رد الجميل بالنسيان ..

مقالات 25 مايو 2006 0

ليست هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن هذا المثل الفرنسي الذي ينصّ على ان لا رد للجميل الكبير إلا بالنسيان. لأن الخيار الآخر هو ان تقضي عمرك محتارا. مرتبكا. خجلا. من انك لم تستطع رد الجميل الذي عليك لصاحبه رغم مرور الأيام.
الواقع ان جزءا كبيرا أكبر مما يتوقع أحد لا يريد الرد على تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة من العدو الإسرائيلي إلا بالنسيان.
أولا، لأن هذا الأمر تم منذ وقت طويل جدا بحيث لا يتذكرونه إلا في المناسبات الاستعراضية العسكرية وهم لا يحبون رؤيتها.
ثانيا، لأنهم لا يريدون دفع ثمن التحرير المعنوي لأحد. ويتجرأون حتى على القول بأن “الانسحاب الإسرائيلي” كان ليتم مع او بدون وجود المقاومة.
ثالثا، لأن الجهة او المنظمة او الحزب، الذي قام بالجزء الغالب جدا من العمليات العسكرية في وجه جنود الاحتلال ليس من أصحاب الحظوة في المجتمع السياسي اللبناني ولو انخرط “حزب الله” فيه نيابيا وحكوميا واجتماعيا. مرة بسبب إيرانيته. ومرة أخرى بسبب التزامه السياسة السورية ومرة ثالثة لأن هذه العمليات هي حق حصري وشرعي لطائفة واحدة.
رابعا، اعتبار نتائج التحرير حقاً مكتسبا لكل اللبنانيين. حين توزعه عليهم يصبح فتاتا لا يكفي الملايين الأربعة الذين يعيشون على الأرض اللبنانية فكيف لو طالب من في المهجر بحصته من هذه الفتات التحريرية؟
لم يتصالح اللبنانيون مع رفيق الحريري الزعيم العظيم البنّاء الدولي العربي الاستثنائي المؤمن الى حد اعتبار ضريحه مزارا. لم يتصالحوا معه إلا بعد اغتياله. صار هو فوق كل الصفات السابقة التي أغدقت عليه بطل تحرير لبنان من الوجود السوري العسكري والأمني.
أكثر من ذلك صار هو في السنوات الثلاث عشرة التي عمل فيها مباشرة في السياسة اللبنانية، يسعى لالزام القيادة السورية بما لا تريد التزامه وإقناعها بما لا تريد الاقتناع به. لولاه لانقرض أهل السنّة في لبنان وربما في سوريا أيضا.
حال المقاومة في السنة السادسة لذكرى التحرير كحال الرئيس الحريري قبل اغتياله. انقسام حاد حولها. صامت بعض الأحيان. فاجر في أحيان أخرى.
اشتباكات وارتباكات سياسية دولية وعربية حول وجودها ودورها ومستقبلها وجغرافيتها ايضا. أليست شبعا من “الاختراعات” الجغرافية التي تحتضن استمرار سلاح المقاومة؟
البعض يقول ان هذا جزء من مؤامرة تخوضها الدول الكبرى بعناصرها المحلية اللبنانية لاخراج المقاومة من الصراع مع إسرائيل. آخرون يفترضون ان “حزب الله” جزء من جبهة ايرانية سورية فلسطينية واستطرادا فلا بد من نزع الصفة اللبنانية عنه وعن أعماله.
أنا أقول ببساطة وربما بسذاجة أيضا إذا كان هذا يرضي المتحمسين لصفة المؤامرة إن ما يجري هو جزء عادي وأصيل ومتين من طبائع المجتمع المدني اللبناني.
هذا المجتمع الراغب دائما في نسيان عظمائه من البشر والعظيم من أعمال أبنائه.
هذا المجتمع يستطيع يوميا ان يطحن عظيما من عظمائه حتى لو كانوا قلة ضئيلة. وأن يفتت تحريرا لأراضيه المحتلة حتى لو اضطر الى استعمال طائفة من قاموا بالتحرير سببا لتجاهل العظيم من الوقائع. فلا تستغرب قيادة “حزب الله” إن رغب الناس نسيان أسمائهم وأفعالهم وصورهم.
إذا كانت النخبة لا تعترف بأن ما حدث في لبنان في العام 2000 هو سابقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي إذ ان الانسحاب الإسرائيلي تم كاملا بحسب الأمم المتحدة دون اتفاقية سلام. تخالف هذه السابقة ما حدث بين مصر وإسرائيل وبين الأردن وإسرائيل فكيف نطلب من المجتمع المدني الطاحونة ان يتذكر؟
إذا كانت النخبة نفسها لم تتصرف على انها مسؤولة عن تكريم التحرير ولو دون أبطاله ثم ابتكار أفكار حوار تمهّد لانتقال طبيعي من المقاومة المسلحة التي حرّرت الى المقاومة المنظمة التي تحمي حتى لو كانت موضع نزاع. فكيف نطلب من المجتمع المدني ان يفعل ذلك وهو الرأي العام بما في ذلك الشيعي منه؟
اختيار عنوان الاستراتيجية الدفاعية للبنان للسنة السادسة من التحرير جهد مبتكر من السيد حسن نصر الله. ولكن هل يريد السيد نصر الله إجماعا لبنانيا بعد الاغتيال (ليس الشخصي طبعاً) أم قبله؟
الجواب ليس عند السيد نصر الله. بل عند المجتمع المدني الطاحونة التي حان لها ان تعلم بأن هذه المقاومة ليس مواد أولية لطاحونة سياسية. بدل الاستسلام لشعارات مجتمع سياسي لا نعرف أن نفرق بين الراغب منه في التآمر وبين من هو مرفوض حتى عندما يقدم سيرته الذاتية لمؤسسات المجتمع الدولي.