رسـالـة إلـى الـنـاشـر…

مقالات 06 أبريل 2009 0

الصديق أبو أحمد
قرأت ما كتبته عن العيد الـ35 لـ«السفير» تحية لقرائها. كما تعمّقت في وصف الزميلة مادونا سمعان عن الوجه الجميل، لكن الحزين منذ الولادة.
لا شك في أنها أصابت الهدف، ولكن ما الذي يمنع أن تصبح “السفير” مع اكتمال نضوجها الإنساني “نغمة” لا تعرف مهنة غير عيون القراء لأسطرها.
أو أنك لا تقبل زميلة لنسمة؟
كنت على سفر لم أحفظ تاريخ المرة الاولى لصدور الجريدة. ولا ذكّرني أحد من الزملاء الذين كنت على اتصال ببعضهم. وأعترف بأني لم يخطر ببالي أنك ستسمح بـ”الاحتفال” كما فعلت في الذكرى 33.
حسناً فعل الزملاء. إذ ان الدعوة أكبر من قدرتي على شهادة احتفالها. كتب وكتّاب. مقالات وصور. حضور ومدعوون. وبالتأكيد ودّ يفيض من القراء. الضيوف عليكم جميعاً، من شهد للعروبة ومن شهد عليها.
فرحت أكثر باستلامي الدعوة بعد عودتي الى الوطن، أمس. إذ ان فيها الكثير مما دعوت لأن يحصل كل سنة ولو أنني لست شريكاً فيه. يكفي أن يستطيع مجموعة من الكتّاب أن يصدروا صحيفة في بيروت فكيف اذا فرحوا جماعة مرة في السنة بصدورها؟
عرفت “السفير” قبل صدورها وشهدت عددها الأول، لكن الأحلى في تجربتي الممتلئة ضجيجاً أنني عشت مع “نغمة” اذا جازت التسمية أربع سنوات.
من المدخل حيث ابو أشرف الهامس اللائق كأنه قادم من تاريخ في وزارة الخارجية. الى الاول حيث ترسم الصفحات ويختلط الاختصاص بالزملاء الراسمين صفحاتهم في عقولهم ويناقشون تنفيذها. الى الطابق الثاني، حيث المقر الدائم للنقاش السياسي يساراً مع “الحاج” معتز الحامل على أكتافه سنوات من الحلم باحثاً عن نهاية سعيدة له، والقائم بدور الغربال لما بين الطوابق والناشر.
ويميناً مع الشيخ حسين المحرر السري الدائم للصفحة الأولى ولو أنه في المدة الأخيرة سمح بتقاسمها مع زملاء له. مطمئناً إلى أنها ـ أي الصفحة الاولى ـ لا تحيد في غيابه عن خياره السياسي الحادّ عند الضرورة القصوى فقط. حسين وديع. هادئ. ودود. شفاهة. ليس مثله من يعترف بالرأي الآخر. لكنه عند “الضرورة القصوى” ـ وهي كثيرة ـ من وجهة نظره يكتب بالنصل الذي يعتقد أنه دائماً موجّه لإسرائيل بصرف النظر عن الجغرافيا الممتدة من صدر المدينة إلى آخر الحدود مع “العدو”. لرأيه شفاعة كثيرة أهمها قدرته على الحوار ومعرفته الدائمة والأكيدة بالحقيقة.
لا يفعل ذلك لغاية في نفسه بل لقناعته بأن “المؤامرة” تسكن الكثير من أهل السياسة اللبنانية وأن مغادرتها لهم تكون بقرار منها لا برغبة منهم.
بين الحاج والشيخ قاعة لتصارع الآراء ولو في الاتجاه الواحد. بين “فخامته” غاصب و”دولته” نبيل و”نجومية” عماد الذاهبين نحو هدف واحد ولكنّ كلاً منهم بطريقته وأسلوبه. يحضر الاعتدال مع واصف مرة في الأسبوع بعد أن تعب من الحضور يومياً.
يزداد النقاش حدّة بحضور الكابتن عدنان المنغمس في الاقتصاد إلى حد المعرفة دون السعي إلى ثروة تبرر للمعرفة حقوقها.
مؤخراً، حُصر النقاش المحتدم في غرفة منزوية بعد انتشار الصبايا في القاعة الكبيرة بأقلامهن وحضورهن الباحث في الأزمات غير السياسية. استسلم القسم السياسي للانتشار الجديد الناعم المندفع في حركته.
الطابق الثالث مدرسة أخرى هادئة تديرها “شبوبية” المدير ساطع الكاتب اليومي المخالف للشائع من المواقف بين الطوابق الأخرى.
ويتابع خليل الحالم الوحيد بعودة غيفارا، أو “البيريه” التي على رأسه على الأقل، لتنتصب دفاعاً عن عدل لا يراه في كل ما يحدث من أحداث عربية ودولية.
