“سنيورة” المفاوضة أو المقاومة؟

مقالات 12 يونيو 2006 0

عاد الرئيس “الحرّيف” نبيه بري من دمشق قبل ثلاثة أسابيع. فرحاً. مطمئناً. مقبلاً على شرح ما بين يديه من معطيات جديدة في العلاقات اللبنانية السورية لكل اللبنانيين، يطمئنهم الى أن أبواب دمشق مفتوحة لرئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة.
صدّقه اللبنانيون فقد رأوا قبل ذلك بأسابيع مقاعد طاولة الحوار تمتلئ بالمتحاورين، بعد أن ظنوا أن الطاولة التي عرضت صورتها على شاشة التلفزيون ستبقى فارغة رغم تغطيتها بما يناسبها واصطفاف الكراسي من حولها.
يقول الرئيس بري إنه لم يشاور أحداً قبل اتخاذه قرار الحوار. والأرجح أن هذا صحيح. إذ اكتفى بالحس السياسي الذي يقول بأن العلاقات السياسية بين الأطراف اللبنانية وصلت الى طريق مسدود.
الحس السياسي نفسه أخذ بالرئيس بري الى دمشق. شعر بأن الوقت مناسب “لسرقة” قرار ولو جزئيا من منظومة قرارات سياسية للقيادة السورية جعلت من نفسها أي المنظومة سداً منيعاً في وجه الانفتاح المبدئي بين بيروت ودمشق.
نأى بنفسه عن إلزام أحد بزيارته أو بنتائجها. هو رئيس المجلس النيابي الذي يتمثل فيه كل اللبنانيين باعتراف الانتخابات “الخطيئة” عفواً الأخيرة. هو الأول بين متقدمين على طاولة الحوار وله حق الإدارة والاستنارة والاستشارة حين يرى الآخرون لذلك ضرورة. صديق لسعد الحريري ولوالده الشهيد من قبل. لا يتخلى عن وده لوليد جنبلاط مهما عظمت الرسائل بين الأخير وحليف بري الانتخابي والسياسي أي “حزب الله”.
من بيده صورة المحايد على طاولة حوار من هذا المستوى ويتركها؟
يخبّئ في جيب سترته الداخلي “والعلم عند الله” صيغة عن الاستراتيجية الدفاعية للبنان التي يدعو إليها “حزب الله” تاركاً للآخرين أن يضعوا اقتراحاتهم في عهدته.
يذهب الى مصر لمقابلة الرئيس حسني مبارك ليعود وفي جيبه الأخرى كماً من المشاورات ونوعاً من استنهاض دور عربي ترعاه مصر في العلاقات اللبنانية السورية. لم يكن الرئيس المصري متحمساً له أو راغباً فيه حتى زيارة الرئيس بري.
نعود الى زيارة دمشق. وصل الرئيس بري إلى منزله بعد أن تلقى مكالمة من سعد الحريري وهو في طريق العودة بواسطة هاتف مجاوره في الرحلة وفي السيارة، النائب علي حسن خليل. طمأن سعد الى أن الأمور تسير نحو الهدوء وسيكلمه لاحقاً.
الاتصال الأول من منزله مع رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة ليبلغه بفرحة واثقة أنه أخذ موافقة شخصية من الرئيس بشار الأسد على زيارته الى دمشق مستعملاً كل نظرياته السياسية المغلّفة بطرائف توجع أكثر مما تُضحك.
يرد الرئيس السنيورة على الهاتف من طائرة آل الحريري التي يستعملها للعودة من لندن ويبلغ الرئيس بري أنه عائد من لندن مع “ساعات الفجر الأولى” وإن شاء الله خير.
لا يقبل الرئيس بري بوصف “البرودة” للاتصال إلا بعد أن وصل الرئيس السنيورة إلى بيروت وبقي أياماً لا يتصل ولا يطلب موعداً للتشاور في ما حققه رئيس المجلس في العاصمة السورية.
بعد تدخل من السيدة بهية الحريري العضو المميز في كتلة الرئيس بري، تمّ الاجتماع بين الرئيسين بحضورها على غداء أقامه رئيس المجلس في منزله.
تردد الرئيس السنيورة في تحديد الموعد. إذ ان لديه التزامات ومواعيد خارجية بينما الرئيس بري يخيّره بين الاثنين أو الأربعاء من الأسبوع الذي يلي الغداء.
بقي الموعد مائعاً الى أن تبيّن أن الرئيس السنيورة ينتظر صدور قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1680 حتى لا يبدو في حال إتمام الزيارة في المواعيد المقترحة أن لا مشكلة في العلاقات بين البلدين يناقشها المجلس ويصدر بشأنها القرار.
