سياسة “الصورة” ..

مقالات 14 مايو 2007 0

في كل مرة قابلتُ فيها الرئيس جاك شيراك، والمرات هنا كثيرة، شعرت بأن في هذا الرجل مزيجا من الرغبات السياسية يحقق بعضها شكلياً دون أن يصل الى عمقها.
ينظر الى ما هو مقبل عليه قبل أن يُنهي ما بين يديه. يصافح الرجل، يلثم يد السيدة، وهو يستعجل بعينيه ما سيفعله بعد ذلك.
جاء إلى بيروت وهو رئيس لبلدية باريس لينزل في دارة الرئيس الحريري في قريطم. صافح الناس الذين اجتمعوا أمام المنزل لملاقاته، مصافحة الراغب بالشعبية من الجمهور. نظر إليهم نظرة الساعي الى أن يكون في ثنايا دوره الجنرال ديغول الذي يحفظ العرب في ذاكرتهم وقوفه الى جانب قضاياهم الوطنية.
حفظ أسماء كل المحيطين به من معاوني الرئيس الشهيد. ينطق بالفرنسية مع من كان فرنكوفونياً منهم، ويتحدث بالإنكليزية بتحفظ واستغراب مع لبنانيين لا يعرفون الفرنسية ومنهم الداعي؟
حين تكون الاجتماعات ضيقة ومع متخصصين في ملفات محددة، يُظهر الرئيس شيراك الجانب الآخر من رغباته العامة، وهو الحديث بتعمّق عن الاستراتيجية الدولية التي ستقود فرنسا عملية تصحيح مسارها، فإذا به يريد أن يتشبّه بالرئيس فرنسوا ميتران، الذي حافظ على شكل امبراطوري لمثقف كبير.
أراد الرئيس شيراك أن يوحي دائماً أنه صاحب الرؤية التي تحتاج الى قليل من السعي والنشاط كي تصبح حقيقة.
بين الصورة الأولى لشعبية الجنرال ديغول والصورة الثانية لثقافة الامبراطور في الرئيس ميتران، أمضى الرئيس شيراك ولايتيه الرئاسيتين متنقلاً على أدراج مقره في الإليزيه ومقرات الاجتماعات الدولية في مختلف أنحاء العالم، محاولاً جمع هاتين الشخصيتين في صورته، فإذا به في الصورة الأخيرة لسياسته الخارجية مع الرئيس نيكولا ساركوزي وسعد الحريري، يؤكد ما سعى إليه دائماً: الرؤية زائدة الشعبية.
يخرج الرئيس شيراك من الإليزيه وهو يعلم أن الزمن الدولي ليس زمن العمق في الرؤية، ولا الاستراتيجية في التخطيط، بل زمن المشاريع المتفرقة، وهو لا تنقصه الخبرة فيها ولا النجاح. كذلك في الشعبية، فهو صاحب تجربة بأن الإعلام هو الجمهور، لذلك تفنّن في زوايا التقاط الصور له أينما تحرك. لذلك، تستحق الصورة التي ظهر فيها زعيم تيار المستقبل سعد الحريري مع الرئيسين الفرنسيين، إلى يمينه الرئيس المغادر للإليزيه جاك شيراك، وإلى يساره الرئيس المقبل نيكولا ساركوزي، حجم المفاجأة الذي حرّكته في وجوه المشاهدين، وتستحق أيضاً حجم الانبهار بهذه اللوحة السياسية الاستثنائية. كما أنه من الطبيعي أن تثير في نفوس الخصوم السياسيين حجماً من الاختناق السياسي، يعبرون عنه في حدة الكلام.
قد تكون المفاجأة مبرّرة، إذ إنها من الصور النادرة في تاريخ البلدين أن يقف زعيم شاب من لبنان ليأخذ صورة حميمة، فيها من الاحتفال الصادق أكثر مما فيها من شكليات الاجتماع مع الرئيسين السابق واللاحق لفرنسا. الانبهار أيضا طبيعي، إذ إن الرئيس المصري حسني مبارك الذي قام بزيارة وداعية للرئيس شيراك في باريس لم يحظ بمثل هذا اللقاء الثلاثي، بل اجتمع بالرئيس ساركوزي في مكتبه الحزبي. صحيح أن المقابلة تمت قبل الانتخابات الرئاسية، لكن الشكل الذي أخذته لا يمكن أن يدرج على المستوى نفسه من التأييد السياسي الذي ظهر في صورة اللقاء الثلاثي في قصر الإليزيه.
أما اعتبار اللقاء بأنه ثمرة علاقة عائلية للرئيس شيراك بآل الحريري، فهو تجاهل لحقائق سياسية كبيرة أراد الرئيس شيراك تظهيرها من خلال هذه الصورة.
إذ إن اللقاء السياسي بامتياز، يُراد منه التأكيد على أن السياسة التي اتبعها الرئيس شيراك منذ اغتيال الرئيس الحريري، هي سياسة فرنسية وليست سياسة شخصية تنتهي برحيل صاحبها عن الإليزيه. وأي قراءة أخرى تتجاهل هذا الجانب تكون مجافية للحقيقة.
ما حدث في قصر الإليزيه في الأسبوع الماضي، هو قرار سياسي واضح اتخذه الرئيس الجديد وليس الرئيس المغادر، بأنه سيتابع العمل على نفس الأسس للسياسة الخارجية التي نفذها سلَفه، على الأقل في الموضوع اللبناني، باعتبار أن لبنان لا يزال المدخل الأول للفرنكوفونية الى العالم العربي، والذي لا غنى لفرنسا عنه.
أهم ما في هذه السياسة أنها تؤكد دائماً على استقلالية القرار الفرنسي. وهي صورة نجح الرئيس شيراك في تثبيتها طوال سنوات رئاسية. حين قررت الإدارة الأميركية تحرير العراق من استقراره منذ ثلاث سنوات تزعم الرئيس شيراك جبهة الرافضين لهذه السياسة، ولو لفترة قصيرة، فإذا به قبل خروجه من الإليزيه يرى ومعه الكثيرون في العالم أنه كان على حق في اعتراضه على الاحتلال الأميركي الذي لم يحقق غير الدمار والخراب للعراق.
بإمكانه أيضاً أن يقول إنه صاحب خبرة استثنائية في الصيغة اللبنانية، كما أنه صاحب معرفة دقيقة بطبيعة النظام السوري الجديد القديم، وعلاقاته اللبنانية.
لذلك، أراد طمأنة الخصوم قبل المؤيدين لسياسته، بأن هناك ثوابت لن تتغيّر بغيابه، أولها وأهمها أن النظام اللبناني لن يُترك لمصير غامض تتحكّم به أهواء إقليمية.
الصورة التي يبدو فيها الرئيس ساركوزي يميل نحو الحريري لأخذ حصته من الكاميرا، والضحكة التي تتسع على وجه الحريري بينما يشبك يديه مع الرئيسين، هي ضحكة الاطمئنان. أما الرعاية التي يظهرها الرئيس شيراك مبتسماً بيديه وعينيه، فهي رعاية السياسة التي تؤكدها هذه الصورة.
أنا سعد بن رفيق الحريري أؤكد رغبة بلادي وحاجتها إلى محكمة دولية تنعقد تحت لواء الفصل السابع من نظام الأمم المتحدة .
هذا هو العنوان السياسي الذي خرج به سعد الحريري من اجتماع الإليزية. مبتسماً، مطمئناً، الى أن في جعبته أكثر مما أراد. هو أراد المحكمة، فإذا به يحصل على الصورة الثلاثية أيضاً.