سوريا قتلت الحريري سياسياً… (1-2)

مقابلات مكتوبة 12 مايو 2005 0

بيروت – حازم الأمين، الحياة

طوال سنوات خلت، لم يشأ نهاد المشنوق وهو أحد أقرب معاوني الرئيس الراحل رفيق الحريري الحديث على رغم ما في جعبته، مما يمكن ان يقال. فهو كان منذ العام 1989 وحتى العام 1998 في «غرفة أسرار» الحريري، قبل ان يقصيه السوريون عن منصبه عندما ضغطوا على الرئيس الحريري، فحمل حقيبته وسافر الى باريس ثم عاد بعد ثلاث سنوات بقي خلالها صديقاً للرئيس ولكن…
يقول المشنوق انه لم يشأ في حياة الرئيس الحريري ان يتحدث لما قد يسببه كلامه من احراج له. أما بعد استشهاده ففضل ان يبقى خلال الاشهر الثلاثة الماضية صامتاً على رغم ما عاناه في صحته. فقد سمع ان نجلي الحريري سعد الدين وبهاء الدين تعرضا لتهديدات دفعتهما للسفر، وكلامه قد يضاعف من المخاطر. اليوم قرر نهاد المشنوق ان يتحدث، فكشف محاضر العلاقة بين الرئيس الحريري والنظام في سورية، وقدم رواية وقراءة للأحداث التي شكلت سياقاً سياسياً وأمنياً لعملية الاغتيال، فروى الوقائع التي تجمعت والتي اعتبرها نصاباً سياسياً لقرار الاغتيال.
– ما هو في رأيك تاريخ تأزم العلاقة بين الرئيس الحريري والسوريين؟
في الحقيقة الرئيس الحريري والسوريون كانوا دائماً على خلاف. بعد ثلاثة أشهر من تكليفه عام 1992 بدأ الخلاف حول أمور سياسية وادارية وتنظيمية في لبنان. نظرته للأمور وطريقة تعاطيه معها، وعلاقته بالسياسيين المرتبطين بالنظام السوري او بالأمن السوري. كان هناك مشكل دائم بينه وبين النظام السوري، او دعني أقول توتر دائم بعض الاحيان يصل الى مشكلة وبعض الاحيان يُحل سريعاً. أذكر انه في المرة الاولى دخل الرئيس الحريري الى مجلس النواب ولديه خطة محددة وشعر بأنه يريد سلطات استثنائية تشريعية، وانه لا يستطيع ان ينزل في كل شاردة وواردة الى مجلس النواب. طبعاً كان واضحاً انه لا يستطيع الحصول على هذه الصلاحيات في لبنان. فذهبنا الى الشام حيث التقى (نائب الرئيس عبدالحليم) خدام و(رئيس الاركان حكمت) الشهابي، وبعدها كان على موعد مع الرئيس حافظ الاسد، وكانت النتيجة واضحة، وهي ان لا صلاحيات استثنائية، ولكن وعود بأن تتم مساعدته على تمرير ما يطلبه في مجلس النواب. لم تكن مفاجأة. هناك مشكلة جدية بين اسلوبين في التفكير لا يعبر عنها «ابو جمال» بالضرورة. الصداقة مع خدام لم تكن صورة العلاقة مع سورية.

