رسالة إلى العماد عون ..

مقالات 21 يناير 2008 0

دولة الرئيس
على غير الشائع من مناداتك بالجنرال ميشال عون وهو اللقب الأحب إلى نفسك وإلى جمهورك، فقد حرصت منذ اليوم الأول لتعرفي إليك في مقر الرئاسة الأولى في بعبدا وحتى زيارتي الأخيرة لك قبل أشهر في الرابية، على مناداتك بدولة الرئيس.
ربما اعتقدت أنت أن هذه عادة لفظية عندي. لكنها ليست كذلك. أردت من مناداتك بدولة الرئيس أن يكون للقبك القدرة على احتواء الكثير من تنوع اللبنانيين، وأن يكون لدورك القدرة على تمثيل كل اللبنانيين.
ذهبت إليك منذ أقل من 20 سنة، ناصراً، داعماً، مستنجداً بانتفاضتك من مقر الرئاسة الأولى. حدثتك عن تمثيلك الفعلي وتوسيعه سياسياً الى مختلف مكونات الوطن اللبناني. فعلت أكثر من ذلك وإن كان لم يحن بعد أوان القول أو كتابة التاريخ، صعدت الى بعبدا مرات عدة مسجلاً اسماً مستعاراً في دفتر ضيوفك حين لم يكن إلا الندرة من بيئتي يشهرون دعمهم لانتفاضتك، وذهبت الى أبعد من لبنان محاولاً الدعوة الى تفهم ما تقوله، وإن كنت في ذلك الوقت وحتى الآن لا تريد لغير جمهورك أن يتفاعل مع ما تقول. كنت وانتفاضتك حماسة شبابي الثانية بعد القادة العاملين في سبيل تحرير فلسطين. لم أتردد ولم أندم على ما فعلته رغم مخاطره، ورغم نفي اختياري لي من لبنان دام لمدة سنتين بعد اغتيال المفتي الشهيد حسن خالد والنائب الشهيد ناظم القادري، والنفي الأمني للرئيس الراحل تقي الدين الصلح. وهم من كنت أعتبرهم أهلي وأساتذتي في السياسة.
كثيرون اعتبروا ما فعلته أنت يا دولة الرئيس في ذلك الحين تعريضا للبنان ولأهله، ومسيحييه على الأخص، لأخطار لا رد لها وسط متغيرات دولية لم تعترف أنت بقدومها ولا رأيت فيها حقيقة لا بد من احتوائها حتى تمر العاصفة. فضّلت المنفى على الوقائع والمستجدات التي جعلت سوريا شريكة في تحرير الكويت من الاحتلال العراقي وأعطت لرئيسها الحق الدولي في إدارة لبنان سياسياً وأمنياً.
تجاهلت الكثير مما قرأته من مقربين لك ألّفوا كتباً يؤكدون فيها عروضك للتفاوض مع النظام السوري وآخرها ما نشره الوزير السابق ألبير منصور في كتابه عن وثيقة منك حملها إلى القيادة السورية بقبولك إخلاء مقر الرئاسة الأولى في بعبدا، وما قيل من تفاصيل قاسية عن طريقة لجوئك الى السفارة الفرنسية.
تجاهلت كل هذه الوقائع لسنوات طوال وأقنعت نفسي بأن ما حصل قد حصل. سواء كُتب تاريخه باجتهاد ممن أرادوا الهزيمة لانتفاضتك، أو أن ظروفاً لا أعرفها فرضت عليك التصرف كما فعلت.
بعد 16 عاماً في المنفى عدت الى بيروت اثر انتفاضة شارك فيها جمهورك مع الغالبية العظمى من اللبنانيين وأدت الى إخراج الجيش السوري من لبنان بعد فراغ سياسي كبير حققه اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
قيل وهذا هو الأهم إن شروط عودتك حددت قبل ذلك في اتفاق عقدته مع كريم بقرادوني الكتائبي الدائم، والنائب إميل لحود نجل رئيس الجمهورية. وأن في بنود هذا الاتفاق ما اتضح بعد ذلك من حياد تجاه الدور السوري في لبنان أياً كان مضمونه ومن تحالف مع أطراف سياسية في مواجهة أطراف أخرى في الملعب السياسي اللبناني.
