“طوابق” عمرو موسى…

مقالات 15 أكتوبر 2007 0

القاهرة…
يستطيع الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ان يدلي بخمسة أحاديث صحافية قبل سحور ليلة من ليالي العشر الأواخر من رمضان، ثم يحاضر في جمهور من مئات الاشخاص ينصتون إليه باستسلام الراغب في المعرفة، ثم يجلس الى طاولته ليبدأ بتناول القليل من الطعام قبل ان يقاطعه صحافيون يطلبون منه الاجابة عن اسئلة، فيفعل كأنه لم يحاضر طويلاً منذ دقائق ولا تحدث الى زملائهم قبل المحاضرة.
دخوله الى القاعة المليئة برجال الاعمال والمصرفيين والمهتمين بالشأن العام يشعل اضواء الكاميرات ويحرك الميكروفونات باعتباره ينطق ب مفاجأة في كل ما يقوله، حتى لو لم يفعل.
كلمة السر عنده هي اسرائيل. ما ان يأتي على ذكرها حتى يخرج عما هو متداول في النص العربي الرسمي ويسرح ويمرح في الملعب الذي بنى شهرته في زواياه. ما زالت هذه الكلمة تثير المشاعر وتحرك الحديث عن المنسي من الاحتلال الاسرائيلي وتجعل المستمع إليه يرى في كلامه استثناء لما تعوّد سماعه.
أتقن موسى القدرة على البناء والصمود في منطقه، ما جعله الاشهر بين السياسيين العرب الذين يخرجون من السلطة ويثابرون على شهرتهم.
يخرج الكلام من فمه بسلاسة وليونة مع حدة، مستثيرا من يسمعه. اذ ان لكلام عمرو موسى عن اسرائيل وهروبها الدائم من السلام، ميزة خاصة. فهو ابن المؤسسة الاكثر تخصصاً في السلام مع اسرائيل، اي الخارجية المصرية التي امضى فيها 40 سنة من حياته المهنية، قبل ان يعيّن اميناً عاماً للجامعة العربية.
لذلك، فإن كلامه يأتي عن معرفة واختصاص ومن موقع الحق في المواجهة السلمية، وليس على قاعدة اعتماد التطرف وسيلة للحوار.
لا يمكن القول ان هذه الصفات فتحت أبواب الرؤساء والملوك العرب الذين يفترض ان موسى يمثل تفاهمهم. بل حصل العكس. اذ ان الصراحة الحادة المشوبة بقدر كبير من الثقة بالنفس والمعرفة العميقة القادمة من الخارجية المصرية، قللت من الرغبة العربية الرئاسية والملكية بالتفاهم الحميم مع الامين العام الجديد الذي ما زال جديداً برغم مرور 6 سنوات على تسلّمه هذا المنصب.
يتجاهل موسى هذه الوقائع في كلامه وفي حركته، ويتصرف في اجتماعات الجامعة العربية باعتبار انه المسؤول عن التفاهم السياسي العربي، شاء ولاة الامر ذلك أم لا.
يتجاهل الامين العام ايضا، ان جزءاً كبيراً من نجاحه في مهمته يعتمد على دولة المقر، اي مصر: في الوقت الذي تتراوح فيه السياسة الخارجية المصرية في المواضيع العربية، بين الغياب عن الوعي او التحسس من الضجة التي يثيرها الامين العام عندما يتكلم او يتحرك.
عندما طلب مني الصديق شفيق جبر، رئيس منتدى مصر الاقتصادي الدولي المشاركة في ندوة مع الامين العام للجامعة في الاسبوع الماضي في القاهرة، استسهلت الامر، باعتبار ان شهرة عمرو موسى كافية لتوفر مصادر متعددة عنه وعن عمله، الى ان حاولت فاكتشفت العكس.
ليس هناك من قراءة موضوعية لتجربة عمرو موسى في السنوات الست التي امضاها أميناً عاماً للجامعة. من يؤيد سياسته ويعجب بأسلوبه يفعل ذلك بشغف المتحمس بعيداً عن الموضوعية، ومن يختلف معه او يعارضه يقدم على تناول سياسته بالادانة الشخصية والحادة والقاسية من دون الالتفات الى ظروف محيطة تخفف من قسوة الحكم.
