عادوا أطفالاً…

مقالات 30 أبريل 2007 0

عندما تترفّع من درجة السلام عند اللقاء الى مرتبة الصداقة عند آل الميقاتي ، او الميقاتيين كما يُكتب عنهم في كتاب تاريخ طرابلس ، وهي مرتبة لا يصل إليها إلا من يتمتع بصفات لا يعرفها الصديق في نفسه، بقدر ما يجدها الميقاتيون فيه. عندها يتأكد ان هناك سراً يحرصون على اخفائه جميعا، نساءهم ورجالهم، ليس عن قصد، لكن هكذا درجت العادة عندهم منذ ان كانوا.
لا يمكن لهذه التراتبية العائلية المنضبطة براحة المحبة، ولا للسكينة الداخلية التي ترقد في الصدور، ولا للاطمئنان الذي يأتي من الله مباشرة، ولا للوقوف بعد تعثر، لا يمكن لكل هذا ان يكون بالولادة او بالأطباع، او باعتباره جزءاً من التقليد الطرابلسي العريق الشائع في المدن العربية القديمة المجاورة للبحر. كما انه لا للعلم ولا للعمل الذي ادى الى الانفتاح على عالم الحداثة وتقنياتها، ان يؤسسا لما في دخيلة هذه العائلة من هناء في الوجوه وفي التصرف الذي يتوارثونه جيلاً بعد جيل.
لا بد من ان يكون هناك ضابط ايقاع يشرف على نمو هذه الشجرة، يشذّب فروعها حتى الصغيرة منها.
يبقى السؤال في صدرك وليس من تسأل عنه، إذ يأخذك النقاش في المسائل العامة الى حيث الاشتباك هو الاسهل، وأسئلته واجوبته حاضرة. الاول رئيس حكومة، ووزير قبلاً، وحاج دائما؛ والثاني هو الاول في كل ما على وجوه وما بين أيدي الآخرين من عائلة واصدقاء ووزراء ورؤساء حكومات ايضا. تصغُرُ المناصب امام صفاء قلبه ورجاحة تقديره وترفّع مقاصده. ينشر هذه الخصال في عائلة واسعة ويتطوع ببعضها الى اصدقائه القليلين، ويُبقي منها ما يكفيه وما يحتاج اليه من احتياطي ايضا. الأول هو الرئيس نجيب ميقاتي، والثاني طه الاول دائما بعيداً عن تقلّب العهود.
الى ان كان يوم، ذهبت فيه للقاء الرئيس ميقاتي. قيل لي على مدخل المبنى انه في منزل والدته. اين؟ في الطابق الثالث من المبنى نفسه. لا اعرف لماذا استعجلت الخطى إليه حيث هو. كانت المرة الاولى التي اعرف انها تسكن في المبنى نفسه، والمرة الاولى التي أراها فيها ايضا: رقيقة كجناح فراشة بيضاء. وجه محدد المعالم فيه الكثير من الصفاء الهادئ. تجلس بوقار. تتحدث بدقة. استقبلتني عن معرفة. كلمات قليلة في السياسة نجيب عاد الى منزله . دقيقتان او اكثر بقليل. ينتهي السؤال. وجدت الاجابة.
في وجه الحاجة سعاد الغندور، وفي زوايا منزلها البسيط، حيث العراقة هناك منذ زمن طويل جداً، تقيم البركة التي يسعى إليها الميقاتيون كالبنيان المرصوص بالتسلسل يومياً، وبعض الأحيان اكثر من مرة في اليوم الواحد. يتسابقون بين بعضهم البعض على الاتصال للتأكد من ان الوضع الصحي بخير وتحت السيطرة، حتى صاروا يتناوبون على فهم تطورات الحالة الصحية للحاجة وسبل معالجتها.
