سنة “صعبة” يا أبا بهاء..

مقالات 31 أكتوبر 2005 0

هل قدرُ الذين تفتح لهم ابواب الدنيا مشرّعة أمام حوارهم، عقلهم، حكمتهم أن يُقتلوا؟
هل نصيب من يرى المستقبل بعينيه مستكشفاً حاجات الناس لأيامهم الصعبة، يخطط لها، يسهر من أجلها الليالي، يبتكر، يستمع الى الجماعة، يقرّر، يسعى لتنفيذ قراراته، يقاتل من أجل حاجات الناس، هل نصيبه الغدر؟
هل يستأهل من عرُضت أكتافه لتتسع الدنيا، إقداما، تخطيطا، عقلنة، خطأ، تسرّعاً، ثم هدوءا ابتسامة، اعترافاً بالخطأ، هجوماً نحو التصحيح، هل يستأهل الغياب الطويل، الطويل؟
هل كُتب على أهل السنّة كلما ظهر بينهم كبير يحفظ كرامتهم، يعزز جماعتهم، يظهّر عروبتهم الحقيقية المختبئة منذ ان ظهرت جماعة “الأمن فوق كل اعتبار” على أملاكهم وأرزاقهم تنشر الخوف أينما حلّوا، تزرع أخطاء العروبة التي تحملها من أجهزتها وليس من بلادها. عاصمتهم تحمل العروبة على أكتاف أهلها أصولاً وفروعاً. كذلك مدنهم وقراهم. إلا ان لهذه الاجهزة كتابا خاصا عن العروبة. كل حرف فيه خطأ. كل كلمة فيه خطيئة.
هل كُتب على أهل السّنة ان يحملوا جثمان كبيرهم، عزيزهم، رمز فخرهم، كل عشر سنوات ليواروه الثرى. أولهم رياض الصلح، آخرهم رفيق الحريري، وبينهما ما يكفي من العدد والعدّة، والجنازات تشيّع أحسن من فيهم؟
هل تحمل الذاكرة كل هذه الرموز ولا تنفجر؟ سلماً أم حرباً. لا يهم. الانفجار أكيد ولو كانت وصية مَن شيّعوه غير ذلك.
يصادف اليوم الأول من تشرين الثاني نوفمبر عيد ميلاد آخر شهداء أهل السنّة. أكبر شهداء الجماعة في لبنان، رفيق الحريري.
ماذا يُقال له في مثل هذا اليوم؟ لو خيّرته بين كثير من الاحتمالات لوجدت أول ما يهمّه هو ما حدث في بلاده منذ تسعة أشهر وحتى اليوم. أليس سؤال “شو الأخبار” هو لازمة كلامه مع الجميع؟
تعيش البلاد بين تقريرين. لا تنتهي من الأول حتى تبدأ في الثاني، نقاشاً، انتقاداً، تفصيلاً، معاداة، محاباة.
التقرير الأول صدر عن لجنة التحقيق الدولية المكلفة بالتحقيق في عملية الاغتيال في الرابع عشر من شباط. الثاني صدر عن تيري رود لارسن المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المكلّف بمتابعة تنفيذ القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي والذي يتناول كل الملفات الساخنة في الوضع اللبناني.
وجد اللبنانيون ضالتهم في التقريرين لكي يزيدوا من حدة نقاشهم. ومن حدة أحكامهم المستعجلة. العجلة سببها أنهم يريدون ان يروا الضوء في آخر النفق الذي يعيشون فيه منذ سنوات طوال. وصلت حدة النقاش وتنوّع الآراء الى حد فاقت فيه ما يحصل في مجلس الأمن الدولي حيث ولد القراران: “1595” الذي ينص على تكليف لجنة التحقيق القيام بمهامها في كشف حقيقة اغتيال الرئيس الحريري، “1559” الذي يقرر خروج الجيش السوري ومخابراته من لبنان وقد حصل ذلك ونزع سلاح الميليشيات على الارض اللبنانية، وهو ما لم يبدأ حتى الآن.
التقرير الأول اتهم أجهزة الأمن السورية واللبنانية بتنفيذ عملية الاغتيال بعد مقدمة سياسية عن تاريخ لبنان وأزماته.
ترك رئيس اللجنة القاضي ديتليف ميليس الكثير من الحقائق والأدلّة في أدراج مكتبه، لحكمة في عقله، لتقنية في طريقة تحقيقه؟ لكنه بدا واثقاً مما يقوله او يكتبه. وبدا متأكداً ايضاً من حاجته الى الوقت لإكمال ما بدأه. مجلس الأمن الدولي مدّد مهمة اللجنة حتى الخامس عشر من كانون الاول المقبل “ديسمبر”. لكن الشهرين القادمين لا يبدوان كافيين لإتمام ما يريده اللبنانيون من معرفة الحقيقة.
