ذهبت وحيرتها معها ..

مقالات 21 يناير 2008 0

لم يكن مفاجئاً لي خبر اغتيال بنازير بوتو سليلة العائلة السياسية الباكستانية العريقة الجذور وأصغر رئيسة سابقة للوزراء في الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك قنبلة نووية. ليس لأنها تستأهل الاغتيال لا سمح الله، وهو العمل الذي لا أستطيع القبول به على الإطلاق. بل لأن السيدة التي حافظت على جاذبيتها الأنثوية حتى ما قبل اغتيالها بدقائق بدلال معاملة غطاء رأسها المتحرك في كل الأوقات، اختارت منذ بداية حياتها أن تتنقل بين السياسات تحت شعار الثأر لإعدام والدها.
هي على هذا النحو من الحيرة السياسية منذ أكثر من ثلاثين سنة حين أعدم الجنرال ضياء الحق والدها الزعيم ذو الفقار علي بوتو قبل أن يُعدم ضياء الحق لاحقاً.
تعرّفت إليها في أواخر السبعينيات في بيروت. كانت تتنقل ما بين رعاية الرئيس حافظ الأسد رحمه الله لها ولشقيقها في دمشق حيث تقيم. وبين دلال الزعيم الفلسطيني الختيار ياسر عرفات لصبية في العشرين من عمرها، تشعّ بجاذبيتها أينما حلت. دمها يغلي وحركتها لا تتوقف للثأر لوالدها وهي الصبية الصغيرة التي لا بد أنها كانت تفتش عن والد بديل يضعها في حضنه.
إلا أنها لم تكن ثابتة الاتجاه. فمن الحديث عن التشكيلات الانتحارية التي تريد تشكيلها وقيادتها داخل باكستان، الى البحث عن أحدث مكان لتناول العشاء فيه وهو حال الأرستقراطية القادمة منها. لا شيء ثابتا في تفكيرها، ولا هدف محددا لتحركها. تحميها في حيرتها رعايتان رئاسيتان في بيروت ودمشق، ولو أن الختيار الفلسطيني كان ضيفاً رئاسياً في لبنان.
يزيد في اطمئنانها انطواء شقيقها تحت راية حيرتها دون اعتراض أو تململ.
انقطعت بنا الأيام بعد مغادرة منظمة التحرير للبنان في العام 82 اثر الاجتياح الإسرائيلي، إلى أن التقيتها صدفة في منتصف الثمانينيات في لندن في واحد من نواديها.
كانت ليلة رأس السنة. والفرح الملّون يحيط بالمكان ورواده. دقائق قليلة قبل الثانية عشرة ليلاً، تدخل هي، تسبقها جاذبيتها الضاحكة وفرحها الذي فتح الطريق لها ولشقيقها مرة أخرى بين الساهرين. انتحينا جانباً بعد انقضاء السنة نسترجع مرحلة خط بيروت دمشق.
كانت تدرس في الولايات المتحدة في واحدة من أهم جامعاتها. فطال الحديث على درج النادي، وأطول منه كانت ضحكتها الدائمة الحيرة بين جاذبية فوّاحة تلفت نظر الحاضرين بدخولها الأرستقراطي وبين الحديث عن واجب ثأر لا تستطيع أن تتجنبه ولا تراه حاصلاً بين يديها.
أنقذني أصدقاء من أسر ضحكتها أولاً ومن إكمال السهرة على درج النادي.
بالطبع بقيت جاذبيتها في ذاكرتي، بالإضافة الى حيرتها التي لم تفارق شخصيتها سنوات معرفتي لها.
بعد عشر سنوات من لقاء لندن صارت بنازير السيدة الأولى لباكستان. رئيسة للوزراء أمامها جمهور عريض من المؤيدين الذين حققوا فيها ثأرهم لإعدام والدها. يستبقها انبهار غربي بثقافتها وانفتاحها على الحداثة وصغر سنها واندفاعها اللامحدود.
ارتكبت أسوأ ما يمكن لسياسية شابة أن تفعل. تزوجت من رجل أعمال يرى في الدولة مسرحاً للمزيد من ثروات الفساد. لم يكتف الزوج بذلك فقط، بل شجعها على التخلي عن حيرتها في الاتجاه الخاطئ خلقياً وسياسياً. تمرّدت على والدتها وشاع خبر التمرد في الصحف وسقط شقيقها المنضوي طيلة حياته تحت لوائها، قتيلاً في جريمة اتهم فيها زوج السيدة رئيسة الوزراء.
شهد عهدها إقطاعية انتقائية على حد وصف المؤرخ الأميركي وليامز دالريمبل فحصلت على أعلى نسبة من الإدانة من منظمات الشفافية الدولية وصنفت حكومتها ضمن الحكومات الأكثر فساداً في العالم. بعد أن تبين أن أرقام عمليات القتل الخارجة على القانون والتعذيب والموت في الحجز، فاقت كل التقديرات.
تخلّت بنازير بوتو عن كل ما تعلمته في الجامعات الأميركية، وكل ما تربت عليه من قيم عائلية أرستقراطية عريقة، لتتحول الى رئيسة حكومة من العالم الثالث جداً تأخذ من المال العام الحصة الكبرى وترد على من ينتقدها بالسجن والقتل.
فعلت أكثر من ذلك. في عهد حكومتها أسست المخابرات العسكرية الباكستانية المدراس الدينية التي خرّجت تلاميذ أفغانا قلبوا النظام السوفياتي في بلادهم وحكموها باسم الشريعة العمياء تحت اسم الطالبان .
لم يشفع لها ذلك. أخذت معها لاحقاً فضائحها الى منفاها بين لندن ودبي.
قبل ذهابها الى المنفى. شاء القدر أن أرافق الرئيس رفيق الحريري الى القمة الإسلامية التي ترأستها بنازير في إسلام أباد. كان واضحاً أن هناك افتعالاً للمشاريع العمرانية لكي يحقق زوجها المزيد من العمولات. دون ضوابط حتى في مستوى التنفيذ.
المقر المبني حديثاً للقمة الإسلامية شاهد على ذلك. مبنى تظهر النتوءات في سقفه وحيطان مشوهة في استقامتها وطلاء يتكسر في الكثير من الأماكن. وفاتورة تفوق القيمة الحقيقية بثلاث مرات على الأقل.
كانت بنازير متسرعة في إظهار نجاحاتها الوهمية لكي تخفي ارتكابات زوجها. عندما أتيح لي أن ألقي عليها التحية، تجاهلت سيرة الماضي، وكذلك بالطبع فعلت هي.
رأيت أن جاذبية ابتسامتها لم تتراجع. وكذلك حيرتها. وجدت في وجهها الحيرة نفسها التي رأيتها قبل ثلاثين سنة في بيروت. والأسئلة القلقة هي نفسها. هل في ما تفعله صواباً في الدفاع عن إرث والدها أم أنها أخطأت ولم يعد باستطاعتها العودة عن خطئها.
عادت بنازير من منفاها الى وطنها لتستنفر جمهورها العائلي والمناطقي الى سياسة لم يعد لها مكان في تلك المنطقة من العالم. كما فعلت في الكثير من قراراتها السابقة. اعتقدت أن السياسة الأميركية تحمي ديموقراطيتها الانتخابية. فوعدت بتسليم عبد القادر خان العالم النووي الفعلي والأبرز في العالم الإسلامي. اندفعت على عادتها دون أن تتخلى عن حيرتها. فذهبت غيلة وحيرتها معها.