اما الامين العام فيساعد الاثنين في احكامهما. يعطي المتحمس من عروبته وحدة مواقفه ما يزيد من الاندفاع دعماً له، ثم يقسو على من يخالفه بأجوبة الممتلئ بنفسه وبتجربته الى حد القدرة على الصدام، متسلحا بما يحمله معه من الخارجية المصرية من القدرة على القرار من خلال تسلمه منصبا تنفيذيا رفيع المستوى في دولة هي الأكبر بين الدول العربية.
***
استطاع موسى ان يملأ دنيا العرب كلاماً واحلاماً، معبّرا عن ازمات الدول العربية، كلا على حدة او مجتمعة. لكنه لم يستطع ان يضع كلامه موضع التنفيذ فبقي الكلام في ارضه كما يقال. لكن لا يبدو عليه انه تراجع.
وضعت امامه الاحداث التي شهدتها ولايته للامانة العامة للجامعة العربية، فإذا بها اشد واقسى من التي عاشها في السنوات العشر من توليه وزارة الخارجية المصرية.
في السنة الاولى نفذت القاعدة الهجوم الإرهابي الاشهر في التاريخ على مبان في مدينة نيويورك، فكان الاستنفار الاميركي والغربي في وجه الاسلام ودول المسلمين.
عُقدت القمة العربية في بيروت، حيث اقرت في المرة الاولى المبادرة العربية للسلام التي قدمها ولي العهد السعودي آنذاك الامير عبد الله بن عبد العزيز، فتجاهلتها الحكومة الاسرائيلية ومعها الادارة الاميركية منذ العام 2002 حتى السنة الحالية.
انعقاد قمة الرياض وتأكيدها على المبادرة السلمية العربية التي لا تزال تراوح مكانها بسبب الموقف الاسرائيلي المتعنت.
حصول الانشقاق الفلسطيني الجغرافي والسياسي، وهو ما يتنبأ به موسى منذ 10 سنوات، فإذا به يتحقق خلال أمانته للجامعة العربية.
التدخل الدولي بوتيرة عالية جدا في لبنان والسودان والعراق وتراجع الدورين العربي والاقليمي.
ازدياد التوتر في العلاقات العراقية الكويتية. الذي لحقه الاحتلال الاميركي للعراق ونتائجه المدمرة على العراقيين.
الخروج العسكري السوري من لبنان والازمة المفتوحة في العلاقات اللبنانية السورية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتواتر الاغتيالات السياسية في لبنان.
التمدد الايراني السياسي والامني في لبنان وسوريا وفلسطين، واتخاذه اشكالاً علنية من التدخل في الشؤون العربية.
لا بد من الاعتراف هنا بأن موسى تبنى المبادرة العربية للسلام وقاتل سياسياً من أجلها، فكانت اسرائيل بالمرصاد له ولمن معه من وزراء الخارجية العرب، تجاهلا ثم رفضا ثم انكارا لاهمية مضمونها. وإن الامين العام زار بغداد منسقا جدول اعمال زيارته مع وزير الخارجية الاميركية كوندليسا رايس كما قال في حديث الى الشرق الأوسط في شهر نيسان الماضي، موضحا ان النقاط الست التي تؤكد على وحدة أراضي العراق والوفاق الوطني والمواطنة واقتسام الثروة وتعديل الدستور وحل الميليشيات، هي اطار العمل الذي لا غنى عنه للخروج من المأزق العراقي.
وتولى المندوب السامي الاميركي في بغداد بالتنسيق مع الحكومة العراقية جعل زيارة موسى الى بغداد سرابا بدلا من ان تكون عنوانا لعودة عربية فعالة الى الساحة العراقية.
كذلك في بيروت ودمشق اللتين زارهما موسى مرتين محاوراً لجميع الاطراف، فإذا بالرؤية الاميركية للحل الغائب تُفشل زيارته الاولى، ثم يتولى النظام السوري والآخرون اسقاط مبادرة موسى في المرة الثانية.
لم يتردد موسى ايضا في شرح مخاطر التدخل الدولي المتمادي في ازمات دول عربية، فإذا بالحكومات المعنية تستدعي مزيدا من التدخل الدولي.
حاول الامين العام مناشداً ومستنجداً منع الانشقاق الفلسطيني، لكن التمدد الايراني السياسي الذي لا يؤكده موسى، وتهافت السلطة، اضافة الى مطامح حماس، كانت اقوى من مناشدته واستنجاده بوطنية الفلسطينيين.