تركت مسألة التمديد اللاحقة تقرر في حينها.
كبار القضاة اللبنانيين الموثوقين يبدون تقديرهم لما قدّمه القاضي ميليس من معلومات على أوراق تقريره، ويتفهّمون ايضاً حاجته الى الوقت. كبيرهم متأكد من إدانة مَن سُمّي حتى الآن مشتبهاً فيه. ويقول إن الآتي من الاسماء مفاجئ أكثر من الذي ذكر اسمه او اعتُقل حتى الآن. جمهور كبير من اللبنانيين. أكبر مما يعتقد أحد يثق بعمل اللجنة. بالبديهة وليس عن خبرة او معرفة.
الاتهامات التي طالت التقرير نصّت على أنه مسيّس جمهور المؤيدين أيضاً تبنّاه لنتائجه السياسية وليس لمضمونه الجنائي.
أصبح القاضي ميليس شخصية عامة في سوريا، إذ ان التظاهرات المنظمة التي خرجت في شوارع دمشق وحلب حملت صوره تنديداً بتقريره وبالاتهامات التي تضمّنها للأجهزة السورية.
هذا في الشارع أما في موقع القرار. فالرئيس المصري حسني مبارك يمسك بميزان العقل والابتعاد عن الفوضى ويدير يوماً بيوم العلاقة السورية مع الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. يتأكد قبل ذلك من نسبة العقلنة في الإدارة السورية لهذه الأزمة. يذهب مرة الى دمشق. يذهب إليه الرئيس بشار الأسد مرة أخرى.
حتى الآن يمكن القول إن الإدارة المصرية نجحت في نزع فتيل الانفجار تحت شعار أن سوريا ليست ملزمة ولا مكلّفة بمواجهة المجتمع الدولي. وان السياسة هي فن القدرة على الاستجابة دون ادعاء ودون انفعال ايضاً.
لذلك قرّر الرئيس الأسد تشكيل لجنة قضائية مهمتها التنسيق مع لجنة التحقيق الدولية ومع القضاء اللبناني في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. لذلك دخل تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في دهاليز التسوية داخل مجلس الأمن الدولي. وهو ما ينطبق أيضاً على قرار مجلس الأمن الذي سيصدر بحق سوريا متجاهلا الحدّة الأميركية التي عبّر عنها الرئيس بوش ووزيرة خارجيته، إنما لوقت محدّد ومحدود.
الرئيس الأسد يعلم أن إيران ومصر والسعودية وإسرائيل لا تريد للفوضى أن تعمّ في سوريا. كل منها لسبب. مصر والسعودية يكفيهما ما يحدث في العراق. ايران حليف استراتيجي. اسرائيل لا تضمن التطورات السورية في حال الفوضى.
لذلك ينقل عنه من يقابله من اصدقائه أنه يبدأ حديثه متوتراً على طريقة »الفوضى عليّ وعلى أعدائي يا رب« ويُنهي الجلسة هادئاً يتحسّب لكل خطوة يقوم بها. ويقول: “لن أسلّم أحداً دون أدلة ملموسة وجدّية ونهائية. لن أرسل أحداً للتحقيق معه خارج سوريا. لا أرى لذلك مبرراً. عرضنا على لجنة التحقيق كل التسهيلات. هم أرادوا مكاناً قريباً من الحدود اللبنانية. عرضنا عليهم ان تعتبر المنطقة تابعة للأمم المتحدة. يحرسها جنود من عندهم. لم يردّوا. خرجوا من التحقيقات ليعترضوا على حضور من حضر مع الشهود. لماذا لم يطلبوا منهم مغادرة الغرف التي يحققون فيها. هذا قرار سياسي وليس تفصيلاً في التحقيق، تجاهلوا الاعتراض عليه حتى خرجوا من الفندق”.
السعودية ما زالت على عتبها. تتمهّل في حركتها الى حد الجمود. تسمع من الجانب المصري. تبارك ما يفعله وتدعو له بالتوفيق. لكن قيادتها لا تثق بالنتائج. تترك للأيام ان تثبت عكس ظنونها. وافقت أخيراً ومؤخراً على زيارة نائب وزير الخارجية السوري السفير وليد المعلم الى المملكة. لن يسمع إلا دعماً للمسعى المصري والدعاء بالحكمة.
التقرير الثاني لتيري رود لارسن عن تطورات تطبيق القرار 1559 تداخل مع تقرير لبناني قدّمه نصاً وحدّة وانتقاداً السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله. وبدل أن يحظى تقرير لارسن بمناقشة دولية تحوّل الى مادة في النقاش اللبناني كما هي العادة.
