رسالة من رفيق إلى سعد الحريري..

مقالات 14 فبراير 2007 0

الحبيب سعد
صباح الخير
لا تفاجأ. إذ إنك لم ترَ منّي نصاً موجهاً إليك قبلاً. حتى كلامي إليك كان دائماً موجزاً ومباشراً. تركت أنا الوقت يفترس أحلى ما يمكن لوالد أن يفعله. أي المتعة في أن يرى زهرة عمره تتفتّح أمامه شهراً بعد شهر.
رميت عليك الحِمل مبكراً في صحراء العمل والتعب واحتراف الصمت. أعلم أنه لم يكن سهلاً عليك ولا كان سهلاً عليّ تعلّم الصمت يوماً بعد يوم، إلى أن تنفك عقدة لسان صاحب الأمر بالكلام.
لكنك والحمد لله فعلت أحسن مما توقعت، وهو كثير، فجئتني أنت بأفضل منه.
حفظت نفسك ومالك وابتسامتك التي ما رآني أحد إلا وكلّمني عنها، وتهذيبك الذي ما قابلت أحداً إلا وأصابه شيء منه.
قدرت على الصبر وأنت في عزّ الرغبة بالإسراع. تحمّلت رتابة الملل وأنت القادر على تغيير ما بيديك بلمح البصر. هذا من العهد الذي مضى.
سنتان مضتا على غيابي عنك. هذه المرة لا أُلام أنا ولا تأتي الرغبة منك. الحقد والشر هما اللذان أبعدانا عن بعض. هل تعرف أحداً تملّكه الحقد ولم يأكله؟ المهم أن لا تحقد أنت. أن لا تحتد. أن لا تتحدى. أن يبقى اتساع صدرك مساحة اتصال بينك وبين الآخرين، حتى خصومك. لأعدائك تدبير آخر. اترك فسحة من الزمن. من المكان في الباب العالي الذي أعطيتك إياه لخصومك. ستجد الكثير منهم يأتونك متفهمين. اختر ما يناسبك من كلامهم. من وجودهم. واترك الباقي. أنت تربح وهم يخسرون. هناك فرق كبير بين الدنيا التي عشت فيها لسنوات طويلة وبين السنتين الاخيرتين من حياتك. الفرق أكبر مما تتصور. مرت عليّ سنوات طوالا حتى اعترفت أنا بهذا الفرق.
لا تترك الزمن يأخذ عليك تأخرك في الاعتراف بمتغيراته.
****
أكثرت عليك بالنصائح. هي ليست كذلك. بل هي اقتراحات. أعلم أنك تجيد الانتشار وتتوسع في جمهورك، وأنك حذر في كل ما تفعله، وأن نجمك يصعد كالصاروخ على حد قول زميلك وصديقك وليد بك.
لكن لن يأخذ علي أحد أنني أطالبك بأكثر مما فعلت. ألست أنت اختيار العمر وسرّ الزمن وحافظ الأهل.
لو سمعت شكوى عن غيابك عنهم مهما كانت التبريرات. لا يعبس منك الجبين. هم يعتزون بك وينتصرون بوجودك وتنتصب هامتهم معك في مواجهة ما يتعرضون له من اعتداءات.
ما يريده الناس منك، غير ما أرادوه مني. يرون فيك حداثة وعصرنة وتنظيماً، لا يرونها في إطار جمهورك. معي كان الجمهور هو الغاية. الآن التنظيم هو الضرورة.
حين تسمع الشكوى كما تقال، تكون قد غيّرت ما تسمعه كل يوم. كل منا يحتاج الى جديد في ما يسمع، ومفيد في ما يرى، وعميق في ما يفكر. التنوع هو أساس الابتكار في الحياة. الابتكار هو الاستمرار في النجاح.
****
شاء الله سبحانه وتعالى أن أتركك في أصعب الأوقات علينا في لبنان وعلى أهلنا في الربوع العربية المشتعلة أزماتها. لكن الله القدير الجبّار شاء لي أن أكون مطمئناً على الأهل والمحبين والمريدين. ليس لحسن أحوالهم وهي ليست كذلك، بل لتماسك عصبهم وارتفاع رأسهم في وجه الأزمات. تقف أنت بينهم. ينثرون عليك المحبة والرضى والدعاء. يطالبونك بأكثر مما تستطيع. تستغرب، لو لم يفعلوا معك. فممن يطلبون؟
من يقدر على والده بابتسامته، وعلى أهلي من العائلة المالكة السعودية بطاعته واحترامه، وعلى الصديق الرئيس شيراك الذي تدخل عليه بشبوبيتك مستنجداً، وعلى أصدقاء جورج شعبان في موسكو مناقشة. من يقدر على كل هذا لا يستغرب مطالبة عصب أهله حتى لو كانت قدر المطالبة أكبر من طاقته.
الأساس في العصب هنا اثنان. أهلنا في الرياض. المكان الوحيد الذي كنت أنام فيه آمناً مطمئناً. إذا إنني ما تعودت وسادة أكثر أماناً من بيوتنا السعودية.
لا ينشغل بالي عليك هناك. أنت ولدهم وواحد من رموز وفائهم. أعلم أن غيابي ما يزال حاضراً في يومياتهم.
غير أنني أعلم أيضا أنهم يواجهون أنظمة لا تملك إلا الحقد والشر يقدمانها لأصدقائهم فكيف بخصومهم. من هنا أرى أنك كلما قللت من الانغماس في لعبة الدول، كلما صرت أكثر حرية وأقدر حركة في اتجاه الاستقرار والهدوء.