المفاجأة الثانية. أنت المتردد على الرئيس ميقاتي يومياً منذ اشهر، بل منذ سنوات، تعرف متأخراً جداً ان الجيل الثاني من الميقاتيين يتسللون واحداً تلو الآخر الى المبنى نفسه للسكن: عزمي الذي لا ترى في وجهه غير ملفات العمل، وماهر الذي ترى محبة والدته مي في ضحكته، صارا من سكان البناية. يريدان حصتهما من البرَكة مباشرة وليس عن طريق احد، ولو اقرب الناس. الاصغر منهما يأتي ويذهب. لا احد يشعر. كأن هناك قراراً مأخوذاً من كتاب العراقة بعدم اشاعة النبأ، باعتباره مسألة خاصة جدا تسبب الحسد. لكنك عندما تصبح صديقاً حاضراً، لا تعود تعرف من اتى ومن خرج. أنت في مكانك وهم يتنقلون بين الطوابق. يحومون حول البرَكة . يأخذون زادهم منها، تناديهم هي لتعطي من له اليوم حصة اكبر. يأتونها بصغارهم والاصغر من صغارهم لتنقل بيدها وبكلماتها ما علمتها إياها السنوات العجاف منها والحسان، ولتبارك بما اعطاها الله من حكمة الأم ومحبة الجدة وفرحة القلب، وهي ترى اجيالا ثلاثة حولها، هي جيلهم الأول. يغار الكبار من الصغار. ينافس الكبار أولادهم، ويحمل الجيل الثالث أطفال الجيل الرابع فلا تفرّط بحق اي منهم في بركتها.
لكنها على عهد الأمهات تحفظ للاول من اولادها حصته المختلفة. هكذا كانت مع طه. حين دخلت السياسة الى منزلهم منذ عشر سنوات، جاءها صديق يبلغها بأن احدهما، طه او نجيب، سيدخل الى الوزارة. قالت له. نجيب للسياسة. اتركوا طه للعائلة. فنحن اولى به. هو عصب حياتنا وديدبان حاجاتنا، وحافظ كتاب العائلة التي منها نجيب.
عرفت منذ ايام مدى دقة احكامها حين رأيت جمعا من السيدات والشبان يقبلون على يد طه يريدون تقبيلها بإلحاح طرابلسي، وهو يتمنّع ليس تعففا فقط، بل حفظاً لشكل الشباب الذي عليه. حين سألت، قيل لي انهم اقرباء من العائلة.
الرئيس ميقاتي حصته محفوظة. هو يدعو لها في كل صلاة شاكراً إياها بعد ربه على ما وصل إليه في العام وفي الخاص. ينظر حوله، يجد شقيقاً كبيراً في كل ما لديه، وشقيقات ينظرن إليه بعين الإعجاب، كأنه الشاب الاول الذي تقع عليه اعينهن، واولاده وأحفاد يرون فيه المثال.
الصوت يصدح في مبنى التسلل الميقاتي .. لا إله إلا الله. لا إله إلا الله. منذ ثلاثة ايام خرجت الحاجة سعاد من منزلها في بيروت الى مثواها الاخير في طرابلس.
يتسابق الاولاد والاحفاد على حملها بعد ان حملتهم لسنوات وسنوات. لا يريدون لها ان تأخذ برَكتها معها. لولا قضاء الله وقدره لطلبوا أن تبقى هي وبركتها. لكن إيمانهم يمنعهم.
الرئيس ميقاتي المحاط بكل ما يمكن للدنيا ان تعطيه من الجاه، يبكي سائلا الله ثم إياها ان يرحمها ويرحمه، من قال لك إنني كبرتُ … وتأخذ الغصة بقية الرجاء.
طه الأب الكبير، يفتش في حاجته الكبيرة عن الأم والشقيقة والصديقة. ويسأل الطبيب من دون كلل مرات ومرات هامساً أما كان من الممكن إنقاذها في الدقائق القليلة التي سبقت وداعها للدنيا . يجيبه الطبيب بثقة ذهبت الى ربها راضية مَرضية بهدوئها ووقارها . يعود طه الى سؤاله مرة جديدة.
ودعت طرابلس الحاجة سعاد بمحبة مرتين، مرة لأنها ذكّرت اهلها بالأم القادرة على ضبط ايقاع عائلي واخلاقي لخمس سيدات ورجلين وما نتج عنهما، ومرة ثانية لأنها قررت الحاج نجيب للسياسة، وتركت لهم أبوة طه، بعد ان عاد الميقاتيون بكبارهم وصغارهم أطفالاً وهم يودعون حاجتهم.