استمع الأمين العام الى الصورة التي رسمتها أمامه لسنواته الست في الأمانة العامة للجامعة دون مقاطعة أو حتى تصحيح، ثم أخذ الكلام سارداً تجربته كمن يقدم تقريراً مع بعض المواقف التي يحاول تمريرها على أنها جزء من السرد وليست اعتراضا عليه.
***
بدأ باعتبار ما قلته مدحا في قالب النقد، وأكمل:
الموقف في المنطقة خطير والمطروح على طاولة المباحثات هو مستقبل الشرق الأوسط ونحن نتعرض لخطط مكتوبة ومقروءة تصل الى حد المطالبة بتغيير الثقافة والفكر.
لقد حاولنا في المبادرة العربية أن نخترق جدار التعنت الإسرائيلي فلم نستطع. لقد أعلنت منذ أسابيع طويلة موت عملية السلام وذلك نتيجة الحرب الإسرائيلية على لبنان والتي أبدت فيها المقاومة بأساً شديداً في وجه إسرائيل. لكننا لا نستطيع أن نوقف الحديث عن السلام رغم أنه ليس هناك من مفاوضات ولا اتصالات جدية ولا اقتراحات.
اجتمعنا في أيار (مايو) الماضي كمجموعة عربية في شرم الشيخ ووضعنا سقفاً لما يمكننا القبول به وهو التالي:
أولاً: لا بد من إطار زمني للمفاوضات لا يتجاوز الشهور الأولى من العام المقبل. إذ ليس هناك في المفاوضات من روزنامة مفتوحة دون قيد أو شرط.
ثانياً: دعوة سوريا الى مؤتمر السلام الدولي بحيث يكون استئناف مفاوضات السلام على كل المسارات وليس المسار الفلسطيني وحده.
ثالثاً: أن تكون الخريطة التي يجري التفاوض عليها ثابتة وليست متغيرة خلال المفاوضات، إذ أنه في الوقت الذي نتحدث فيه عن السلام صادرت إسرائيل 1300 فدان في مدينة القدس (الفدان أربعة آلاف متر مربع). هذا خداع ونصب إسرائيلي لا يمكن أن يساهم في نجاح أي مؤتمر. مهما حاولت وزيرة الخارجية الأميركية فإنها لن تغيّر في الموقف الإسرائيلي الذي يريد خريطة مفتوحة على التغيير وزمناً مفتوحاً للمفاوضات ويشترط حضوراً سعودياً دون أن يعترف بالمبادرة العربية، لن تحصل وزيرة الخارجية الإسرائيلية على صورة المصافحة مع وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل.
أعدنا كمجموعة عربية ما اتفقنا عليه في إفطار العمل في نيويورك اواخر الشهر الماضي مع وزيرة الخارجية الأميركية وأضفنا أن تتضمن المحادثات كل المواضيع الرئيسية في المنطقة. ستجول الوزيرة رايس في المنطقة الأسبوع المقبل (بدءاً من أمس)، إنما لا أتوقع أن تحرز تقدماً جدياً في تنظيم المؤتمر الدولي الموعود في الشهر المقبل.
***
ما هو خيار المنطقة دون سلام. هل هناك غير التطرف؟
يجيب موسى: الأبواب مشرعة أمام كل الاحتمالات. هناك دول عربية تنصرف الى شؤونها الداخلية على أساس أن ما يحدث في الخارج لن يطالها. ستثبت الأيام القليلة المقبلة أن ما يحدث في الخارج هو الأكثر قدرة على الوصول الى الداخل. ومهما حاولت مصر أن تغلق على نفسها فإن الاضطراب الخارجي سيؤثر على سياستها وعلى اقتصادها. وكذلك هي الحال مع أي دولة عربية تعتقد أنها بارتدادها الى الداخل تنقذ سياستها واقتصادها.
ان البحث النووي في منطقة الشرق الأوسط يضعنا أمام منعطف خطير فإيران لن تكون الدولة الأخيرة التي تتجه الى التخصيب النووي لأغراض سلمية أو عسكرية. وعندها ندخل في سباق لا يعرف مداه إلا الله. فضلاً عن أنه كيف يجوز لنا أن نبحث في التخصيب النووي الإيراني ونتجاهل الأسلحة النووية في إسرائيل. حتى يحين أوان المراجعة العربية، الجواب ليس عندي.