مهما كبُر شأن الإنسان ومهما عظمت قوته يبقى فرداً محدود التأثير في الألعاب الكبيرة التي لا يعرفها غير الكبار ولا تحمي إلا الدول.
هذه خريطة توقِع من لا يعرفها في مهالك اليأس وخيبة الأمل.
مولاي خادم الحرمين الشريفين العروبي، الوفي، النقي، سيّد من يزن هذه الأمور. وما خفي عنه يحفظه من حوله من أشقاء وأصدقاء.
****
أهلنا في لبنان، هم العصب الثاني. ليس بالتراتبية ولكن بالاقدمية، وهم على ما أعرف لا ينكرون للسعودية فضلها وحقها في الصدارة.
ميزانك اللبناني حساس جدا، بقدر ميزانك السعودي إن لم يكن أكثر. تأخذه نسمة ريح الى الخطأ لا سمح الله، ويحتاج الى رياح كبيرة ليعود الى استقراره على العدل. إذ إن التبصر والروية والشورى هي العناوين التي توصلت إليها بعد سنوات من احتضان أهلي في لبنان لي.
لم يكن سهلاً عليهم الاعتراف بالعادات التي أتيت بها معي. ولم أستطع بداية تسيير أمورهم على طريقتهم. لكن قرابة الوطن ومحبتهم التي لا تغيب عني جعلت ما بيني وبينهم أحسن ما في الاسلوبين. أنت لا ينقصك شيء. تجربتي كانت أمامك دائما. خذ أحسن ما فيها واترك الباقي لخصومك، فتكون ضربت عصفورين بحجر واحد.
ينشرح العقل. ينفتح القلب. حين أسمع عن الدولة في فؤاد السنيورة، وعن الحلم فيك. أنتما وجهان لعروبتي: فؤاد ماضيها الجميل، وأنتَ مستقبلها الأكيد، مهما قيل غير ذلك.
نُمي إلي أن ما بينك وبين الصديق نبيه بري ينخفض ويرتفع مثل حال الطقس.
مرت عليّ فترات تصرفت فيها كما تتصرف أنت الآن. لكنني علمت وتعلمت متأخراً أن حسابي لم يكن دقيقاً.
الدقة هي أن تأخذ من أبو مصطفى ما يعطيك إياه. ليس لأنه كريم وهذه ليست من صفاته. بل لأنك لن تجد منه ما تريد إلا في حالات الحاجة القصوى.
هناك مساحة في خريطته السياسية كبيرة على عكس ما تعتقد، للبنان الذي تريده. لكنه لا يظهرها حتى لا تتعرض للدمار والتخريب. وكلاكما يعلم صاحب الفضل في هذه الامور. ينتظر الحرّيف إعلان الطوارئ السياسية فيعطيك ما لك ويبقي ما لا يتخلى عنه أحد، أي حياته.
له شفاعاته، يقول لك الكثير من السياسة، وأنت تعتقد أنك تستمع لطُرَفه.
****
أفهم مدى حاجتك لما تطلب. وأشعر أكثر كم أنت صادق في رغباتك. لكن الثأر أيها الحبيب لا يكون إلا بالنجاح في ما تسعى إليه.
النجاح هو الثأر. هذه هي القاعدة التي نسيت أن أحكيها لك في لقائنا الاخير.
الحقد. الدمار. التخريب. هو سلاح العاجزين عن النجاح. وأنت لم تكن ولن تكون منهم.
اذهب نحو النجاح يتسع جبينك، تكبر ابتسامتك. يصغر الآخرون ويختفون ضحية حقدهم.
أطلت عليك الحديث في السياسة، جعلتني أنسى أن أخبرك أنني سأترك بيروت لك هذه السنة لزيارة صيدا، حيث حنان الوالدة وصرخة الوالد وعصب الشقيقة. باريس بعيدة، أليس كذلك؟
عمّتك صغيرتي بهو ، كم أرى فيها طفولتي وشبابي. كأنها وحدها تستطيع أن تكون من أحلى ما في ذكرياتي.
أذهب الى هناك لأطمئنها لا لأطمئنّ عليها. فهي على ما علمت أخذتها الدنيا بعد غيابي الى مزيد من المسؤولية. فازدادت قدرة على أن تحيط مدينتها برموش العين الجدية، المحبة. المتوازنة. العارفة. تجاوزت بعينها هذه الكثير من الازمات والمطبّات. كل المسؤولين السياسيين يتعاطون مع مسألة شعبهم اللبناني. إلا هي تتصرف بمسؤوليتها عن شعبين: اللبناني والفلسطيني. لكنني لا أخاف عليها. سأجدها عائدة من الحج. مطمئنة البال. مرتاحة الضمير. يتسع بيتها كما عقلها للجميع.
سأترك لك صغيرتي الاخرى هندو . كنت أقول عندما أراها قادمة من الجامعة. نيّال اللي بترضى عليه اختو لسعد .
سألني لصيقي المشاكس، لماذا تقول هذا الكلام؟ أنت بخير. لم أجبه. أعتقد الآن أنه فهم ما قصدته. سبحان الله الذي ينطق عبده بما لا يعرف له سبباً. حمل جديد؟ سيكون بالتأكيد أقل مما تتحمل الآن. ألست أنت خيار عمري وحامل الامانة التي لن تضيع؟
رسالة افتراضية