سمير عطالله كتب في “النهار”: الصوت والضوء

اخترت لكم 14 ديسمبر 2016 0

czrcypsxuaehx5h_199940_large

لا يمكن النظر إلى وداع “السفير” كأنه ازمة صحيفة اتعبها طول الصدور. إنها ازمة صحافة، تملك جميع ميزات ومقومات الاستمرار، لكنها تدفع ثمن التآكل العام وتبعات مناخ الانهيار الشامل. فالأزمة الصحافية في لبنان لا تشبه ازمة الورقيات في العالم، مهما بدت المقارنة مغرية، وأحياناً صحيحة. تقول “السفير” في الاعلان عن الغياب مع نهاية السنة، أن السبب هو انكماش الدخل الاعلاني، وهو “الدخل الرئيسي”. والاعلان يتبع الازدهار العام، وليس ارقام التوزيع وحدها. وكذلك نوعية الاعلان وطبيعته.

جالدت “السفير” طويلاً في انتظار أن يعود إلى البلد شيء من مكانته كمركز عربي اعلامي، لكن ذلك لم يحدث. غطت معالم الازمة العاصفة وجه لبنان كالبثور الدالة، وهو يقفز من تدهور إلى آخر. ولجأت الشركات، ومعها اعلاناتها ومكاتبها وموظفوها إلى دبي ونقاط الاستقرار والازدهار.
إلى فترة طويلة في الستينات والسبعينات، كانت “النهار” تعلن في موازنتها السنوية ظاهرة معروفة لكنها نادرة، وهي أن دخلها من التوزيع يفوق دخلها من الاعلان. لكن ذلك كان في زمن الازدهار، وقبل ظهور الانترنت. وفي تلك المرحلة، رأى طلال سلمان أنه من الممكن إصدار صحيفة قادرة على النجاح والبقاء، غير متنبىء بزمن مضطرب وعقيم، أولى ضحاياه لبنان القارىء والمثقف ومدار الابداعات.
منذ العدد الأول، كانت “السفير” الجريدة الكبرى. تصدر من شارع الحمراء واضوائه وسمعته العالمية، لكنها تدافع عن الذين “لا صوت لهم”. وفي الطرف الأول من الحمراء كانت “النهار” تزداد لمعاناً وألقاً في ليبراليتها ومدنيتها، لكنها أخذت على محمل الجد، وخصوصاً في المهنية الصحافية، صدور جريدة قائمة على الحداثة وتجاوز البعد المحلي إلى البعد العربي.
وفي العادة لا تشكل “الصحف المناضلة” Combattantes منافساً مهنياً، لأن زمن الغلواء لا يدوم طويلاً. فالصحف الفرنسية، وفي طليعتها Combat التي كان يرأس تحريرها البير كامو، أغلقت ابوابها في اليمين وفي اليسار، بعد نهاية الحرب. أما “السفير” فبعيد صدورها بدأت حروب وطنية وقومية وسَّعت مدى جمهورها، وخصوصاً الملتزم منه.
ولم يكن التيار القومي جديداً على طلال سلمان، فهو آتٍ من بداياته واعماقه. غير أن الفارق بين الصحيفة التي اصدرها والصحف الملتزمة الأخرى، أنه كان مهنياً وهاوياً ومحترفاً وشغوفاً. وقبل كل ذلك، كاتباً بايقاع خاص ومكانة خاصة.
وكان طبيعياً أن يضم إليه العناصر المغردة في سرب واحد، وأبدعها آنذاك الرسام ناجي العلي وطفله المشرد. وفي هذا الجانب الايسر من الصحافة، عمل أيضاً كتّاب الثقافة والمفكرون وسرب طويل من كتاب مصر وسوريا والعراق وفلسطين، الذين رأوا في “السفير” المنبر الذي افتقدوه في بلدانهم.
كشف وداع “السفير” أكثر الاسرار علانية، وهو مدى وجودية أو بقائية، الازمة التي تواجهها عاصمة الصحافة العربية الاولى. وبعيداً من زجليات الادعاء، معروف أن اللبنانيين اسسوا الصحافة الكبرى في مصر. وأول هذا الشهر اعلنت “الشرق الأوسط” تعيين الزميل غسان شربل رئيساً للتحرير، وهو حدث مهني على مستوى الخليج على الأقل.
وقد لعب اللبنانيون في القرن الماضي خارج بيروت، الدور الذي لعبه اسلافهم في مصر والمغتربات. وساهم عدد كبير منهم، بينهم طلال سلمان نفسه، في الستينات والسبعينات، في تأسيس صحف الكويت والامارات. ولعب عدد كبير منهم، بينهم غسان شربل، دوراً في تأسيس الصحافة العربية في لندن. ومثله كان اكثرهم من العاملين سابقاً في “النهار”، المعهد العالي للمهنة.
