذي أوقع اللائحة البطريركية في فخ الخصومات السياسية؟
من التبسيط القول إن ولاء ميشال إده لسوريا منع قوى الرابع عشر من آذار من تبني ترشيحه. وأن السطوة الأميركية على روبير غانم هي التي حدّت من قبول المعارضة به رئيساً. فلا الصفة الأولى صحيحة ولا الثانية واردة. الأصح في هذا الأمر أن اللائحة البطريركية وقعت في مطبات كثيرة.
الأول ان البطريرك قبل بتسمية مرشحين ستة بعد تردد طويل بسبب الضغط الأوروبي وخاصة الفرنسي عليه دون الحصول على ضمانة فعلية بإجراء الانتخابات. واعتبر أن في حركة ممثلي الاتحاد الأوروبي وموافقة الإدارة الأميركية عليها ما يكفي من الزخم لوصولها الى هدفها. وهذا ما لم يحصل، إذ ان سطحية تعامل وزير الخارجية الفرنسية مع المسألة اللبنانية كشفت عن ضعف جدي في آلية المسعى الأوروبي الذي تقوده فرنسا. هذا فضلاً عن أن تسمية البطريرك لعون وحرب ولحود لا تدخل في إطار المواصفات التي أعطاها صفير لمرشحيه.
المطب الثاني أن الدور الأوروبي الذي تقوده فرنسا لم يقم بدور الحكم ولو كان وسيطاً. فلم يقم بالاتصالات اللازمة من قبل ولادة اللائحة لضمان مرور واحد من أسمائها عند الطرفين السياسيين المتخاصمين. ولا كان بقدرته إلزام الأطراف لاحقا بقبول مرشح يتبنى مسؤولية سياسته في الرئاسة. فأصبح ملتزماً مهمة صندوق البريد بين الأطراف.
المطب الثالث أن الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري تركا للبطريرك تسمية لائحته دون أن يحيطاه ولو سراً بمواصفات اسم مرشح يمر بينهما دون أن تتقطع أوصاله رفضا.
يقال بأن محاولات جرت من قبل النائب الحريري لصالح اسم معين تحمّس له الرئيس بري، لكنه لم يرد في اللائحة البطريركية.
المطب الرابع: أنه بينما كان وزراء خارجية فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والأمين العام للجامعة العربية يدورون على الأفرقاء السياسيين، كان الرئيس السوري بشار الأسد يحقق انفتاحا تلو الآخر مع الفرنسيين والإيطاليين والعاهل الأردني في موضوع المنطقة وحاجة المجتمع الدولي والقيادات العربية لعقد مؤتمر أنابوليس الدولي بحضور سوريا وتأثيرها الفلسطيني. حتى أن مصر والسعودية اشترطتا الحضور السوري للعمل على إنجاح المؤتمر.
ويعتذر في آخر الأمر الرئيس الأسد من الرئيس ساركوزي بأنه لا يستطيع إلزام الأطراف المسيحية برأيه، بل يستطيع فقط مع حلفائه الشيعة وقد فعل. باعتبار أن الرئيس الأسد اطلع حديثاً على خريطة الخصومات اللبنانية أو اكتشف فجأة تغيرها فلم يستطع التأثير. مع العلم أن الرئيس الأسد حاول وضع اللوم على الوزير كوشنير الذي لم يأخذ ما كان يجب أخذه من مبادرة العماد عون وهو أنه لم يعد مرشحاً للرئاسة ولو لوقت محدود، وأن يضع باقي النقاط على طاولة النقاش.
***
هل هذا يعني أن المبادرة الأوروبية ستنكفئ إلى ما بعد مؤتمر أنابوليس الذي سيعقد بعد غد، وأن جلسة انتخاب الرئيس ستعقد ولو أرجئت بعد الثلاثين من الشهر الحالي كما يقال؟
لا يترك العماد عون لمجتهد تفسير كلامه. فهو في كل مرة يُحاصَر فيها حقه التاريخي برئاسة الجمهورية، يستنفر المسيحيين ويبتز مشاعرهم البدائية السياسية الباحثة عن حقوق وهمية في السلطة يأتيهم بها الجنرال .