– لماذا لم يتمكن الرئيس الحريري من اقامة علاقة مع جيل المسؤولين السوريين الجدد؟
انا اعتقد بأن سورية اغلقت ابوابها تماماً وسياسياً امام الرئيس الحريري بعد انتخابات العام 2000 وحتى استشهاده. هذا التصعيد بدأ عام 1996 واستمر في 1997 وانتهى سنة 1998 بسماعه اعتذاره على الراديو عن تشكيل الحكومة وخروجه لمدة سنتين من السلطة. وهذا التصعيد استمر حتى العام 2000، وبعد الانتخابات أُغلقت ابواب دمشق نهائياً في وجه رفيق الحريري.كانت هناك صلة طبعاً، ولكن كان هناك اقفال سياسي. صلة لضرورات العمل ولليوميات ولكن استراتيجياً اقفلت، والاسباب واضحة، فعلاقة الحريري بالسوريين كانت عبر نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام ورئيس الاركان (الشهابي)، رئيس اركان الجيش استقال بعد رفضه مسألة الوراثة ورفض رئاسة الحكومة، ونائب الرئيس السوري اصبح مبعداً عن كل الملفات وعن ملف لبنان في شكل خاص. والاهم ان المصفاة الرئيسية للسياسة السورية – اللبنانية وهو الرئيس حافظ الاسد توفي، كل هذه العناصر اقفلت الباب تماماً. يذهب (الحريري) الى الشام ويلتقي مسؤولين سوريين ويرى الرئيس الاسد ويعود، لكنه كان يعلم ان كل الطاقم الحاكم في السياسة الخارجية والامن والاستخبارات وفي الرئاسة ليسوا اصدقاءه.
– لماذا؟
ينظرون اليه نظرة قديمة، وليس كما يقال بسبب علاقته بأبو جمال وبالشهابي. انا مقتنع وسامع ومتابع انهم ينظرون اليه نظرة تخوينية، ويعتقدون بأنه احدى الايدي الاميركية في لبنان، ومع الوقت اصبح في رأيهم احدى الايادي الاميركية في المنطقة. هذا الفريق في سورية على هذا المنوال منذ العام 1992، وهم تكرسوا بعد مجيء الرئيس الجديد، وانتصروا في لبنان عبر اميل لحود، ولم ينسوا ان الرئيس الحريري تسبب في العام 1995 بابعاد الرئيس لحود والتمديد للرئيس الهراوي.
كان الرئيس الحريري يشعر دائماً انه موضوع من قبل المسؤولين الامنيين السوريين في خانة التآمر، وهذه مشكلة لا حل لها، وحاول بكل الطرق.

– أنت كنت اقرب شخص للرئيس الحريري، وقريب ايضاً من ملف علاقته بالسوريين، فهل كنت ترى ان العلاقة بينهم سائرة الى التدهور؟
أنا لم أكن افهم كيف قبلوا به رئيساً للحكومة! وهذا ما كنت اقوله له. رجل بهذا الحجم وهذه الاتصالات وهذه القدرة، فكيف يقبلون به رئيس حكومة في لبنان.
انا كنت على صلة بأقرب الناس من بشار الاسد في لبنان. لم يكن الامر صدفة، انا كنت دائماً احاول تنظيم علاقة الرئيس الحريري مع اصدقاء بشار الاسد في لبنان، مع طلال ارسلان وسليمان فرنجية. في وقت لم يتمكن الرئيس الحريري من اقامة علاقة مع الدكتور بشار لأسباب عدة أهمها عدم رغبة أبو جمال بذلك. اقمنا علاقة مع اصدقائه في لبنان. الامر لم يعط نتيجة طبعاً لكننا حاولنا.
– هناك سياق سياسي ادى الى اغتيال الرئيس الحريري. فهل في رأيك ان تأزم علاقته بالسوريين هو ما ادى الى مواجهته هذا المصير؟
انا افضل ان أراها بطريقة اخرى. افضل ان اعود الى النشأة السياسية للرئيس الحريري، كيف تحول عام 1982 من مقاول كبير الحجم في السعودية الى رئيس حكومة لبنان عام 1992، هذا حدث وفق نشأة وتدرج معينين ولم يحصل بشكل مفاجئ. الرئيس الحريري عندما رأى على التلفزيون الفلسطينيين يغادرون مرفأ بيروت، قال: «الآن بدأ العمل». وفعلاً بدأ يتواصل مع لبنان بوسائل مختلفة. التعليم من جهة، وبدأ يتعاطى بموضوع تنظيف الاسواق والخرائط والمساعدات الطبية والصحية، لم يترك لبنانياً يتعاطى في الشأن العام الا وقابله وسمع منه، وكان يزور لبنان في اوقات صعبة، وحضر مؤتمر جنيف ومؤتمر لوزان ضمن الوفد السعودي. كان هذا بمثابة تدرج وفق مخطط شخصي. وطبعاً شارك الرئيس الحريري بالاتفاق الثلاثي بين حبيقة وبري وجنبلاط وشكل له هذا الامر إحراجاً لدى السنّة الذين لم يكونوا مرتاحين لهذا الاتفاق.