حصل ذلك في يوم القدس العالمي وبعد اجتماع مشترك مع حركة “أمل” التي يرأسها الرئيس نبيه بري. لم يأخذ السيد نصرالله في الحسبان جمهور رفيق الحريري. أكد على خياراته الاستراتيجية في سوريا وفي ايران متجاهلاً حسابات الداخل الذي مهما ضعُف يبقى هو الأقوى لمن يريد السلم لا الحرب. سلاح “حزب الله” في الداخل مثل الأكثرية النيابية وهم لا أحد يستطيع استعماله ولا تسديد ما يترتّب عليه من جراء التفكير في ذلك.
يدعم الحزب سوريا وايران في حربهما لكن سلمه يأخذه من الأرض التي يعيش عليها. هذه الأرض لا تعتبر تقرير ميليس “ذريعة لمعاقبة سوريا على جريمة لم يثبت تورطها بها حتى الآن والعقاب على خياراتها الاستراتيجية والسياسية” كما جاء على لسان السيد نصرالله حتى لو أُضيف إليها رفض سعد الحريري فرض العقوبات على سوريا. إلا إذا تحوّل جمهور رفيق الحريري إلى قضاة عدليين.
الدفاع عن سوريا بالمطلق دون ذكر إخطائها في لبنان لا يخدم الارض التي يمشي عليها “حزب الله” ولا يرعى شبابها المقاومين في وجه إسرائيل.
تبنّي السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها أيضاً ليس خياراً لبنانياً. كذلك الاعتراض على محاصرة الجيش اللبناني لمواقع فلسطينية في البقاع. أليس هذا هو الجيش نفسه الذي نسّق وعمل مع المقاومة على نجاحها في تحرير الأرض المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي؟ لبنانية مزارع شبعا مسألة معقدة سورياً ودولياً. مع ذلك حقق اللبنانيون الذين يناشدهم السيد نصرالله لهذا الخيار اللبناني شبه إجماع. لا سوريا ساعدتهم على ذلك، وليس منتظراً من مجلس الأمن الدولي أن يفعل ذلك.
هناك كلام جدّي عن دور لحزب الله في إنهاء وجود السلاح والأنفاق الفلسطينية خارج المخيمات بالحوار. وقيل بالإلزام والله أعلم. لكن هذا لم يظهر في التقرير لا تلميحاً ولا تصريحاً.
لاقاه في ذلك رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة بالدعوة الى الحوار والحرص على السلم الأهلي، وبعدم الموافقة على الصدام مع الشرعية الدولية على الإطلاق. التوافق هو سيد الكلام عند الرئيس السنيورة. لكنه توافق على الحق وليس على الاعتداء ولو كان سياسياً.
تلاقيا في مكان آخر من التقرير وهو دعوة السيد نصرالله الجامعة العربية ومصر والسعودية إلى تحمّل مسؤولياتها بدلاً من الوقوف جانباً وترك لبنان والمنطقة للسيد الأميركي.
هل حان وقت التدخّل العربي؟
وليد بك يُمسِك بالصاعق الداخلي بين يديه. لا يتركه أبداً. يهاتف سعد الحريري. يطمئن معجباً على السيدة بهية. يجتمع بالسيد نصرالله. لكنه لا يطمئن. يتكلم قليلاً وقليلاً جداً. يعترض على اجتزاء شهادته في تقرير ميليس. يحتار ماذا يفعل في “الحاجز السياسي الشيعي” ويتساءل ماذا يفعل “بالحاجز العددي” عند العماد ميشال عون الذي يقول: إما أنا رئيس للجمهورية أو فلتتمتعوا بالعماد لحود سنتين أخريين.
ينتظر “البك” الدور العربي، لكنه يعرف أن وقته لم يأتِ بعد. فيزداد قلقه. كيف يمكن التوفيق بين استعراض القوة السياسي في يوم القدس على جمهور لا ينتهي، موزّع في المدن والأطراف والقرى، يقول بجدية ما ورد في التقريرين ويدعم بالمطلق جهود لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس الحريري سابقاً ولاحقاً. حتى لو كان في تقرير لارسن ما يحتاج إلى تدقيق وتحقيق وتصحيح يقوم به مَن يعرف التركيبة اللبنانية.
لا أحد يملك الجواب..
اليوم الأول من تشرين الثاني نوفمبر تغيب الحفلة الصغيرة التي كانت تُقام في قريطم الصغير الجميل. تغيب الحفلة الكبيرة في قريطم الصغير الجميل. تشرف السيدة نازك على ضيوفها. أولهم وأغلاهم زوجها صاحب العيد. يتولى سعد الفرح يشيعه بين الحاضرين.
هذه السنة ينتقل المحتفلون سنوياً الى الضريح. يقولون له: سنة صعبة يا أبا بهاء.