لا يتورع في ذلك عن طرح مصير النظام السياسي وفتح الأبواب أمام حرب أهلية ولو كلامية بين المسيحيين والمسلمين المغتصبين للسلطة، بعد ان فشلت محاولات الفتنة المذهبية بين المسلمين.
يتجاهل العماد عون في كلامه ان الجولة الاخيرة التي قضت على ما تبقى من الحضور المسيحي السياسي، قام بها هو نفسه مع الدكتور جعجع في نزاع على السلطة مماثل للذي يقوم به اليوم. وأن قيادته لألوية الجيش لم تستطع تحقيق أهدافه الرئاسية فكيف الآن؟
لا يهم الجنرال انه يعد المسيحيين بما لا يستطيع تحقيقه ولا يجوز له منطقيا المطالبة به. ويصم أذنه دائماً عن التفسير السياسي لتفاهمه مع حزب الله بصرف النظر عن نص مذكرة التفاهم، والذي يجعل من وصوله الى الرئاسة تهديداً للمسيحيين قبل المسلمين، وستكون المرة الأخيرة التي يصل فيها مسيحي الى الرئاسة. اذ ماذا يضمن لو تواجه المسلمون عسكريا ان يبقى بلد للمسيحي فيه رئاسة جمهوريته؟
يراهن العماد عون على ان لكل ممثل جمهوره لا يتخلى عنه فلماذا لا يستمر في مسرحيته.
كذلك الدكتور جعجع الذي دعا إلى السيطرة الأمنية على مناطق قوى الرابع عشر من آذار، فردّه جنبلاط عن غيّه، ناسياً أنه حين كانت صدارة التمثيل المسيحي له عام 88 لم يستطع تحقيق أفكاره الأمنية.
قد يكون العماد عون مراهناً على عودته من المنفى، حين كانت السياسة السورية تريد ان تزرع الفوضى على كامل الأراضي المسيحية السياسية. وهو على حق، فالسياسة السورية الآن قائمة على الفوضى المنظمة في لبنان. تبقى الامور على حالها في لبنان حتى تتغير الادارة الاميركية ويتغير معها ميزان القوى اللبناني بما يسمح بانتخاب رئيس، لسوريا عليه فضل التسمية. يدعمها في ذلك حزب الله الذي لم ينجح في إيصال سياسة الهدوء التي يحتاجها بقوة إلى نهايتها.
والادارة الاميركية تريد ان تحصل على صورة عربية شاملة في أنابوليس عنوانها البحث في القضية الفلسطينية، فينتهي المؤتمر مع اطفاء اضواء الكاميرات، لذلك سحبت تفويضها للادارة الفرنسية من لبنان حين شعرت بأن مسؤولية وطنية عند وليد جنبلاط وسعد الحريري قد تأتي بميشال اده رئيساً للجمهورية.
ستعد الادارة الاميركية سامعي كلماتها في لبنان بأنها ستعود إليهم بعد ان تقوم قواتها بضرب ايران، وهو ما تبشر به مجدداً التعليقات الاميركية الرصينة. او ان تكمل اسرائيل ضرباتها التأديبية على سوريا بعد عملية دير الزور ، فيتغير ميزان القوى ويسمح برئيس مستقل عن النفوذ السوري.
كلتا الرغبتين تحتاج الى اشهر قبل ان تتحقق، هذا لو تحققت، وحتى ذلك الحين لا يسمع مسيحيو صِدام عام 1988 ما استشعره مبكراً وليد جنبلاط بالانسحاب من التحالفات الدولية التي تريدنا وقوداً لحروبها، بعد أن طالب خلال زيارته إلى واشنطن نائب الرئيس الأميركي بالاعتراف بالرئيس اللبناني في حال انتخابه على قاعدة النصف زائد واحد للنصاب، أحاله تشيني إلى مستشار الأمن القومي ستيفان هادلي الذي اشترط للاعتراف بشرعية الرئيس الجديد الحصول على موافقة البطريرك صفير. وهو ما لم يحصل. ولا يرون حركة سعد الحريري الصادقة بانفتاحها على التسوية، ولا بالطبع للبطريرك صفير الذي يريد المسيحيين ان يبقوا حتى يكون لهم رئيس منهم.