تعرّف الى عبدالحليم خدام في ذلك الوقت وأنشأ معه علاقة خاصة وسياسية واستمع منه الى مخابئ السياسة اللبنانية ولم يبقي على شيء الا وفعله. وكان يلازمه في ذلك الحين في شكل دائم السفير جوني عبدو الذي كان في سويسرا ولاحقاً في باريس، ولعبدو خبرة كبيرة في المسألة اللبنانية. تدرج الحريري وصولاً الى الطائف. وكان ما كان، وكانت الفكرة عنه انه وسيط سياسي سعودي.الى ان اصبح واضحاً بعد اتفاق الطائف ان رؤساء الحكومات قد استنفدوا. أعتقد بأن الرئيس الاسد قال في ذلك الوقت ان هذه المرحلة انتهت ويجب ان تبدأ مرحلة اخرى في لبنان، وكان ذلك جزءاً من تفاهم مع السعوديين. والرئيس الحريري هو التسوية.
دخل الرئيس الحريري الى الحياة السياسية وكان يتوقع ان يجد اتفاق الطائف أمامه، فوجد ان ما يحكم البلد هو الاتفاق الثلاثي وليس اتفاق الطائف. في تلك الفترة كان الاتفاق الثلاثي هو المعادلة وليس اتفاق الطائف. وبدأ يتعاطى مع هذا الواقع بروح عملية وليس برفض كامل. من 1992 الى 1996 وهو يحاول جاهداً كي ينتقل من الاتفاق الثلاثي الى الطائف. وكنا نناقش هذا الامر معه ونقول له ان الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة للتغيير. واجه من دون نتيجة، وكان واضحاً ان هناك ملعبين ممنوع عليه دخولهما، وهما مجلس النواب والجيش، وكلما كان يحاول الدخول الى واحد من هذين الملعبين كانت تحصل ازمة في البلاد. ففي ذلك الوقت كان بدأ التحضير لمجيء العماد اميل لحود الى رئاسة الجمهورية.
سنة 1996 دخل المجلس الذي كان محرماً عليه، ولكن كيف، بعد ان مُدد للرئيس الهراوي، فقد انتصر الحريري في التمديد. خاض اول معركة كبرى منذ دخوله بالتمديد للياس الهراوي مخالفاً بذلك مجموعة كبيرة من المسؤولين السوريين ومخالفاً بذلك رأي الجيش الذي كان مؤسسة سياسية في ذلك الحين من الدرجة الاولى. كان الجيش يتعاطى بكل تفاصيل الحياة السياسية اليومية، عبر جهاز الاستخبارات ومديرية التوجيه. ودخل في صراع علني وبخطابات دفاعاً عما سميناه في حينها الحياة المدنية والنظام المدني.