دولة الرئيس
صحيح أن الانتخابات النيابية التي جرت في العام 2005 جرت على غير هذه القاعدة، فتحالف حزب الله مع سعد الحريري وريث والده ووليد جنبلاط و القوات اللبنانية بما سمي التحالف الرباعي. وصحيح أيضاً أن الانتخابات أعطتك الحصة الكبرى من التمثيل المسيحي رغماً عنهم. لكن الدائرة السياسية دارت لتعود الشروط التي قيل إنك وافقت عليها لرجوعك إلى لبنان، إلى صدارة التفاهمات السياسية التي عقدتها.
هذه الوقائع ليست من عندي. بل هي كلام علني لأشخاص لهم حيثية سياسية عاشوا تلك الفترة الى جانبك وتوسطوا في ما قيل إنهم شاركوا في تحقيقه.
***
ذهبت الى دارك في الرابية بعد الانتخابات النيابية وقلت لك إن وليد جنبلاط يريد جرّك إلى اشتباك سياسي لا يذر ولا يبقي من الوفاق اللبناني حول شخصك وشعاراتك في الحرية والسيادة والاستقلال. فعلت ذلك متناسياً ما عرفته قبلاً، إنما ليس في الخفية عن وليد بك. فقد قلت له ما أبلغتك إياه قبل ذهابي إلى دارك.
اندفعت أنت أكثر في الاشتباك على قاعدة مخاطبة المسيحيين بضرورة الصراع مع وليد بك، وأن لهذه الطريقة في المخاطبة أولوية على أي أمر جامع بين اللبنانيين. حقق وليد بك هدفه وألغى ما في شخصك السياسي من عناصر وفاقية لبنانية. فأكملت طريقك في الاشتباك السياسي حواراً ومذكرة تفاهم مع حزب الله الخائب أمله وهذا ألطف التعابير من الحلف الرباعي والمتخوف من أنه على طريق الاستفراد به لولا تفاهمه مع تيارك.
ذهبت إلى دارك بعد الاعتداء الإسرائيلي على لبنان مقدراً موقفك من الضربات الجوية الإسرائيلية على جسور في منطقة نفوذك السياسي والذي اختصرته بالقول بالرزق ولا بأصحابه .
راجعت معك بنود مذكرة التفاهم مع الحزب ووجدت فيها ما أردتني أن ألاحظه في شأن العلاقات اللبنانية السورية (التمثيل الدبلوماسي) والسلاح الفلسطيني الواجب جمعه من خارج المخيمات، وهو ما أقر لاحقاً على طاولة الحوار. أذكر أنني قلت لك إن التفاهم مع الحزب يحقق اطمئناناً ولو مؤقتاً في الوضع المسيحي خاصة بعد الهجمة المدانة من إسلاميين شماليين متطرفين على منطقة الأشرفية ولو للوصول الى السفارة الدنمركية التي نشرت إحدى صحفها في ذلك الحين رسوماً مسيئة للنبي محمد صلعم . وأضفت في قولي إن الاستقرار الحقيقي لا يكون إلا بمزيد من الانفتاح على القوى السياسية الأخرى والطوائف اللبنانية الأخرى أيضاً. إذ أن أهل السنة لا يملكون خيار المفاضلة بين سعد الحريري ومدرسة القاعدة التي يعبّر عنها رجلها الثاني أيمن الظواهري في دعوته الى المسلمين في لبنان وغيره من الدول الى الجهاد في وجه القوات الدولية في الجنوب مثلاً.