لقد ذهبت الى بغداد. ورغم التدهور الشديد للأحوال هناك فلا حل إلا بما قلته في البداية عن البنود الستة. مهما طالت الأزمة ومهما تشعبت سنعود جميعاً وأولنا العراقيون الى هذه البنود الطبيعية في علاقات المواطنة العراقية ووحدة أراضي العراق. حين يعلم العراقيون أن تفاهمهم هو الأمر الوحيد الذي ينهي الاحتلال الأميركي، تكون قد بدأت المسيرة الطويلة لاستعادة العراق لعافيته.
أما أنتم في لبنان فإن لديكم مهلة دستورية تنتهي في 24 تشرين الثاني المقبل (نوفمبر) لانتخاب رئيس للجمهورية. وهذا موعد مهم جدا وعليكم احترامه إذا أردتم السلامة لبلدكم. لقد حاولت الجامعة العربية وغيرها من الجهات العربية وكذلك مسؤولون دوليون يزوركم ثلاثة منهم في الأسبوع المقبل. لكن الأهم أن تكون رغبتكم صادقة في إنجاز الاستحقاق الرئاسي حتى يتحقق، لا يمكن لأحد دون رغبة اللبنانيين، أن يلتزم عنهم المهلة الدستورية أو اختيار الرئيس الجديد. أعود وأكرر هذا الموعد مهم جداً لقدرة الدولة على الاستمرار في الحياة ولو على عياء. لا تستهينوا بهذا الاستحقاق. يمكنكم مناقشة كل العناوين التي تختلفون أو تتفقون عليها إنما بعد إنجاز الاستحقاق الرئاسي. الآن ليس وقت تحقيق أي تقدم في المسائل المختلف عليها أو حتى في العلاقات اللبنانية السورية. ولا حاجة بي للقول إن الاشتباكات الحاصلة في المنطقة والمنتظر تصاعدها لن تساعدكم. بل العكس تماماً هو ما سيحصل. لذلك عليكم المجازفة بتحمّل مسؤولية هذا الاستحقاق انطلاقاً من مبادرة الرئيس نبيه بري التي تشكل قاعدة جدية لمن يريد للاستحقاق الرئاسي أن ينجز.
لا فائدة من تكرار ما حدث في مسعاي الأول أو زيارتي الثانية. من السهل تحميل هذا الطرف أو ذاك مسؤولية الفشل. إنما هذه ليست مهمة الأمين العام للجامعة. أنا أتصرف على قاعدة أنني وضعت أسساً للحل في مناقشاتي مع الأطراف اللبنانية وها هو الرئيس بري يكمل بأسلوبه وبتصوره الأقرب الى الواقع. فنحن في الجامعة ندعم أي مسعى وفاقي خاصة بشأن الاستحقاق الرئاسي .
ينتقل الحديث الى دارفور، حيث تمطر السماء قرارات دولية وحملات سياسية وإنسانية في جميع أنحاء العالم. يقول موسى إن الجامعة العربية سترعى اجتماعاً يعقد في نهاية هذا الشهر في السودان تحضره جميع الأطراف المعنية بالأزمة في محاولة جديدة ومستمرة لإنقاذ مما تبقى في منطقة دارفور أو على الأقل تجميده بدلاً من تجدد هجرة الأهالي. فضلاً عن الدعوة الى مزيد من المساعدات الإنسانية مع اقتراب فصل الشتاء لملايين المهجرين من دارفور الى داخل السودان أو الى خارجه.
دار الأمين العام حول موضوع التمدد الإيراني دون أن يتناوله مباشرة. إذ ان رأيه في هذا الأمر كما في كل المواضيع الأخرى ان السلام في المنطقة هو الميزان الأساسي لسياسات الدول حتى التي تعتبر نفسها خارج الصراع. حين تمسك الدول العربية المعنية بقرارها في الصراع مع إسرائيل، تصبح الأمور الأخرى من التفاصيل التي تعالج بسرعة وبهدوء.
***
هل يمكن اعتبار ما سبق إجابات من وزير الخارجية أم تمنيات من الأمين العام لجامعة الدول العربية؟
يصف عمرو موسى الأزمة اللبنانية بأنها مبنى من أربعة طوابق الأول لبناني، الثاني عربي، الثالث إقليمي، الرابع دولي. وأن اللبنانيين ملزمون بالعودة الى طابقهم حيث يعيشون. لم يأت الأمين العام على سيرة طابق الجامعة العربية إذ إنه لا يزال مصرا على بنائه.