انتهت هذه المعركة بانتصار له في التمديد. في ذلك الحين فعلاً تم تهشيم النظام المدني من اوله الى آخره عبر القيادة السياسية للجيش. حملة شعواء لا يمكن تصورها، وقبلها بقليل وفي العام 1993 تم تطويق وزارة المال من قبل الجيش بسبب ملف يتعلق بسيارات الضباط، وفي الليل جاء مدير المخابرات ونائبه العقيد جميل السيد وبكل صراحة قالوا للرئيس الحريري ان ما حصل (تطويق الوزارة) هو خطأ مقصود، وقد جاءوا بعد تدخل السوريين. كان واضحاً اننا كنا امام مؤسسة سياسية وليس مؤسسة عسكرية، وكنا على اشتباك يومي معها. ووصلت الامور الى انهم اصدروا بياناً باسم مديرية التوجيه يقول: “ان المدعو نهاد المشنوق هو الذي سرب خبراً يتعلق بضباط في الدرك…”. ووصلت الحدة الى تدخلهم بالأمور الشخصية ومتابعتهم لمسائل تتعدى التنصت على الهاتف. كان واضحاً انه ربح معركة التمديد، ولكن ايضاً كان واضحاً انه اسس لأزمة كبرى بينه وبين المؤسسة العسكرية والمجموعة المحيطة بالرئيس بشار الاسد.
وفي فترة التمديد كلفني الرئيس الحريري بعقد اجتماع مع قائد الجيش في حينها العماد لحود. اجريت معه تسعة اجتماعات، وتركز النقاش حول مسألة ان التوقيت الآن غير مناسب لوصولك الى رئاسة الجمهورية، وان هذه الفترة تقتضي هذا التمديد الذي نسعى له وانه لا يجوز لهذا التمديد اذا حدث ان يكون مؤسساً لعلاقة سيئة معك. وكان وزير الدفاع في حينه الوزير محسن دلول الذي شارك ببعض هذه اللقاءات. فحسم الموضوع في ذلك الحين الرئيس حافظ الاسد، وهو من حسم التمديد. وبعد التمديد اصبحت أمامنا منظومة كبرى من الاجهزة الامنية والسياسية اللبنانية والسورية.
خاض الرئيس الحريري الانتخابات سنة 1996 ونجح نجاحاً باهراً وساير عبر تركه مقاعد فارغة، وخلال هذه الفترة كان نسج شبكة علاقات داخلية متواضعة وقوية جداً في الخارج ووضع مخططاً لتوسيع علاقاته الدولية. فرنسا والسعودية وسورية ومصر كانت تحصيل حاصل، وانما امتد في ذلك الحين الى الفاتيكان وعزز ايضاً علاقاته الاميركية وكانت لديه قدرة اقناع كبيرة. ولكن هذه الشبكة في الوقت نفسه زادت من ازماته في الداخل ومع سورية. كل رحلة ناجحة في الخارج تتبع بحملة وأزمة داخلية كبرى. الى حد انه وعندما نكون عائدين في الطائرة صرنا دائماً نسأل في نوع المشكلة التي تنتظرنا في بيروت. وتابع الرئيس الحريري بناء علاقاته الدولية، مع الرئيس خاتمي في ايران وهلموت كول في المانيا، ووصلت علاقاته الى البرازيل التي كان يسأله رئيسها أن ينصحه في مستقبل أسعار الاسهم في البرازيل.
توسعت علاقته الى حد انها اصبحت ازمة مستمرة لا تتوقف، وهو أراد في ذلك الوقت خوض المزيد من الصراع. وهنا راح يسأل اين الطائف؟ صراع شبه أسبوعي مع الرئيس الياس الهراوي على جدول اعمال مجلس الوزراء. الأزمات مع الرئيس الهراوي لا تقل عن ازماته مع الرئيس لحود ولكن الفارق ان الهراوي مدني ولحود عسكري. دائماً رئيس الجمهورية منتصر بالسوريين على رفيق الحريري. ودائماً ما انتصر رئيس مجلس النواب نبيه بري بالسوريين ايضاً على الحريري.
بدأت تكثر شعبيته في لبنان وفي الدرجة الاولى في الاوساط السنية. وقرر الدخول في القتال في مجلس النواب. صراع في المجلس حول جميع مشاريع الحكومة والقروض والقوانين، والغالبية كانت متحالفة مع المجموعة الامنية السياسية. في التعيينات مشكلة مع المجموعة الامنية السياسية، وكذلك في القرار السياسي هناك مشكلة مع المجموعة الامنية السياسية، وأيضاً في القرار المالي. وفي كل مرة كان هناك شخص اسمه الرئيس حافظ الاسد يجري تسوية للأمور. بعد العام 1996 بدأت الامور تأخذ شكلها النهائي. وبدأ الصراع يشتد وهو يزداد شعبية وعلاقات دولية، وفي تلك الفترة صار زعيماً من زعماء المنطقة.