أما الرابع حيث مقر الاجتماع اليومي المجاور لثقافة عباس بيضون والمواجه لمخبأ حسام عيتاني القليل الظهور والكثير الحضور في أسطر كتاباته فضلاً عن غرفة عمليات حلمي موسى الخبير الفلسطيني شفاهة والخبير في الشؤون الإسرائيلية خطياً.
من هناك يفترق الحضور صعوداً نحو السادس حيث الكثير من كلام الضيوف والأكثر من الاستماع في مقر الناشر الساعي إلى سحب ما لدى ضيفه من آراء ومعلومات دون أن يسمع منه رأياً قبل أن يقرأه ـ أي الضيف ـ في صباح اليوم التالي.
تعلّم أحمد من جيرة الناشر أن الاستماع جزء من الواجب تجاه الضيف ليتركه بعد ذلك عائداً إلى عمق العالم الحديث في الكومبيوتر. لا تراه إلا جالساً إليه باعتباره البحر الذي يسبح فيه كل يوم بهدوء الواثق من قدره الإداري.
لو أكملت الوصف لا أنتهي منه. لكن الوصف لا يجوز شرعاً دون المرور على ألوان هنادي في الطابق الرابع. لا أعرف إذا ما فاتني الاستماع إليها تخاطب المحتفلين كما فعلت في الذكرى الـ33 فجعلتني أحتار فيما إذا كانت ابنة والدها أو ابنة “السفير” هي في ذهنها أنهما واحد، وأن عليهما الفرح بصخب تجوالها في الطوابق وإن كانت هذه السنة أكثر حضوراً وانتشاراً وهدوءاً.
أعود الى الناشر لأقول إنني لست مخولاً بالأحكام على تجربته السياسية. اختلف معه الكثيرون وانتصر لكل قضية عربية حطّت في شوارع بيروت. أراد حيناً نشر الدولة العادلة كتابة، وأحياناً عمل على القضاء على ظلام الدولة وظلمها كتابة. الأهم أنه فعل ذلك دائماً بقلمه وليس بأي وسيلة اخرى. جاءه الرصاص جواباً يحاول اغتياله في عام 83. تمسك بقلمه أكثر.
احتفاله الذي يصرّ عليه بكل ما فيه من قلق وإصرار وتوتر اللحظة الأخيرة هو صدور الصحيفة صباح كل يوم. ملاحظة توتر اللحظة الأخيرة حق حصري لا يقبل الناشر شريكاً فيه حتى إطلالة الصباح.
كل الناس ترى في بيروت فضائل وجمالات. هو يراها حضناً دافئاً، صادقاً، أمينا للقلم. لكنها لا تشغله مرة إلا اضطراراً عن حميمية قريته التي يذهب إليها كل نهاية أسبوع.
تنتهي الطوابق بالأرشيف، لكن السفير لا تنتهي بل يحملها عصفورها كل صباح نغمة «تُطرب» البعض وتشوّش البعض الآخر.
أكتب الى الناشر، لا عنه في الذكرى الـ35 لأقول إن السنوات الأربع التي أمضيتها في طوابق “السفير” وإقامتي في صفحتها الخامسة كل اثنين أعطتني من الراحة الداخلية ما لم تستطع تجربة أخرى أن تعطيني إياه. رغم الأهمية السياسية للتجارب الأخرى. والفضل في ذلك ليس لجهدي المهني فقط بل لقدرة الناشر على الصبر على ما كتبته وهو في معظمه لا يصب في سياق الكتابات الأخرى في “السفير”.
أكتب ذلك وأنا على مفترق من العمر. بين السعي إلى إصدارات أحقق فيها نفسي وتكتمل مع “السفير” أو الذهاب في اتجاه البحث عن شرعية أخرى غير دور الكاتب الشاهد، ولو على خفر.
لم أكن أعلم أن الإمكانات عزيز ة على أصحابها إلى درجة الانكفاء حين يمكن توظيفها في الاتجاه الصحيح. لم أكن أعلم ذلك حتى حاولت فوجدت أنني لا أمتلك كفاءة جذبها إلى ما أسعى إليه.
لن تكون هذه هي التجربة الأخيرة. ولكنها بالتأكيد درس تعلّمت منه أن عليّ السعي ولو مؤقتاً نحـو شـرعية جديـدة لما في ذهني من أفكار.
أياً تكن نتائج ما أنويه، تبقى “السفير” مرتعاً لحرية في التعبير ولقدرة على الحضور، ما يجعلني دائماً أسير طوابقها بكل ما فيها من ودّ لا ينضب.
والى اللقاء في صفحة أخرى ولو بعد حين.