طارقة القلوب الثلاثة

مقالات 22 مايو 2006 0

حاولت كثيراً أن لا أكتب عنها فما استطعت.
عاندت صبري على قلمي فلم يرتدع. شددت على عصبي فكاد أن ينقطع.
هذه حلقة طارقة وليست طارئة تستوجب استئذان أهل النفي الرباعي في تأجيل إكمال روايتهم.
طارقة لأنها أصابت شرايين الدماغ في المكان والزمان والانسان الذي لا أستطيع معه إلا العميق من الوجع.
طارقة لأنها أخذت حبيبتي الأولى لزمن عجز لا أعرف نهايته.
طارقة لأنها أرادت أن تمتحن ما تبقى من قدرتي. صمودي. شجاعتي. فيخيب أمل حبيبتي الأولى مني لو سقطت في الامتحان.
لن يحدث شيء من هذا حتى لو أردت. كلما نظرت الى عينيها راقدة في سريرها أتناول جرعات شجاعة وقدرة وإرادة وصمود لأجلها قبل أي سبب آخر. فتعطيني هي أكثر بكثير مما أحتاج وفوقه ابتسامة لي.
صباح الخير يا دنياي
هل تعلمين كم تسكنينني بحيث لا يبقى لغيركِ مكان؟
هل تعلمين كم شوقي إليكِ لا يترك لغيرك لهفة؟
هل تعتقدين أن دنياي تعرف من غيرك حنان؟
هل تظنين أن لصباحي من غير صورتك ابتسام؟
ألا تعلمين أن فخري من غير هِمّتك يصبح دون عنوان؟
ألا تعلمين أن لبركتك سحر مواجهة قهر الزمان؟
ألا ترين في سريرك عيوننا تبحث فيكِ عن بر الأمان؟
من ذا الذي يتجرأ على رغبات كبار عادوا الى سنواتهم الاولى فيكسر خاطر عمرهم بعد أن عادوا أطفالا؟
من ذا الذي يقدر على الإمساك بضحكتهم شادا عليها، غاضبا منها. مستهينا بها يحوّلها الى حزن لا يتسع له عمق العين ولا شريان القلب كذلك.
كيف يمكن لقليلة الكلام ان تصمت إلا فيما ندر؟ كيف يجوز للسان العفيف أن يلتوي على عفّته؟ كيف ليد العطاء الهادئة أن يصيبها السكون؟ كيف يمكن لرِجلٍ ساعيةٍ في الخير الصامت أن تستكين.
كيف يمكن لكل هذا أن يجتمع على حاجتي الكبيرة. دون سؤال. دون استئذان. دون حرج. دون إبطاء. ألا يعلم مالك الأرض والسماء أنني أحبها وأن قلبي لا يحتمل مزيدا من الحب. ألا يعتبر هذا شفاعة؟
يعطيها الله من صفاء جمالها الكثير وهي راقدة في السرير. نفتش عن فرحتنا بها فتجبر نفسها على ابتسامة نتسابق نحن أولادها على سرقة الحصة الأكبر منها. فلا تقبلها إلا لي.
تتنافس أيدينا على شيبة شعرها المالس كسهول الشتاء البيضاء. الغزير كعاطفتها. الجميل كابتسامتها. الهادئ كقلبها. ننظر الى حاجبي السبعينات من العمر فنجدها معكوفة كالسيف العربي. مرسومة الكثافة والصبا.
كيف تفعلين هذا بي؟ من قال لك انني كبرت ولم أعد بحاجة الى عينيك ترعى طفولتي؟ وانني نضجت وعرفت وفهمت وقدرت دون دعائك. من قال لك ان لصمودي مورداً غير اتساع كتفيك؟ وان لصبري حدوداً خارج راحة يديكِ؟
من يستكثر عليّ أن أفتقد حركتكِ كالطفل المتعمشق بفستان أمه يتعلّم خطواته الأولى؟
كالأكبر من الطفل النائم في حضنك تعدين شعرات رأسه شعرة شعرة. تفرقينها عن بعضها البعض لتطمئني أنها لا تنقص واحدة.
كالشاب التعب سهراً يجد حاجته الكبيرة تسهر الى جانب عشائه. تظهر حين يعود على وجهها الفرحتين. الأولى أنه عاد سالما. الثانية أنه جائع لا ينام.
تحمل همّ الرجل الذي تخوضه معارك الحياة بدلاً من أن يفعل هو. فيجد صلابتها الصامتة إلا من الدعاء تحميه. لا يرى دمعة في عينها تُفسح في المجال أمام نزول دمعه. فينظر الى يدها المرسومة كمساحة جمال. أرى جلدها شفافاً كجناح فراشة سمراء. تظهر شرايينها تنبض بما يكفي لاستمرار الحياة لا أكثر ولا أقل.
تظهر صور عمرها في الشرايين. قهرها. ظلم الحياة. صبرها. قدرها. عاطفتها. جهل ما لا تعرفه. علم ما تجيده. تجربة السنوات الطويلة الرمادية المائلة الى الاغمق.
تظهر صورنا نحن أولادها واحداً واحداً. صغيرنا وكبيرنا نتوزع شرايين اليدين وكأنها حديقة حين حان أوان قطف راحتها جاءتها تجربة لا رد لها إلا من عند الله.
يتوهم واحدنا أنه يمسك بالدنيا في راحتيه. يفتحهما فإذا بالوجع في واحدة وبالتحدي في الاخرى.