انتقل الى مجلس النواب، صار الاشتباك مزدوجاً، بصفته النيابية، وبصفته رئيس حكومة، وكبر الاشتباك، وطلع الكلام ان هذا النظام مجلسي وليس نظاماً ديموقراطياً. وكان الحريري حقق في تلك الفترة انتشاراً سنياً كبيراً، وهو لم يكن يرغب كثيراً هذا الموقع. كان يتضايق كثيراً من انتشاره السني الذي لا حدود له. وكان اقرب وزراء اليه باسم السبع المقاتل الدائم وغازي العريضي وفريد مكاري الأنيق الدائم، وثلاثتهم ليسوا من السنّة.
– في اي وقت شعر الرئيس الحريري بضرورة استقلال لبنان؟
سنة 1996 قام بعملية اتفاق نيسان (ابريل) دفاعاً عن المقاومة. شرَّع المقاومة. وبعد مداولات وزيارات لسورية، فهم من الرئيس الاسد في المناقشة انه يجب تجاهل القرار الرقم 425. فطلب مني ألا آتي على ذكر هذا القرار في أي من خطاباته او كلماته.
انا اعتقد بأنه انتعش فيه في ذلك الحين مفهوم الاستقلال. لن أعود الى البدايات ولكنه كثيراً ما حاول ان يتفادى حضور اعياد الاستقلال. وكان يعتبر ان لبنان دولة غير مستقلة. في بداية مجيئه بقي لسنتين لا يحضر اعياد الاستقلال، ولاحقاً سافر في سنتين اخريين.
السنّة في لبنان أهل دولة واذا لم يكن لديهم نص يذهبون الى الشريعة. شخصية رفيق الحريري السياسية لا يمكن اختصارها الا باتفاق الطائف الذي يعبر في رأيه عن مسألة قيام الدولة. كان يناقش ويبحث في هذا الامر في شكل شبه يومي ومستمر لمدة عشر سنوات. ولكن كان واضحاً ان حماة الاتفاق الثلاثي يفتشون عن مصالحهم وليس عن الدولة. كان يعتقد بأن اتفاق الطائف هو الوسيلة لتدبير كل شيء وعلى رأسها الاستقلال والعلاقات مع سورية. بعد العام 1996 تغير. لم يتغير بمعنى انه اصبح استقلالياً وانما اصبح ممارساً لهذا الامر في شكل او بآخر، لأنه كان يرى ان البلد سائر الى المجهول من دون ضوابط. هذا الامر تمثل في المجيء بنظام امني سياسي عسكري الى البلد. طبعاً هذا لا يعني انه استطاع تغيير القرار، اذ من الواضح انه لم يعد له احد في الشام والجو السياسي الداخلي موبوء، ولم يعد امامه من خيارات، فسلم بمسألة انتخاب العماد لحود رئيساً للجمهورية، وصارت الازمة الشهيرة التي خرج على اساسها.
في ذلك الوقت قرر ان يحقق فوزاً كبيراً في الانتخابات. لم يترك وسيلة من الوسائل لم يستعملها، استغلال الفترة الانتقالية، وتحييد كبار الامنيين، لم يترك شيئاً لم يفعله، في ذلك الوقت كان واضحاً ان الناس متجاوبون معه بطريقة غير طبيعية. بدأ عمله في آخر 1998 وبقي سنة ونصف السنة يعمل يومياً وكأن الانتخابات غداً. وحقق هذا النجاح الكبير. وللمرة الأولى مدينة مثل بيروت تسلم قيادتها لشخص واحد.