لا يمكن اعتبار خطوة الرئيس السنيورة ذكية أو رابحة عند مراجعة مضمون القرار. فهو يدعو سوريا الى ترسيم الحدود بين البلدين وإقامة علاقات دبلوماسية وهو ما أقر بالإجماع على طاولة الحوار. لا آلية تنفيذ. لا آلية متابعة. نصيحة دولية مجانية يأخذها من يريدها.
النتيجة الأولى مزيد من التأزم الصامت بين البلدين، مع ما يعني ذلك من أضرار تضاف الى سابقاتها، أو لحس المبرد على الوجهين على حد تعبير الرئيس بري.
النتيجة الثانية هي إغلاق باب دمشق أمام أي زيارة محتملة لرئيس الوزراء رغم تأكيد رئيس المجلس من القاهرة بأن الأبواب ما زالت مفتوحة.
يؤكد مصدر دبلوماسي عربي أن القيادة السورية اتخذت قراراً بعدم التفاوض مع الرئيس السنيورة في أي بند من بنود العلاقات بين البلدين وأن على من ينتظر قرارات مجلس الأمن الدولي لتنظيم العلاقات اللبنانية السورية أن يبقى في حالة الانتظار ويتحمّل مسؤولية ذلك تجاه مواطنيه.
فؤاد السنيورة سُمّي رئيساً للوزراء على قاعدة أنه رجل وسطي. معتدل. عاقل. لا يتهوّر في مواقفه. غير شعبي كما حال وزراء المال في دول العالم. قادر على الحوار مع الجميع. غير مسيّس. رافق الرئيس الحريري رحمه الله في العمل المصرفي الخاص منذ العام 1982. ثم لازمه في الوزارات التي شكلها وزيراً للدولة للشؤون المالية ثم وزيراً للمال. يتمتع بثقة دولية لقراءاته للمشاكل الاقتصادية في لبنان وحلولها. يستعمل تعابيرَ اقتصادية في وصفه للأحوال السياسية.
تحمّل سعد الحريري مسؤولية تسميته مخالفاً بذلك رأي أهل بيته لأنه رأى فيه الشخص القادر على التفاوض على الأبواب التي لا قدرة له معنوياً على ولوجها. إذ انه أي الحريري وليّ الدم رغم موافقته على الفصل بين التحقيق الدولي في اغتيال والده وبين العلاقات اللبنانية السورية.
بدأ الرئيس السنيورة مفاوضاً. ثم انتقل الى المشاكسة. ووصل الى إعلان نفسه مقاوماً على طريقته في الحوار الداخلي وصولاً الى الحوار مع القيادة السياسية السورية.
كانت المحطة الأولى في إنكار وجود المبادرة العربية. وإذا كان لهذا الموقف إجماع من سمير جعجع ووليد جنبلاط وسعد الحريري فإن للسنيورة وظيفة أخرى يتمنع عن ممارستها دعماً لموقف أميركي عبّر عنه السفير فيلتمان خير تعبير والذي وصف السنيورة مؤخراً بأنه يقوم “بأداء جيد”.
المحطة الثانية جاءت من الرياض حيث وضعت ورقة عمل بين سعد الحريري وممثلي حركة “أمل” و”حزب الله”. فإذا به يقول إن الحريري يمثل كتلة المستقبل فقط لا غير ولا يلزم اتفاقه القوى الأخرى.
المحطة الثالثة في القمة العربية في الخرطوم. اعتقد الرئيس السنيورة خلال لقاء مع الملك عبد الله في السعودية أنه يشجعه على المشاركة في القمة. ولم تنفع شروحات السفير السعودي في بيروت لكلام مليكه بأنه قصد المشاركة في وفد موحد وليس منفرداً. ذهب الى العاصمة السودانية محاولاً فرض نص يتعلق بالمقاومة في لبنان مخالف لما اقترحه رئيس الجمهورية. فإذا بالقمة تعتمد نص الرئيس لحود وهو نص معتمد في قرارات القمم السابقة فتزيد الأزمات اللبنانية أزمة جديدة.
المحطة الرابعة كانت زيارة واشنطن برفقة زوجته ووفد وزاري بعد عشرة أيام على زيارة سعد الحريري الى العاصمة الأميركية ومقابلته كبار المسؤولين وعلى رأسهم الرئيس بوش.
طغت على الزيارة احتفالية مبالغ بها دون تحقيق نتائج سياسية جدية وجديدة. إلا إذا اعتبرنا سؤال الرئيس بوش للسنيورة على طاولة الغداء عن تصوره للعلاقات الأميركية الإيرانية هو الجديد. أكمل السنيورة زيارته بحديث الى “سي ان ان” يشرح فيه “فضائل” المخابرات السورية على اللبنانيين.
