سمير عطالله كتب في “النهار”: “كي لا يسمع سوى صوته”

اخترت لكم 01 يونيو 2016 0

في أمور كثيرة يذكرني دونالد ترامب بالزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف، على رغم فوارق الذكاء، أو النشأة، أو التعبئة الايديولوجية. سواء أحببته أم نفرت منه، كنت مرغماً على متابعته. وكلما قلت في نفسك إنك لن تهتم بالمشهد الصاخب الذي هو في قلبه، عدت فتذكرت أن المسألة ليست الرجل، بل الموقع. لم يتردد خروشوف في خلع حذائه والتلويح به في قاعة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وما دام أعلن أنه راع وعامل منجم سابق، فلم يتردد في استخدام لغة المناجم لتقريع خصومه، ولا تردد في استخدام لهجة الرعاة مع القطيع، ولا ترك رئيس دولة من دون تأنيب، من ديغول إلى كينيدي. ولكن في نظام مثل النظام السوفياتي، كانت هناك دوما “حكومة خفيّة” ترسم الضوابط والحدود على حافات الكوارث والاصطدامات. وسرعان ما دفع خروشوف ثمن خبطة الحذاء، وأرسل إلى عالم اللاشيء و اللا أحد. أما إذا اصبح ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فماذا يمنع ألا يجرّها إلى حرب احتلال سادية كما فعل جورج دبليو في العراق؟
لقد تعودنا أن نصف كل مرحلة دقيقة نمر بها بأنها “أخطر المراحل”. الذي يدفعنا إلى ذلك هو الخوف من المعلوم، لا من المجهول. والنظام الديموقراطي العالمي يمر مع ترامب في محنة غير مألوفة. ليس بسببه وحده، بل بسبب المزاج الشعبي الاميركي الذي بات مستعداً لانتخاب أيٍ كان رئيساً للدولة، وقائداً أعلى للقوات المسلحة، وحاملاً لمفاتيح القوة النووية.
أسوأ: يبدو أن الاميركيين يستمتعون بالخطاب العقيم وتطيب لهم البذاءات التي يتلفظ بها، أو يرسمها بايماءات اصبعه على طريقة مارسيل مارسو! هكذا كان يفعل خروشوف أيضاً.
لقد التقط ترامب، بحواسه الغريزية، وليس طبعاً بنباهته، المناخ العام: غياب القضايا الكبرى والنخبويين الكبار، وقرر أن يلعب على أوتار العقم البشري. ولن تكون سابقة اطلاقاً أن يؤدّي النظام الديموقراطي إلى وصول طاغية من طغاة الخواء الاستبدادي. الشعوب لا تستفيق إلا متأخرة، وبعد فوات الأوان. الديموقراطية في حاجة إلى أناس ديموقراطيين. أكثر من حرص عليها كان بطل الحرب العالمية الثانية العسكري ايزنهاور. الطبع اكثر أهمية من التنشئة. وفي لبنان، كان أكثر من حفظ اصولها جنرال آخر، ذهب في الترفع والنزاهة والإنفة، ما لم يبلغه مدني.
تقف المسائل عند حافة الكارثة، أو في قلبها، عندما تختلط الشهوة الجامحة بالطبع الرديء. لم يحترم ترامب وحدة حزبه، ولا وحدة وطنه، في زحفه على الرئاسة. ولم يتردد في عرض اللقاء على كيم الحفيد في كوريا الشمالية، حيث سلوى العطلة الاسبوعية الغولف والصواريخ الباليستية. لكن الرفض جاء من الفتى المنهمك في اشياء اكثر أهمية: قنبلة نووية تحرق مليون إنسان، ثم نقيم لهم لوحة تذكارية نرفدها بالأكاليل.
تعثر افلاطون في شرح الديموقراطية: ألم تؤد هي إلى قتل معلمه سقراط؟ لقد صمدت الديموقراطية الاميركية أكثر من قرنين. وعندما جاء إلى هنا سيغموند فرويد، تكهّن بأن هذه الدولة لن تعيش. ولكن ماذا سيحدث إذا سُلّمت الديموقراطية والدولة إلى الرجل الذي يخوض معركته على اخبار العشق عند بيل كلينتون و “تواطؤ” زوجته في الأمر؟ ما هي هذه الحرية التي تسمح لمرشح للرئاسة الاميركية بأن يقول كل ما يخطر له، بالطريقة التي تخطر له، وعوض أن ينسحب الحاضرون احتجاجاً، يقفون مهللين مصفقين للمستوى الفكري والأخلاقي المتمثل في لغة الأصابع. الأكثر ايماء منها.
عندما نعيد قراءة افلاطون، أو معلمه، يخيل إلينا أننا نقرأ تعاليم بسيطة على مصطبة. لكننا فجأة ننتبه إلى أنها تحسبت منذ قرون لبروز ظواهر عدمية مثل ترامب، حيث تقف التجربة الديموقراطية المحفوفة أصلاً بالمخاطر والتحديات، أمام ما يسميه افلاطون “طفح الذات”. الرجل الذي لا يتوقف إلا عند نفسه، والباقي وسائل أو فواصل. قال خروشوف للزعيم النقابي والتر روثر: “انت مثل البلبل. فهو عندما يغني يغمض عينيه كي لا يسمع سوى صوته”.
ما أكثر العيون المغمضة وأقل البلابل. ما يرسله المستر ترامب ليس غناء. وإذ يقف أمام فرصته الأخيرة للوصول، يبدو كل شيء مهدداً: الدستور الاميركي، الوحدة الاميركية، وما يمكن أن يثيره من بلبلة، أو خطر، في النظام العالمي.