توفي الرئيس الاسد وتسلم الدكتور بشار وبدأ النزاع الحقيقي، وأغلقت ابواب دمشق نهائياً في وجهه وصار يرى الرئيس الاسد في فترات متباعدة وفي أحاديث لا يتخللها الكثير من الود.
شبك تحالفات داخلية قوية مع وليد جنبلاط وغيره، إضافة الى شبكة علاقات دولية هائلة، وصار حجمه كبيراً، وفي رأيي انه في تلك اللحظة اكتمل النصاب السياسي لقتله.
لم يعد من الممكن تجاهله او تجاوزه ولم يعد من الممكن القيام بخطوات من دونه، اذاً يجب ازاحته. وجاء قانون محاسبة سوريا الذي ترجم الى القرار الرقم 1559، بما لا يدع مجالاً للشك ان المنطقة صارت محاصرةومطوقة، وفيها شخص واحد حر اسمه رفيق الحريري، من بغداد الى عمان الى سورية ولبنان. صار يهتم بكتابة الدستور الفلسطيني، ويجتمع مع اياد علاوي، ويتعاطى في التشكيلة العراقية، وصديق حميم للملك الأردني عبدالله الثاني، فلم يعد في الامكان احتماله.
– ما الذي حصل في سورية وجعل من الرئيس الحريري هدفاً للسياسة السورية في لبنان؟
انا أعتقد بأنه اذا كان لا بد من الكلام عن طبيعة النظام السوري التي نشأت في العام 2000، فلا بد من التأكيد ان الرئيس بشار الاسد وصل على حصان ابيض، ليس بسبب تسلمه السلطة، وانما بسبب تقبل المجتمع الدولي له باعتباره صورة حديثة عن سورية التي امضت وقتاً طويلاً في تراتبية سلطوية دائمة لم تتغير. وفي البداية ظهر ان لديه ميول تحديث، ورغبة بالتغيير وتفهماً لحاجات المجتمع الدولي واعترافاً مطلقاً بالشرعية الدولية. وكان معه في الوقت نفسه إرث والده الذي يمكن تقسيمه جزأين، الجزء الاول هو ثقل نظام عمره 30 سنة والجزء الثاني هو القيم والثوابت.
الذي ظهر بعد سنتين من حكم الدكتور بشار انه امسك ارث الوالد من دون اي تعديل. كان واضحاً ان ليس لديه الافق الدولي والنظرة الدقيقة لتغيرات العالم التي كانت متوافرة لوالده طوال 30 عاماً. ظهر ارتباك كبير في السياسة الخارجية مثلاً، وظهر ان هناك لغتين تتحدث بهما الخارجية السورية.
على الصعيد الداخلي وفي البداية ظهر وكأن هناك انفراجاً في سوريا. ففتحت المنتديات الثقافية وأتيح لبعض المعارضين الكلام، ولكن فجأة صدر قرار باغلاق كل هذه المنتديات، وتم بعدها اعتقال نائبين منتخبين.اعتقد بأن الرئيس بشار وبدل ان يتخلى عن اثقال والده وان يحتفظ بقيمه فعل العكس اذ احتفظ بالأثقال وتخلى عن القيم ما عدا مسألة تحرير الجولان ولكن بالطريقة التي يعرفها.
في فترة الانفتاح السياسي في البداية، شكل الامن في سورية اول طوق على حركة الرئيس الاسد تحت شعار ان الامن سيد الاحكام. وبعد فترة تدخَّل سوسلوف حزب البعث عبدالحليم خدام وبدأ ينظر الى مسألة الاعتقالات وكأنها طبيعية، ونسي انه وأولاده كانوا لفترة ليست بعيدة معرضين للاعتقال. وانطلقت نظرية تماسك الحزب في وجه الرأي العام وليس لاقناع الرأي العام. انا تقديري انه عندها وضع الطوق الثاني حول الرئيس بشار وهو الطوق الحزبي، اذ أقنعوه بأنه لا أمان من دون الطوق الامني اولاً والطوق الحزبي ثانياً فيبقى الشعب السوري خارجهما، فاختار الاسد الأمن العام بدلاً من الرأي العام.