من قرر عنها أنها لا تستحق الراحة وهي في السبعين؟ وأن عليها تحمّل التجارب حتى اليوم الأخير من حياتها. من أذِن بمنع الفرح عنها ولو لسنوات العمر الباقيات؟ من أحب أن يمنع عن الذين حولها رغبتهم في إشراقتها؟ هل هذا ما يسمونه عدل الله في تجربة بشره؟ هل هذا ما يقولون عنه انه امتحان الصبر عند الإنسان؟ ماذا يبقى من حياتك بين التجربة والصبر؟
أيام معدودات. ضحكات معدودات. نشوة محدودة. راحة محسوبة. هدوء مؤقت.
لمن أذهب الآن حين تضيق الدنيا عليّ ولا أعرف غير اتساع صدرها مساحة لوجعي؟
ممن أطلب الدعاء حين يجربني الله في ما لا قدرة لي على تحمّله؟ لا يسخر أحد من خمسيني من عمره لا يعرف طعاماً في حياته إلا من يدها..
أصبتها بعين كلماتي حين كتبت عنها منذ أشهر.. كتبت أنها نصيرتي.. صلابتي.. قوتي.. في كلامها خير يوازن كل ألوان الظلم التي تقع عليّ. لا تظهر ضعفها. لا تقول لي عن حاجة تريدها.. تطمئن عليّ بكلمات بسيطة وبدعاء أبسط.
هي اطمئناني مهما حدث. للمرة الأولى أقع في امتحان الاطمئنان عليها. لست وحدي في هذا. كل من وجدته في مركز السيدة التابع لراهبات القلبين الأقدسين يقف الى جانبي في بحثي عن الإطمئنان.
حين أصل إلى المركز في أول المساء.. أسمع صوت الصلاة الرخيم من كنيسة المركز يوزع الخشوع على الطوابق وفي الأروقة وعلى الزوار أيضا. حتى الراهبات اللواتي يستعملن العصا للتنقل لكبرهن في العمر لا يبدو عليهن الاستعجال في الذهاب. ما زال بقدرتهن نصيب من الصلاة يردن إتمامه قبل الراحة الكبرى.
الأخت برناديت الصغيرة الحجم والقامة الكبيرة القدرة والصبر والأفق تجلس على كرسيها منفردة في مدخل الكنيسة كأنها تريد أن تتأكد من أن الصلاة تتم وفق أصولها وأن لا انتقاص من إيمان المصلين.
يظهر الإيمان وحده قادراً على حمل أوجاع المسنين والمرضى. تتوزع طهارة الأدعية في الأروقة مستبقة بريق المكان. ينتشر الذوق أينما نظرت محيطاً وبيئة ومبنى كأنك ذهبت في رحلة الى حيث الجمال هو القاعدة والأساس. أو أنه القاعدة أينما تذهب راهبات القلبين الأقدسين في لبنان وسوريا.
فوق ذلك كله بساطة الرحمن علماً وطبابة وعناية ودقة في المراكز التابعة لهن. تشعر وأنت هناك أن هذا هو المكان لو غدرت بك الأيام وجرّبك الله في ما لا طاقة لك على تحمله. تتحمله عنك الأخت برناديت ريّسة المركز ومساعداتها. ينشرن الفرح حيث الحزن هو القاعدة. يوزعن الاطمئنان حيث القلق هو المقيم. حين ترى ابتسامتهن تتأكد ان الدنيا أبقت لك ما يزيدك صبرا حين تريد خلع جلد صبرك عن جسدك.. حين يحطن بك اهتماما تعلم ان قدرتك أقوى على قهر الأيام.. حين تستقبلك الريّسة برناديت بنبأ طيب عن حاجتك الكبيرة تكون قد أخذت مكانك وأهلك بالرغبة في الخير لبركة دنياك. لا تشعرك الأخت برناديت بأنها تفعل ما ليس بالضرورة أن تفعله.. بل تؤكد لك دون أن تقول بأنها تشعر بما فيك من حرقة على المعرفة ومن رغبة في الاطمئنان ومن صبر نفد قبل أن تسألها السؤال. يا جبّار. يا قهّار. يا رب العباد جميعا كيف تختار من عبيدك بشراً يستطعن حمل جبال القهر والعذاب وتغير الزمان والأحوال وتحفظ لهن ابتسامة التواضع كما فعلت مع الأخت برناديت وشقيقاتها. تحبهن؟ تقدرهن؟ تحنو عليهن؟ تُغدق عليهن العطف والحنان؟.. تضعهن في طريق المحتاج لكل ما أعطيتهن من مكارم وعطف؟ أو تفعل أكثر من ذلك؟ إنها سنّة الحياة.. فلا يقع منا أحد إلا ويجد من يرفعه برحمتك وعطفك وحنانك. فيصبح الوجع قليلا والقهر أقل والعجز رحلة لا تنتهي معها الحياة. فيتوزع الصبر الباسم للراهبات على العاجز والمسن والمصاب ومحبيهم ايضا. حين جاءت الأخت برناديت لترى حبيبتي الأولى مريضتها الجديدة. كنا أخوتي وأنا نحيط بها تساؤلا واستفسارا. نسرق الاطمئنان من ثياب الراهبة فيها. سألتها لمن تتبع رهبنتكم. قالت واثقة للقلبين الأقدسين .. قلت لها صار لي عندكِ ثلاثة قلوب. قلبيكم الأقدسين.. وقلبي.. دنياي.. حاجتي الكبيرة..
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا..
ربنا لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به..
ربنا لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به..
ربنا لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به.
واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا..
صدق الله العظيم..