كتبت له قبل أن يسافر مقالاً تحت عنوان “الدفتردار” شرحت فيه مصاعب العمل مع الرئيس الحريري “إذ ان وراء الأبواب المفتوحة له ثقة واحتراماً امتحاناً يخطئ فيه المرء أو يصيب دون أن يعلم بوجود امتحان في الأساس”. افترضت أنه يعلم بذلك أكثر مني. فإذا به يقع في الخطأ الذي لا حل له. ألا يقرأ أو أنه لا يهتم؟
ألم يلاحظ أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك الصديق الأعز للشهيد الحريري لم يستقبله بعد؟
المحطة الخامسة هي “الخطاب المفاجئ” الذي ألقاه الرئيس السنيورة أمام مجلس الأمن الدولي في نيويورك. لم يقتصر الأمر على حضور الجلسة بل وتحويلها الى علنية وخطابية. استذكر البعض لاحقاً، في حضرة هذا “الخطاب المفاجئ”، ما كان يردده الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عندما كان يعاتَب من القيادة السعودية عن لقاءاته بالزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف والكلام الحار الذي كان يتخللها. كان عرفات يجيب السعوديين: “كنت جالساً أنا والمترجم مع وزير الخارجية غروميكو. “فجأة” دخل علينا بريجنيف في الكرملين، أعمل إيه يا أخوانّا. ما كلموش؟!”.
ذهب رئيس الحكومة الى لندن لاحقاً ليؤكد من هناك أن الشهيد الحريري أبلغه بتهديدات تلقاها من الرئيس الأسد.
دخلت الوساطات المحلية والعربية لتعيد وصل ما انقطع بين الحريري والسنيورة فاجتمعا لساعات طوال أول أمس في قريطم بعد “نجاح” اتصال هاتفي جرى بينهما.
قد تكون الحقيقة في كل ما قال الرئيس السنيورة. وقد يكون الصواب في كل ما فعل على صعوبة ذلك. وبالتأكيد ان أخطاء السياسة السورية تجاه لبنان ترجح صواب ما يقول. ولكن هل هذا هو الدور الذي جاء من أجله الى رئاسة الوزراء؟
هل المطلوب مقاوم في سدة التفاوض؟ ما هي الصفة التي يمكن إطلاقها على وليد جنبلاط وسعد الحريري إذا قرر أن صفة المقاوم أربح له شعبياً من صفة المفاوض؟
أوساط وزارية لبنانية على صلة بدمشق تقول إن الرئيس الأسد سمع تعبير “العبد المأمور” من الرئيس السنيورة خلال لقائهما الأول والأخير فاستعملها الأسد أسوأ استعمال. وحتى لو افترضنا أن هذه الرواية غير صحيحة فإن لمن يقبل لنفسه صفة المفاوض مع دمشق أن يتوقع مسبقاً ما نصح به وزير الخارجية الأميركي الأسبق من أن الكرامة والمهانة ليستا من مفردات التفاوض.
قد يقول قائل إن هذا ما ألزمه به حلفاؤه من سياسات. وقد يقول آخر إنه لا يرى في سد الأبواب أمام المجتمع الدولي الممثل بسفراء دوله في بيروت سياسة ناجحة يقدر لبنان على تحمّل تبعاتها.
إلا أن الإبقاء على دوره كمفاوض يساعد حلفاءه ويدعم قدرته على التفاوض الدولي. هذا إذا كان هناك من حظ له على خط بيروت دمشق.
لا يعني هذا إمكانية التغيير الوزاري. فمصاعب التغيير أكثر بكثير من الإبقاء على الحكومة الحالية. إذ ان التقرير الثاني لرئيس اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري يتحدث عن تعاون سوري بشكل مرض مع اللجنة.
ستعود القيادة السياسية السورية الآن الى سقف مطلبها الأول والأخير والحقيقي، أي إجراء انتخابات نيابية مبكرة تفترض أن في نتائجها ما يصحح الوضع الحالي. إذ انها لا تقبل بقيام نظام معاد لها على حدودها أياً كان ثمن ذلك. وعلى من يعتقد بأن في نهاية عهد الرئيس لحود حلاً لمأزقه أن ينتظر الفراغ فلا انتخابات رئاسية مع هذا المجلس الذي لا تتمتع فيه الأغلبية بأكثرية الثلثين الملازمة لنصاب انتخابات رئاسة الجمهورية.
وليد بك على عادة هوائياته اللاقطة استبق نتائج التقرير بالعودة الى التهديد والوعيد والإدانة للنظام السوري.
ولكن من يفاوض من الآن؟ إذا فرغت جيوب الرئيس بري؟ الجواب عند سنيورة الدولة المقاوم.