صناعة الرجال ..

مقالات 19 مارس 2007 0

روى لي وليد جنبلاط حكاية الأمر الأول الذي أعلن فيه مسؤوليته عن أهله وبيئته ومحيطه يوم اغتيل كمال بك منذ ثلاثين عاما.
كنت استكشف خباياه الإنسانية وهي كلها خبايا عن الرابع عشر من شباط يوم اغتيال الشهيد رفيق الحريري، فإذا بالحديث يفتح الأبواب على مصاريعها بين الاغتيال الأول والاغتيال الثاني بدمعة من وليد بك لم أرها قبلاً في عينيه.
ما الذي أيقظ كمال جنبلاط بعد كل هذه السنوات من مقتله إلى هذه الدرجة في ذاكرة البك . تأتي على سيرة والده فيصبح غاضباً. مقهوراً. متهوّراً. مواجهاً كما لا تفعل البشر. شامخاً كدرج المختارة الواقف بحيث يجعلك تشعر وأنت في منتصفه أنك تصعد نحو الأبعد. مخطئاً كما الشباب جميعاً. مخفياً الاطمئنان الذي يبحث عنه الأولاد في حضن أهلهم. يختفي منه السياسي المعلِّق لعلم علمه على النقطة الأعلى من الدور والقصور في العنوان الدائم لآل جنبلاط المختارة . ينطفئ منه المتنوّر ويضيء فيه الثأر بعد دمجه لرفيق الحريري بكمال جنبلاط.
تظهر على الدرج اثار الاقدام. وتزداد انحناءات الحجر نعومة كلما ازدادت حكايا العابرين على هذه الدرجات منذ مئات السنين. لكل درجة حكاية.ولكل انحناءة في الحجر رواية. ولكل عشرات من السنوات شهيد صعد على هذا الدرج مراراً وتكراراً وهو يعلم أنه لا يستطيع ان يخالف قضاءه وقدره.
يتذكر وليد بك انه صعد عدداً من الدرجات المنحنية في السادس عشر من آذار في العام .1977 شيخ العقل المرحوم محمد أبو شقرا سبقه في الوصول. يلتفت الى جثمان والده المكشوف. يطلب ممن حوله ان ينقلوا الجثمان الى المستوصف حيث المكتبة الآن للعمل على اخفاء أثار الرصاصات التي دخلت في الرأس مباشرة. يتابع الصعود نحو الأبعد. إذ ما لغير الأبعد ان يحتضن الأمر الأول لزعيم يتدرّج على انحناءات أحجار منزله حيث يبدأ تاريخ القصر ولا ينتهي.
في السابعة والعشرين من عمره اختار وليد بك مهنة صناعة الرجال وبرع فيها.
لا أدّعي القدرة على تقييم المرحلة التي عاشها كمال جنبلاط سياسياً. ولا الخبرة في العناوين التي اختارها لحياته ما تحقق منها وما لم يتحقق. لكن قراءة بسيطة ومسطّحة لسنوات كمال جنبلاط تترك فيك الأثر والانطباع انه كان دائما رجل تغيير. اعترف بالمتغيرات في العالم الحديث في الوقت الذي انتظر منه الجميع ان يكون إبناً أصيلاً لنادي التقليد السياسي. لم يقبل طائفته حدوداً لحركته السياسية. ولا لبنانه إطاراً لخيال معرفته واتصاله. ولا لغته العربية مصدراً وحيداً لثقافة اشتهر بها حتى كادت تنافس شهرته السياسية.
تمرّد كمال بك على كل القواعد وهو مطمئن الى ان رصيده في طائفته لن ينقُص. فكان حر الاختيار والتصرف في فوائد حركته طالما ان رأسماله لا يتأثر. خاض معارك سياسية كثيرة ورئاسية داخلية تحت عنوان واحد ان لا أحد يستطيع أسره داخل حصته الطائفية الضيقة والمحدودة. خسر مرات وربح مرات. فلم يكن أمامه غير خوض الغمار العربي دفاعاً عن القرار الوطني المستقل للفلسطينيين وللبنانيين فكان نصيبه الشهادة على الطريقة السورية.
تعلّم وليد بك من والده السباحة عكس التيار. لكنه اختار لحياته السياسية عنوانان لم يكن لوالده ان يخوضهما رغم الذاكرة الشعبية التي لا تستطيع الفصل بين الأب وابنه.
خاض حرب الجبل في العام 1983 محطماً تاريخاً عميقا في امتداده بين الموارنة والدروز. ندم بعد ذلك. قال لي مرة لقد كسّرنا البلد نحن والموارنة من دون ان ننتبه للحظة اننا نحطم بلدنا وأنفسنا.
انتصرت تلك الحرب لسوريا في مواجهة المد الإسرائيلي اللبناني. لكن النتيجة الأكيدة لتلك الحرب هي الحفاظ على عروبة لبنان التي ضعفت كلما تأكدت ان دمشق هي حدودها السياسية.
لم يكن لغيره ان يتخذ القرار بالحرب ولو امتلك المشاعر نفسها والمبررات الكافية لضرورتها السياسية.
العنوان الثاني هو استعادة لبنان لسيادة قراره السياسي، بعد 22 سنة من حرب الجبل. أمسك وليد بك بالعلم وتقدم الحركة السياسية التي أوجدت تحالف قوى الرابع عشر من آذار.
دار حول جثمان الشهيد رفيق الحريري بين موقع الانفجار ومستشفى الجامعة الأميركية وقريطم. حين وجده شهيداً صرخ بأعلى عقله. أخرج ما يعرفه من صناعة الرجال . تقدم المشهد السياسي. خرج على كل المحرمات. أنقذ جمهور رفيق الحريري من الإنهيار. أخذه الى النصر ولو لفترة. الى النجاح ولو لخطوة. الى الاطمئنان ولو لبرهة.
ذهب الى قريطم حين دعت الحاجة. داوم في السرايا الكبيرة حين احتدت الأزمة. اجتهد في صيانة ما تحقق بالحدة نفسها التي بدأ فيها اعتراضه الصارخ على اغتيال الشهيد رفيق الحريري. سد الفراغ في الثغرات الكثيرة التي رآها في طريقه ولو بصورة مؤقتة.
يستطيع وليد جنبلاط اليوم في الذكرى الثلاثين لاغتيال والده ودخوله نادي صناعة الرجال القول انه تفوّق على نفسه إن لم يكن بالامكان التأكيد انه تقدم على والده في عنوانه الأول وفي العنوان الثاني من تاريخه، باتخاذه القرار الأصعب حين كان الجميع ينتظر منه ان يتخلى وينسحب نحو الحياة الآمنة.
صورة الأمس بين جنبلاط وبين سعد الحريري توحي وكأنهما يتبادلان أوراق الاعتماد المتبادل في عملية صناعة الرجال .
****