هذا الكلام سابق لأحداث فتح الإسلام في الشمال ولاعتقالات الأصوليين التي ينشر عنها كل يوم . لذلك فإن زعامة الحريري مطلوبة وضرورية أكثر مما هي منتخبة. واقترحت عليك في ذلك اللقاء أنك إذا وجدت صعوبة مؤقتة في الحوار مع الحريري أو غيره من زعماء الأكثرية فلماذا لا تذهب الى السعودية أو إلى مصر وتشرح وجهة نظرك بأنك صاحب رأي في لبنان ولست جزءاً من الصراع الدائر في المنطقة. وتطوعت في مفاتحة السفير السعودي في بيروت بشأن الزيارة. ولا أدعي معرفة ما حدث بعد ذلك في مسألة الدعوة لك لزيارة المملكة ثم تأجيل الزيارة. المهم أنني أردت من كلامي في ذلك الحين وأريد من كتابتي اليوم أن أقول لك إن الدور المسيحي في لبنان هو دور العازل بين الطائفتين المتخاصمتين. إذ مهما قيل عن مخاطر النزاع المذهبي الإسلامي فإنه قبل كل شيء نزاع سياسي وليس نزاعاً دينياً. وله ضوابط أكبر من مخاطره، بينما الانضمام المسيحي الى أحد أطراف النزاع مخاطره أكبر بكثير من ضوابطه.
***
دولتك تعلم أكثر مني أن الانهيار المسيحي التدريجي للسلطة المطلقة في لبنان بدأ عملياً مع الإجماع المسيحي على كبير متطرفيهم كرئيس للجمهورية في العام ,1982 وأقصد الشيخ بشير الجميل، الذي رفع أيضاً شعار الدفاع عن الحقوق المسيحية طيلة فترة عمله العسكري الطويل والسياسي القصير حتى اغتياله بعد 20 يوماً من انتخابه.
فهل تعتقد الآن أنه يمكن جلب ما تسميه بحقوق المسيحيين عن طريق التحالفات المخالفة للإجماع اللبناني والأخطر من ذلك للوفاق العربي؟.
أذكر رواية لآخر الحكماء اللبنانيين الرئيس الراحل تقي الدين الصلح عن وسيلة إقناعه لأحد الأقطاب المسيحيين بعدم جواز انتخاب بشير الجميل للرئاسة. سأل الصلح القطب المسيحي ما إذا كانت لديه معلومات عن النفوذ الشعبي للإخوان المسلمين في بعض الدول العربية ومنها مصر فأجابه بالإيجاب. سأله سؤالاً ثانياً عما إذا كان الإخوان قد استطاعوا الوصول الى الحكم في واحدة من هذه الدول. فرد عليه القطب المسيحي بالنفي. عندها قال له الصلح لماذا تريدون انتخاب رئيس من الإخوان المسيحيين ما دام الإخوان المسلمون لا يستطيعون الوصول الى الحكم في بلد مسلم؟
كانت النتيجة سفر القطب المسيحي الى باريس هرباً من الضغط عليه لانتخاب الشيخ بشير.
أتذكر هذه الرواية وأنا أراك تذهب في خطابك السياسي الى المسيحيين تستحثهم على تحصيل حقوقهم متجاهلاً بذلك مصالحهم.
وصل بكم الأمر يا دولة الرئيس إلى حد الاستعانة بأرشيف وهمي للأمن العام في العام 2000 لتظهر ورقة لا يهم مدى صحتها كتبها مخبر عن اعتبار الرئيس الشهيد رفيق الحريري التوطين الفلسطيني الحقيقة الوحيدة في تسديد الديون المتراكمة على الدولة اللبنانية.
منذ إبعادك يا دولة الرئيس عن لبنان والبلد مليء بالشائعات والأوهام عن سوء حالتك العصبية، بما في ذلك روايات لرجال في سدة المسؤولية عن تقارير طبية تؤكد الشائعات. هل تتوقع أن تطبع ورقة بتاريخ سابق يوقعها طبيب راحل تأتي على سرد تفاصيل ما جاء في روايات الأجهزة الأمنية السابقة. فيظهرها نائب من كتلة تيار المستقبل على التلفزيون باعتبارها وثيقة دامغة.