يُقال إن لينين كان يحب كثيراً القصص التي كتبها الروائي الاميركي جاك لندن عن بلاد الاسكيمو، وأخصها “كيف توقد ناراً”، وتحكي قصة رجل وجد نفسه وحيداً ذات ليلة في سهول الجليد وليس معه سوى عود ثقاب واحد: إذا اخفق في اشعال النار به، فإنه سوف يموت متجلداً.
إذا قرأت القصة وأنت صغير، فسوق تحترق أعصابك على مصير الرجل المتوقف على عود ثقاب واحد. إذا قرأته محاصراً بالتجارب ونماذج الناس، سوف تخشى على العالم. أن ذلك الرجل سوف يشعل بالثقاب اطراف العالم لكي يتدفأ به.
عمن كان افلاطون يتحدث عندما قال إن الطاغية الطامح – أو العكس – “يستولي على رعاع من الطائعين العميان، ويسوقهم في الحرب ضد الفساد. إنه خائن لطبقته، وبعد حين لا بد للطائعين إلا أن يزدادوا طاعة أو ان يهربوا”. انه الجواب عن كل شيء. الحل لكل شيء. انظروا إلى ترامب، الغاضب على الدوام، المتوتر على الدوام، الفائض بنفسه دوماً، وسوف تراه خارجاً من أحد حوارات أفلاطون. دعك من مرور آلاف السنين. ثمة بشر مخلدون، خارج الزمن والوقت والناس.
حتى صفة الفاشية لا تنطبق على الرجل الدائم الهياج. فقد كان خلفها منظّرون وايديولوجيون يزيّنون للعامة، بفصاحة جذابة، حسن سوء الحياة. وهناك من يعبئ الناس دوماً بسوائل الحقد، أو حب الموت. الداعشي اليوم شبيه إلى حد بعيد بالكاميكاز الياباني، الذي كان ينحر الآخرين بقتل نفسه في سبيل الامبراطور. وليس في سبيل اليابان. واليوم، في سبيل “الخليفة”. الدهماء تفضل الشخص على الوطن. حتى الآن لا يزال البريطانيون يهتفون “حفظ الله الملكة” وإن كانت لا تحكم على أكثر من خطاب رأس السنة الذي يكتبه لها رئيس الوزراء. احكم بريطانيا وسوف تحكم بريطانيا العالم، يقول النشيد. الشخص أولاً.
غير ان الرجل المرشح لرئاسة أهم دولة في العالم، لا يجد بداً من استخدام الاسلوب الفاشي القديم. عجز واضح عن الابداع: هاجم خصمك وصغِّره وكبّر نفسك، سوف تعلّم هؤلاء الخرق كيف تعود أميركا قوية. إنهم صغار لا يفقهون. مراهقون. سوف نعطيهم دروساً في القوة.
منها اعادة 11 مليون مكسيكي إلى بلادهم. واحذروا المسلمين حتى لو كانوا أميركيي المولد. والرجل المرشح لرئاسة اميركا يهدد الجميع بالعنف. ولا يتردد في تهديد معترض بلكمة قوية. ومناصروه لا يحتجّون على هذا السلوك، بل يصفقون له، معجبين بقاموسه الخطابي المحدود، السقيم، وليس فيه سوى التهديدات والتهكم والوعيد.
أو في مديح التعذيب والقتل كما في روايته لقصة الجنرال جون بيرشينغ وإعدام 49 مسلماً في الفيليبين. وإذا كانت المسز اولبرايت قد هاجمت كاسترو في الأمم المتحدة قائلة إنه “بلا خصيتين”، فإن احد مناصري ترامب قد وضع يداه على السر: “إنه رجل خص”. بالجمع. أليس هو من يهدد “بقطع رأس داعش”. إذا كانت هذه لغة “الجهادي جون”، فلماذا لا تكون لغته مماثلة؟
إلى متى؟ ما دامت المعركة الرئاسية تتطلب ذلك. لذلك، فهو يعرض جميع الاشياء على جميع الناس. يخفض صوته أو يرفعه. يعرض على الحلفاء والاصدقاء. يتراجع عند جميع المفترقات بلا أي حرج أو محاسبة. هو رجل الجميع في جميع الأوقات، وضد الجميع في جميع المراحل. لم ينهر المسيح أحداً طوال ثلاثين عاماً، سوى مرتا: “تهمتين بأمور كثيرة والمطلوب واحد”! ليس لأنه قرأ أفكارها، بل لأنه ضاج بلجاجتها. حتى الناصري لا يمكن الاتكال كثيراً على طاقته في الصبر. مرتين خانته تلك الطاقة، الصلب ولجاجة مرتا.
تقوم الفاشية على الخوف. الرجل ينشر الرعب، ثم يربت على كتفك: لا تهتم. أنا هنا. صحيح أنك ضعيف، لكن قوته في خدمتك. وأميركا المفكرة خائفة حتى العظم. لأن الذي سيوصل ترامب في نهاية المطاف ليس من يفكر. بل هو، مثل مرشحه، يحتقر الفكر ويعتبره ترفاً، ويرى في المثقفين خوارج وهوامش يطرحون نظريات غير براغماتية لا جدوى منها لأحد.
الذين يحلمون بعالم مختلف، يعانون. يرون أن نشرة تلفزيون “فوكس” قد حلت بكل ثيرانها محل “بطريركية” والتر كرونكايت. ومخبروها، محل قامة صحافية مثل مورلي سيفر الذي غاب قبل اسبوعين. ودونالد ترامب محل الجميع. فليبحث ذوو الحياء عن زواياهم. مملكتهم ليست من هذا العالم.