طوقان في الداخل وقراءة خاطئة للتطورات في العالم، فكان طبيعياً ان جزءاً من هذه السياسة لبنان، كما كان طبيعياً ان تصاب علاقتهم السياسية بلبنان بتدهور. وأصبحوا يعتقدون بأن في امكانهم فعل ما يريدون. ويقول الدكتور اياد علاوي عندما كان في بيروت انه اتصل بالرئيس الاسد قبل التمديد الاخير للرئيس لحود وقال له ان الاميركيين غير موافقين اطلاقاً على مسألة التمديد، وبعد جدل قال له علاوي ان اصراركم على التمديد اشبه بانتحار سياسي، فرد الاسد حرفياً: «انتحار سياسي مع تمديد افضل من انتحار سياسي من دون تمديد». الرئيس حافظ الاسد كانت لديه ميزة انه في اصعب الاوقات لا يقفل كل الابواب، فانتقلنا الى سياسة اخرى معاكسة تماماً. فعدم التمديد لم يكن رضوخاً للضغوط الاميركية وانما اعترافاً بالشرعية الدولية التي نشأت، وفي الواقع.
أنا معلوماتي انه عندما جاء وزير الخارجية الاميركي كولن باول عام 2003 الى سورية وقابل الرئيس الاسد وأجرى معه محادثات حول مسائل عدة منها المفاوضات العربية – الاسرائيلية ومنها لبنان ومنها مكاتب «حماس» و»الجهاد الاسلامي» في دمشق، ومنها العراق، يؤكد الجانب الاميركي انه تم الاتفاق على نقاط محددة منها الانسحاب من لبنان ما عدا البقاع قبل نهاية العام 2003.
وطبعاً هذا الامر لم يتم، ولم يتم الالتزام بمعظم بنود التفاهم. وبعدها اقتربنا من موضوع محاسبة سورية، وبعدها وصلنا الى القرار الرقم 1559. ثم جاء ارميتاج وبعده وليام برنز، وكان الرد السوري ان ما حصل في الجلسة هو استماع وليس اتفاق، ففقد الاميركيون صوابهم، فهم بحوزتهم محضر الاجتماع.
هذه هي المقدمات الفعلية لانهيار العلاقة بين النظامين اللبناني والسوري والتي سنشهد فصولاً اخرى منها.
– في رأيك من قتل الرئيس رفيق الحريري؟
جنائياً لا أعلم، ولكن اعتقد بأن المسؤول سياسياً عن قتل الرئيس الحريري هو سورية. ولكن اعتقد ايضاً بأن قتل الرئيس الحريري جزء من مخطط كبير للمنطقة، وليس جزءاً من العلاقات السورية – اللبنانية. وأعتقد بأن قتله هو محاولة لاخلاء الساحة السنية من زعامة بهذا الحجم تمتد من بغداد الى دمشق مروراً بالاردن ووصولاً الى لبنان. ما مكّن قيام ما سماه الملك عبدالله الثاني الحلف الشيعي في المنطقة بوجود شخص بحيوية وقدرة وزعامة رفيق الحريري. والشيعية هنا كلمة سياسية وليست كلمة دينية. في السياسة هناك اجماع محلي ودولي على المسؤولية السياسة للنظام السوري عن مقتل الرئيس رفيق الحريري. خصوصاً ان ذلك سبقه محاولة قتل أمير الاعتدال في لبنان مروان حمادة. وسبق ذلك صاروخان انذار اطلقا على تلفزيون «المستقبل» قبل اكثر من سنة من عملية الاغتيال.وعلى كل حال الرواية التي نُقلت عما قيل في الاجتماع الذي جرى بين الرئيس بشار الاسد والرئيس الحريري قبل التمديد، عزز هذا الانطباع. ولكن ما هو غير معروف انه حصل اجتماع بينه وبين الرئيس الاسد في كانون الاول (ديسمبر) العام 2003، وكان هذا الاجتماع أسوأ من الاجتماع الاخير بكثير، لأن الضباط المعنيين بالملف اللبناني حضروا هذا الاجتماع، أي اللواء غازي كنعان والعميد رستم غزالة والعميد خلوف. كان هذا الاجتماع أسوأ اجتماع عقده الرئيس الحريري في حياته، ومع ذلك كان صبوراً.