وإلى سنوات خلت، كان “الكاتب العربي” هو الكاتب المصري، الذي تنشر مقالاته في الصحف الصادرة خارج مصر. غير ان الأمر اختلف أيضاً. وأصبحت صحف مصر تنقل مقالات بعض الكتاب اللبنانيين، أو تشيد بهم على مستوى واحد مع كتابها، وفي عاطفة واحدة.
يحدث ذلك، أو يزداد تطوراً، فيما الصحافة اللبنانية في الداخل تتراجع على نحو درامي، وربما نهائي. ولم يحدث ان فقد لبنان أهميته الاعلامية والثقافية حتى في ذروة الحرب ومذابح الهويات. ولا أدري مدى جدوى التطلع إلى الدولة في محاولة الخروج من المأزق. فهذا يحدث في الدول التي تأخذ من الصحافة كل استقلالها. ثم أن الدولة عادة “قصيرة النظر” تفضل أن ترتاح من الصحافة، بدل أن تنظر إليها كواحدة من ثرواتها مثل المعاهد والجامعات.
لم تفكر الدولة الاميركية في شراء، أو “مساعدة” “النيويورك تايمس” أو “الواشنطن بوست”، لكن القانون الاميركي ترك لـ”التايمس” حرية بيع حصة كبرى للملياردير المكسيكي كارلوس سليم. هذا غير وارد في لبنان إلا في السر أو التحايل، وهو الحل الأسوأ. الأفضل للصحف، ولسمعتها، ولما تبقى من سمعة لبنان، أن يكون سر الصحافة هو علانيتها.
الصحافة اللبنانية كانت صحافة عمالقة ضمن صحف العرب، وليس مجرد صحافة محلية. تجاوزت، مثل بلدها، الحجم المحدود. وفي حقبة واحدة ازدهرت ثلاث دور لها اثر عربي يومي، هي “حياة” كامل مروة، و”صياد” سعيد فريحة، و “نهار” غسان تويني. وإذ يضيق لبنان المتآكل بصحيفة عربية كبرى، فإنه ذات زمن كان يصدر مجموعة جميلة من الصحف الصباحية وفوقها صحف المساء، إلى جانب الصحف الفرنسية والانكليزية والارمنية.
وكان لبنان أول من اتاحت حرياته للمرأة أن تصدر مجلات نسائية أو عامة، وأن تخوض غمار الصحافة وغمار الدفاع عن النصف الجميل. واما الآن، فلا تضم تظاهرة من أجل حق المرأة في السياسة أكثر من بضع سيدات، لأن جماليات لبنان مغضوب عليها. ولعل من اجمل ما فعله الرئيس ميشال سليمان أنه اعطى حصته الوزارية لسيدة، يرى فيها معظمنا “سوبر وزيرة”.
ومن الدور الصحافية الثلاث التي اشرت إليها آنفاً، إثنتان تديرهما سيدتان، الهام فريحة ونايلة تويني. وتمتلئ الصحافة المكتوبة والمرئية بشجاعات وكفايات نسائية، تفوق نسبتها اي صحافة عربية أخرى، بما فيها مصر.
ولكن إذا كان في استطاعة الصحافة أن تكون أبعد من بلدها في زمن التقدم، فالحمل ثقيل عليها في زمن التحجر. عندما صدرت “السفير” الملتزمة ، كان مبناها يبعد عن “النهار” 500 متر. و “النهار” كانت جريدة الليبرالية والعلمانية في الشرق. لكن ذلك كان لبنان الكثير النوافذ، الهش الابواب.
وفيه وحده كانت تصدر صحيفة يومية رسمياً باسم الحزب الشيوعي، فيما كانت جميع الانظمة التقدمية، دون استثناء، تدك الشيوعيين في السجون، أو يُسحلون في شوارع بغداد. وكانت “النهار” منبر ومعرض جميع التيارات الفكرية، على رغم الغمز من عروبتها. وهي من سمّت عبد الناصر “العملاق الاسمر” وكانت اول من دخل مقر ياسر عرفات.
لبنان الحالي ضيق مثل “باب” أندريه جيد. وحمله ثقيل. وأحماله كثيرة. وصحافته الكبرى إحدى ضحايا التهافت الثقافي، ضحية النحول الذي أصاب بيروت. وماذا كان لبنان في أي حال؟ كان هذا الملتقى الوطني والعربي والدولي الواقع بين زرقة المتوسط وخضرة الجبل. وعندما رفع الأديب والكاتب والصحافي الكبير طلال سلمان شعار “صوت من لا صوت له”، الحق شيئاً من الظلم في حق هذه المدينة التي ولدت في “الصوت والضوء”.