“خماسية المشنوق” تبرمج المفاوضات وتجمّل تشوهاتها حين ينتفض الجمهور “الأزرق” على تقلّبات قيادته

قالـوا عنه 30 يناير 2014 0

بينما كان أمين الجميل يناقش وفداً من “كتلة المستقبل” في كيفية ترجمة “المقاومة المدنية” التي أطلقها فؤاد السنيورة إلى خطوات عملانية، كان الشيخ سعد الحريري يصنّع بعيداً عن أنظار حلفائه، وليس خصومه، “قنبلة”من العيار الثقيل، سرعان ما ستهبط على رؤوسهم كالصاعقة.
خرج النواب “الزرق” من الدارة العتيقة في بكفيا، وهم يحسبون الخطوات التصعيدية المقبلة: كيف سيحفظون “رؤوسهم”، ويحافظون على ما تبقى من “مكتسبات”؟. سبق أن التقوا في جولتهم كلاً من البطريرك الماروني بشارة الراعي وسمير جعجع، ليتشاوروا معاً في برنامج عمل الأيام المقبلة، التي يفترض أنّها صارت مصيرية.
للمفارقة، فإنّ الوفد “المستقبلي” كان يستعرض مع مضيفيه سلّة أفكار واسعة، بينها ما يلامس السقوف العالية الخيالية، وبينها البراغماتي الذي يراعي “فنّ الممكن”. كانت المروحة تتدرّج من الدعوة إلى عصيان مدنيّ، لم يلق ترحيباً لكونه قد يتحول إلى مسمار أخير في نعش المؤسسات الدستورية وسيحمل الانهيار الاقتصادي.. إلى العصيان الدستوري عبر استقالة نواب “14 آذار” والامتناع عن المشاركة في أي نشاط رسمي، إلى حين وضع قواعد جديدة للتعامل مع الآخرين.. وصولاً إلى “الكيّ” عبر حكومة “الممكن”، كما يسميها هذا الفريق.
في تلك الجولة بدا جعجع غاضباً ومتحمساً لأي عمل اعتراضي، بينما لم يبدِ الجميل ممانعته حتى لو اضطر الأمر إلى دعم حكومة اللحظة الأخيرة، أي حكومة الأمر الواقع، وإن كانت تجربته كما أبلغهم لا تشجّع على ذلك. أما الكاردينال الماروني فأظهر تفهّماً لكلّ ردة فعل قد يقوم بها هذا الفريق، ودعاهم إلى تشكيل لجنة مشتركة تفكّر بهدوء وبصوت عال.

الخطة “ب”

وللخطة “ب” زار الوفد كلاً من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف. الهدف الضغط من أجل إخراج الحكومة الحيادية من شرنقتها. بالفعل تعهد الرجلان بأن يفرضا هذه التشكيلة في الخامس من كانون الثاني فور عودة الرئيس ميشال سليمان من رحلته الخارجية.
هذا ما كان يحصل في بيروت، في الشطر “الآذاري” منها. أما من كان في باريس، فكان يحلّق في كوكب آخر. لم تصدّق آذان المستقلبيين ما وصلهم عبر الأثير الإعلامي وبالتواتر، عن موافقة شفهية أودعها سعد الحريري البريد السريع، كي تصل صندوقة بعبدا بلمح البصر.
طبعاً، لم يكن أمين الجميل، أو فؤاد السنيورة أو سمير جعجع في جو تلك “الانحرافة”، ولم تخطر في بالهم، حتى أثناء النوم. هؤلاء الثلاثة وبعض النواب “الزرق”، كانوا يشحذون سكاكينهم، التي تآكلها صدأ الصدمات والإحباطات المتراكمة.. كي يبدأوا معركتهم.
وإذ بـ‘”الشيخ” يسلبهم آخر أسلحتهم، ويفرض عليهم السباحة عكس التيار: المطلوب النزول من حلبة المصارعة، للانتقال إلى ملعب الشراكة مع “العدو”.
طبعاً ساد الإرباك في صفوف “الضباط” الآذاريين قبل “الجنود”، بينما الصدمة بدت جلية على خطاباتهم كما وجوههم. حتى انّ بعضهم لا يزال حتى اللحظة مصاباً بالدوار. أما الجمهور ففضل أن يكون متصالحاً مع ذاته. لم يهضم هذه “الاستدارة” ولم يتفهمّها، على الرغم من التأكيد الواضح والصريح الذي سجّله “نجل الشهيد” صوتاً وصورة.