– ماذا حصل في هذا الاجتماع؟
حصل فيه جدال سيئ وتخللته كلمات نابية، وكانت هناك مضبطة اتهام طويلة ووهمية، ومنها ان هناك مسؤولاً اميركياً وصل من طريق مطار بيروت وقابله سراً من اجل التحضير لقرارات. وطبعاً كانوا يتكلمون عن مساعد وزير الخارجية الاميركي الذي من المستحيل ان يصل الى بيروت على هذا النحو. والامر الثاني انه عندما كان في عمان طلب من الملك عبدالله ان يتوسط مع الاسرائيليين لعدم اتمام مبادلة الاسرى في الوقت الذي كان فيه الرئيس الحريري يجري اجتماعات مكثفة مع الأمين العام لـ»حزب الله»، وهو كان في عمان لمسألة تتعلق بمساهمته في البنك العربي. وثالثاً ورابعاً وخامساً… ومع ذلك صبر الرئيس الحريري ولم يتحدث ابداً عن هذا الاجتماع وانتظر الضباط حتى خرجوا وسألهم أين يمكننا ان نكمل حديثنا؟… فتوجهوا الى منزل كنعان وأصبح الكلام هادئاً اكثر… ولكن ما جرى كان قد جرى.
– ما الذي دفعك للاعتقاد بأن اغتيال الحريري هو استهداف لشخصية سنية اولاً؟
اعتقد انه منذ 25 الى 30 منه، السنّة في لبنان مستهدفون، وعندما تعود الى التاريخ صار عملياً مقتول خمسة رؤساء حكومات سنة، اولاً رياض الصلح الى صائب سلام الذي نفي سنوات طويلة وعاد وتوفي بيروت، الى تقي الدين الصلح الذي غادر مرغماً بيروت وتوفي في باريس، الى رشيد كرامي الذي اغتيل في الطائرة وصولاً الى رفيق الحريــــري، وقتل ايضاً زعيم سني كبير هو المفتي حسن خـــالد.
السنّة يعانون من مشكلة عربية، ففي الوقت الذي يعتقدون بأنهم هم عروبة لبنان، في الوقت نفسه اي خلاف عربي يقع عليهم. بعد مقتل الرئيس الحريري امتصهم السعوديون والمصريون، وبعد جهود الأمير عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس حسني مبارك، بدا ان هناك احتضاناً لمصابهم، ولكن المطلوب هو استمرار هذا الاحتضان. السنّة في لبنان هم أهل اعتدال في السياسة. هذه الحال السنية المسالمة والمعتدلة لم تتمكن من ان توجد نسيجاً من الحماية الطبيعية مع أي وضع عربي. علماً ان السعوديين لعبوا دوراً كبيراً في هذا السياق، ولكن المطلوب يتعدى الاحتضان. حتى على مستوى المؤسسات، فمؤسسة المقاصد وضعها المالي حالياً يرثى له، ولا من يهتم، فبعد وفاة صائب سلام تدهورت الامور في المؤسسة. وغيرها من المؤسسات التعليمية والاجتماعية. لا اعتقد بأن عائلة الحريري وسعد الدين الحريري سيتخلون عن هذه المهمة، ولكن قدرة الاشخاص لا يمكن ان تكون منتظمة وملتزمة بالطريقة نفسها التي يمكن ان تقوم بها دول لرعاية هذه المؤسسات الحاضنة للاعتدال والمنتجة لمسلمين معتدلين في كل المجالات.