رحيل علياء الصلح : سنوات الحضور..

مقالات 27 أبريل 2007 0

لم أسأل في حياتي الصلحية كم تبلغ السيدة عليا رياض الصلح من العمر. إذ إن عمر كبرى بنات رياض الصلح لا يُحسَب بالسنوات، بل بالحضور، لذلك فهي عاشت طويلاً، طويلاً، طويلاً. عاشت بقدر ما شكّل التأريخ اللبناني لوالدها الذي سمعت نبأ اغتياله في عمّان وهي طفلة في العام ,1951 ورسّخت في ذهنها صورة الزعيم الكبير الذي ظُلم في دولته العربية أياً تكن عاصمتها: القاهرة، دمشق، بغداد، عمّان، حيث سقط شهيداً. وحاولت بالأصالة عن نفسها في كل حياتها أن تُنتج ما تركه لها والدها واقعاً… فلم تنجح.
حاولت أن تطلق الصبي الذي تركه والدها فيها وهو لم يُرزق إلا ببنات خمس، أكبرهن عليا، وأربع أخريات تنازلن عن إرثهن في الصبي الذي كان يريده والدهن الى شقيقتهن الكبرى، فعملت على صناعة أحلامها الى أن أصبحت أحلامها اشتباكاً لا ينقطع، بينها وبين ترجمتها للكتاب اللبناني لوالدها، وبينها وبين ترجمة عائلتها للكتاب نفسه، وبينها وبين العامة من اللبنانيين والعرب الذين رأوا فيها دائماً عنواناً للاستقلال اللبناني، والذي رفضت عليا أن تعترف لغيرها باستحقاق عنوان الاستقلال.
رفعت مع أبو عمار علم فلسطين منذ أن كان في معسكر الكرامة الأردني على حدود الأرض المقدسة، ولم تترك لا العلم ولا أبو عمار حتى الأيام الأخيرة من حياة الزعيم الفلسطيني.
بدت كأنها شريكة الزعيم الفلسطيني في حلمه. إلا أن يدها الأخرى بقيت ممسكة بحلمها الأصلي الذي رسمته على شكل العلم اللبناني وألوانه.
لوّحت بالعلمين اللبناني والفلسطيني وهي تدخل على الرئيس الراحل حافظ الأسد في المهاجرين، فإذا بصورتها معه تصبح عنواناً لمواجهة الاستقلال مع العروبة العسكرية. لم تكن لتقبل أن تكمل ما بدأه زعيمها ووالدها من اندماج مع عروبة قاسية وظالمة ومتخلفة.
سبّب لها ذلك ما كان يسميه تقي بك، الثاني في كبار عائلتها بعد والدها، نشازاً محدوداً وحاداً عن الموسيقى العربية للعائلة. لم يحسب تقي بك وهو يحاورها، اشتعال قلب الفتاة الصغيرة على والدها ولو بلغت من العمر مرتبة السيدات. ولا احتمل تقي بك، رحمه الله، في كِبَره أن يرى لافتة أحلامه العربية مرفوعة فقط على أبواب السجون وحُفر المقابر.
ذهبَتْ الى باريس فجعلت من حضورها قبل 25 سنة حكاية لبنانية عن حلم يرفرف أينما ذهبت وكيفما حضرت. صار لحضورها الفرنسي تأثير وتقدير، وصار لديوانها في ساحة الكونكورد الفرنسية عقول تموج بالأفكار وتعبق بالحوار قادمة أو مغادرة الى بيروت وغيرها من العواصم العربية. وضعت جلود النمور على مقاعد ديوانها معبّرة عن طبعها وعن حدتها لتحقيق ما دافعت عنه دائماً، بكل اللغات: الاستقلال اللبناني.
صارت تكتب بالفرنسية في باريس وبالعربية في بيروت وبعروبتها في القاهرة، وبتاريخها العائلي في السعودية. تصول وتجول لتقول بأحسن ما في اللغة دفاعاً عن العنوان نفسه: الوجع نفسه؛ الحلم اللبناني نفسه.
لم تشعر مرة بأنها في حاجة الى عنوان أو الى تعريف أو إلى تقديم. تصرفت دائماً على أن اسمها وحده هو العنوان والتعريف والتقديم. كأنه ليس بينها وبين والدها من آخرين، وأن حياته بدأت يوم وُلد واستمرت معها من دون انقطاع، حتى الأمس.
ظهرت في عيون الناس على أنها شقيقة الأميرات وصديقة الملوك والرؤساء، غير أنها حين تضع رأسها على وسادتها مساء كل يوم، تحلم بأنها والدها، حاملاً العلم، الحلم، الزاهي الألوان، الفرِح برفرفته، المنتشر في العالم بانبساط استقلاله.
حمّلت نفسها، رحمها الله، حملاً ينوء البشر تحت وطأته. جعلت من حلمها اشتباكاً عربياً لبنانياً عاشته حتى صار قلقها اليومي.
كانت دائماً على حق في لبنانيتها، إلا أنها بكّرت في إعلانه. غامرت حين كان الكثيرون يسلّمون بما لا قدرة لهم على تغييره. جعلت من حقها اللبناني سوطاً تستعمله كيفما شاءت. صنعت من حقها وطناً مستقلاً لم تصل الى شاطئه.
حين قرأتُ بالأمس أنها غادرت الدنيا وهي في الخامسة والسبعين من العمر، ابتسمت. رأيت في حضورها، مئات السنين، سواء اختلفت مع حقها أو شاركتها حلمها.