الفائدة في التنازل

بالموازاة، حاول نهاد المشنوق برمجة الاشتباك من خلال تحديده بخمس نقاط: شكل الحكومة، المداورة، البيان الوزاري، حقّ الفيتو العادل لكل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، والتخلي عن الفيتو المعطل سواء كان مقنّعاً أو فاقعاً.
عملياً، سعت”خماسية المشنوق” إلى تحويل النقاش من الامتناع عن الجلوس مع “حزب الله”، إلى كيفية الجلوس معه. كانت نوعاً من الحفاظ على ماء الوجه، لإضفاء نوع من الفائدة على التنازل، أو إلحاقه بجدول أعمال، من باب تجميل التشوهات التي أصابت حملة “المقاومة المدنية”
وهكذا انتقل الخلاف من شكل الحكومة، وطبيعتها، إلى عمق بيانها الوزاري. الأكيد أنّ الكثير من مكونات الفريق الآذاري كان يفضّل أن يمارس “شيخهم” كل أنواع الضغوط على “شركائه الجدد” تحت عنوان البيان الوزاري لتحصيل مكاسب أكثر. مرّة جديدة فعلها الرجل، ولم يستوعب “ممثلوه” المبررات التي قد تدفع بسعد الحريري إلى تقديم “شيك على بياض” من خلال إعلان نيته المشاركة الصريحة مع “حزب الله”.
توالت الصدمات في الشارع، كأنها مبرمجة لتكون بمثابة علاج كهربائي، يحوّل الأسود إلى الأبيض. حتى اللحظة، لم يلفظ البركان “الأزرق” حممه الاعتراضية. ولم ينبئ حتى بوجودها. لكن المستمع إلى صوت جوفه، يدرك جيداً أنّ ثمة حراكاً استثنائياً يدور في باطنه. يكفي أن يتحول سمير جعجع مرة أخرى، إلى “قائد” يُشاد بوقفاته وبمواقفه في البيئة المستقبلية، كي يتأكد من أنّ “الانعطافة” الثانية لزعيم “14 آذار”، لن تمرّ مرور الكرام.
سبق للاستدارة الأولى، التي بصم خلالها الرجل بالحبر الدمشقي على “السين سين”، أن فعلت فعلها في الجسد الآذاري، ومزّقت بعضاً من وحدته، وضربت بمصداقيته عرض الحائط. وها هي اليوم “الخطيئة” الثانية تهدد كيانه.
أصلاً، أوضاع هذا الفريق ليست في أحسن حال: تفلّت داخلي بفعل تعدد الرؤوس، غياب صاحب القرار عن دائرة القرار، القيادات في ضفّة بينما الجمهور في الضفّة الأخرى.. وأصحاب الفتاوى التكفيرية يقضمون الطبق رويداً رويداً وعلى مرأى من “حراس الهيكل الزرق”.
وبالنتيجة تفاوت في حجم ردّة الفعل ووقع “الانقلاب” على أذهان “الزرق”. في “كتلة المستقبل” الكل عضّ على الجرح، لكن لاعتبارات مختلفة. بعض أعضائها من المستوزرين الجدد، يدفعهم الطموح الوزاري إلى تغليب مصلحة الكرسي على مزاج الجمهور وتطلعاته، فيركب القافلة من دون أي حرج. البعض الآخر لا يزال يحسبها جيداً، ويرصد عن بُعد أصداء الشارع. بنظر هؤلاء، هذه الحكومة ليست شعبية، وبالتالي فإن الجلوس على كرسيها ليس قطعة “بقلاوة” يمكن التهامها بشهية. تأتيهم بعض الأخبار عن انكفاء بعض الحزبيين عن العمل التنظيمي اعتراضاً على التحول الدراماتيكي في الخطاب.. فيزدادون تصلباً وتراجعاً نحو الوراء. كثر من الحزبيين لم يقتنعوا بحجّة “ربط النزاع” التي رفعها سعد الحريري، فقرروا الجلوس في منازلهم.

انضباط نيابي

حتى الآن، لم يخرج أي من نواب “المستقبل” عن “التعميم القيادي”. لا خالد الضاهر صوّب بندقيته عليه، مع أنّ ضبطه ليس بالأمر الصعب وفق عارفيه. ولا معين المرعبي وضع عصاه في الدولاب، مع أنّ جهوداً كثيرة بذلت كي يمرر هذه المرحلة من دون أن يشاغب. حتى محمد كبارة مشى في الصف. ومع ذلك، فإنّ هذا الهدوء لا يشي باستتاب الوضع.
يتردد أن في بال نهاد المشنوق وأحمد فتفت، موالا اعتراضيا قد ينشدانه إذا ما طاف الكوب. أن تبقى حال الغليان الصامت في الشارع المستقبلي ليس تفصيلاً، ولن يفوّت بعض النواب الزرق هذه الفرصة في مجاراة المزاج الجماهيري. وبالتالي يصير حجب الثقة أكثر شعبية من منحها. قد يفعلها المشنوق وفتفت إذا ما قررا مجاراة مناخ الناس.
لكن الأكيد أنّ الطريقة التي هدم بها سعد الجريري جدار النزاع مع “حزب الله”، من دون أي مقدمات تمهيدية، لن تُبلع من جانب جمهوره.. وقد تؤسس لتشققات جديدة في الجسد الآذاري.
صحيح أنّ الرجل حاول تقديم نفسه كزعيم للاعتدال في طائفته بوجه المدّ المتطرف، وقد أثبت أنّ المبادرة ستعود إلى حضنه مهما تعدّدت الوجوه على الساحة السنية.. إلا إنّه مع ذلك لن يستطع حماية خزانه البشري من ضريبة الانقسام في الرأي، لا بل التمرد على مشيئته. قد لا يتعدى هذا التمرد داخل “تيار المستقبل” حدود التساؤلات الجوهرية حول صحّة هذا الخيار وفعاليته. لكن على مساحة “14 آذار” قد يكون الثمن أغلى.