سعد الحريري لا يقبل بذلك. لكنك استسهلت التعرض لضريح رجل صار في ذمة الله اغتيالاً وظلماً وعدواناً استناداً إلى مخبر صغير أو كبير..
لن أطيل الحديث عن هذا الجانب حرمة لما عرفته منك وعنك منذ 20 سنة.
***
دولة الرئيس
لا بد أنك قرأت ما جاء في مجلة نيوزويك الأميركية عن مسيحيي الشرق وتضاؤل أعدادهم في العراق ومصر ولبنان. ماذا فعلت أنت بالمقابل؟
أخذت الموقف المسيحي السياسي إلى حيث لا اطمئنان ولا استقرار ولا أمن له. ومهما جهدت في تفسير صوابية ما جاء في مذكرة التفاهم مع حزب الله فإنها بالمعنى السياسي تحالف يوصل الى تبني الموقف السوري من الفراغ الرئاسي في لبنان مهما كانت الصلة بعيدة بينك وبين القيادة السورية كما يعلن نواب كتلتك.
هذا لا يعني التراجع عن المذكرة ولا المطالبة بمعاداة القيادة السورية. لكن وأكرر هنا ما تفعله ليس الدور السياسي المسيحي المطلوب لإنقاذ لبنان.
الدور المسيحي قائم على الاعتدال والتوازن والحكمة والوفاق، والانفتاح على المجموع العربي وليس الانغلاق على سياسة دون أخرى.
غير ذلك هو ما فعلته في المدة الأخيرة. صحيح أنك اقتنعت متأخراً بحراسة الجمهورية بدلاً من رئاستها فلم تعد مرشحاً. لكنك في طريقك الى هذا الموقف أصبت المؤسسات الثلاث التأسيسية في الشأن المسيحي العام.
تناولت بكركي وبطريركها بما لا يجوز تناوله. فرضت على زميلك اللاحق العماد ميشال سليمان زنارا من الضمانات لوصوله الى بعبدا لا تقل عن مرشح من الخصوم السياسيين. تعاملت مع مسألة الانتخابات الرئاسية باعتبارها عملاً إجرائياً في السياسة يصح إتمامه في أي وقت دون اعتبار لرمزية الرئاسة ومن غير اندفاع لحماية هذا الرمز..
ما يراه الكثير من اللبنانيين في حركة الكنيسة عبر التاريخ أنها رمز وضمانة للتنوع السياسي ولديموقراطية العمل العام. دون الدخول في الوقائع الأخيرة لقيادة حركة التحرر اللبنانية. ودولتك تعلم أكثر مني بالتأكيد أن مئات السنوات من عمر هذا التوجه السياسي للكنيسة في مسألة السيادة والحرية والاستقلال لن يلغيه كلام يذهب به وبصاحبه الزمن مهما طال.
كذلك الجيش. كان أسلم لفهمك على الأقل لدور الجيش وضرورة صيانته وحمايته رفض ترشيح العماد سليمان والتفاوض على واحد آخر من المرشحين بدلاً من الإسقاط التدريجي لصفة التوافق على ترشيح قائد الجيش. أما الاندفاع نحو رمزية الانتخابات الرئاسية فلك أنت أن تراجع ما أحدثه التأخير من فقدان لأهمية الدور الرئاسي اللبناني ولو تدريجياً، بعد أن وضعت أوهام الحقوق بديلاً عن المصالح التاريخية منها والحديثة.
هل هذا ما أردته من سياستك؟
أترك الجواب لكم يا دولة الرئيس رغم أنني متأكد بأن ما تحقق حتى الآن لا يريده لبنانيو شعاراتكم السابقة.
ودمتم للبنان