للمرة الأولى يقف سعد الحريري أمام تاريخه السياسي المحدود ومسؤوليته العميقة وغير المحدودة عن الآثار السياسية لاغتيال الشهيد رفيق الحريري. لكنه لا يقف وحيدا. معه جمهوره الذي زاد عن جمهور والده. معه قوى دولية ترى في لبنان ساحة لتحقيق مكاسب سياسية من دون دفع أثمان مباشرة. معه قوى عربية ترى في اغتيال والده خيانة لها وخسارة لسياستها. معه صبره الذي أتى به من الصحراء حيث المقدرة عليه قدراً وواجباً. معه انتماءه الى المدى في النظر والمدد في العدد. معه اسمه الذي يفتح به كل الأبواب. معه حاجة محيطه وبيئته وأهله الى الاستقرار. معه ابتسامته التي اتسعت كثيراً ظهر أول أمس السبت حين رأى لهفة الناس عليه تستقبله تصفيقاً في المطعم الذي اعتاده والده قبله.
للوهلة الأولى تبدو كل هذه الدعائم وكأنها إضافات. غير ان التدقيق في الأمر يؤدي الى الاكتشاف انها مسؤوليات وأعباء. فإن ذهب الى التسوية يأخذهم معه. وإن تجنبها لا يعرف كم يبقى معه منهم والى متى؟
التسوية أيا كانت طبيعتها، تربك الساعي إليها وتجعله فريسة الرهانين. الأول إذا أقدم، والثاني إذا أحجم. لكل قرار ثمن. ولا يطلب الثمن عادة إلا ممن عنده رصيد.
لا تنقص سعد الحريري الأرصدة المعنوية، ولا تنقصه القدرة على الحرص عليها وصيانتها. لذلك لا يبدو الامتحان الذي أمامه هو الأصعب. بل الأدق. من هنا تمهّله وابتكاره واستمراره في الحوار مع الرئيس نبيه بري ممثلاً للمعارضة، الرئيس بري يحرص على ان تكون على طاولته في كل جلسة حوار مفاجأة صادقة تجعل الحريري بعد الجلسة يتأكد أكثر من ضرورة استمرار الحوار.
بينما الكثير من حلفاء الحريري يعتقدون ان ما يُعرض عليهم مناورة سياسية يقصد بها اطمئنان العدو السوري. بينما يرى الآخرون ان العمل السياسي مليء بالمناورات فما الذي ستفعله مناورة إضافية؟
يستمع سعد الحريري للجميع. لا يحتاج لمن ينبّهه الى احتمال الاتفاق مع خصم لا تجده عند التنفيذ. ولا الى حليف يعلن رفضه لشروط لا يفاوض عليها الحريري، من باب الاساءة الى المفاوضات أكثر مما هو حرص على نجاحها ولو بشروط صغار الحلفاء.
ينظر الحريري الى طاولة والده التي يجاورها. بالتأكيد لا يريد ان يعلم ماذا فعل والده الشهيد لو كان مكانه. إذ انها ليست الشهادة التي يريدها سعد. لكنه يريد ان يكون على قدر المسؤولية التي حملها مرغماً من جنازة الشهيد.
يعلم سعد ان المحكمة مسألة وطنية تضع حدوداً صالحة وسليمة لحياة اللبنانيين سياسيين ومواطنين. بينما الحكومة قرار سياسي مؤقت رغم محاذيره. فينخرط أكثر فأكثر في ابتكارات سياسية لا بد ان تضعه في موقع القادر على الوطني من قضاياه والمقرّر في السياسي من همومه.
مرة أخرى. استطاع وليد جنبلاط ان ينقذ جمهور رفيق الحريري في الظرف الأصعب والأسوأ. ونجح الرئيس فؤاد السنيورة بحماية حقوق الدولة التي عمل من أجلها رفيق الحريري في الظرف الصعب. الآن جاء دور سعد الحريري ان يبتكر وحده في صناعة الرجال.
نهاد..