“حماساً” لآخر الكبار ..

مقالات 30 يناير 2006 0

لم أكتب عن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عندما اغتيل مسموماً. لم أكتب عنه رغم سنوات العشرة الطويلة في بيروت. شاب صغير لا تتسع الدنيا لقبضة يده يناقش زعيماً تاريخياً في الخطأ والصواب تحت شعار انني قومي عربي ولي عليه حق النقاش والخيار أما القرار فله أن يأخذه.
يفتح هو صدره لهذا الحق في الحوار والخيار. يجري عليّ تمارين النقاش. يريد أن يستكشف آراء الشباب الصغار في سياسته. يقبل منهم ما لا يقبله من غيرهم قادة وزعماء ومشايخ أحياء. كلهم كانوا يأتونه سائلين مستفسرين منتصرين له ولثورته، وهو يفتش عمن يفتح له الأبواب الأخرى الموصدة في وجهه محلياً، أي لبنانياً، ودولياً حين لا ينزع عينه عن السفارة الأميركية في بيروت مفتاحاً لا غنى عنه لاقتحام العالم.
كانت تسكنه عظمة شعبه. يحكي عن فقر الشعب الفلسطيني وعن تشرده في أصقاع العالم لكنه لم يتخل أبداً عن عظمة شعب مارس الكفاح المسلح من حدود الى حدود. لا يتعب. لا يكل. لا يملّ. فكيف لا يفخر به؟
يلبس لكل لقاء ما يناسبه. حين تكثر المساعدات العسكرية السوفياتية تجده يضع الكلبك الروسي على رأسه. تقوى لهجته المصرية حين تكون العلاقات مع مصر على أحسن حال. يتمتع بإضفاء أناقة “الكوفية الفلسطينية” طوال الوقت.
يضع الكثير من الاقلام ذات الألوان المتعددة في جيب قميصه. حتى قيل ان لكل لون معنى حين يستعمله. واحد للتأجيل، آخر للتنفيذ، ثالث للإلغاء.
متقشف الى حد الارباك. يفرح بإطعام ضيوفه بينما هو يتناول فتاتاً من هذا الصحن وذاك وكأنه طعام عصفور. حتى يأتيه الحلو الخاص به فيفرح كالأطفال. إذ ان الحلو نفسه مخصص للأطفال.
لا يهدأ. ينام على الطريق بين بيروت ودمشق. يصلها حين يكون الآخرون قد أنهكهم التعب ويريدون الذهاب الى النوم.
لا يترك حاكماً عربياً ينام وهو في أزمة. لا يوقف الاتصالات. يجعل الحاكم المستمع اليه يهلع من وصفه للأزمة. يجعلها عشر مرات أكبر. فهو يعلم أن الحاكم الآخر على الخط الهاتفي لن يقدّر حجم الأزمة الفلسطينية إلا إذا شعر بأنها ستنهال على رأسه.
دائرته الصغيرة تتسع لكل الناس، الصغير والكبير، البسيط والرفيع المستوى. قد يكون سفير دولة كبرى في زيارته. وعلى الباب صاحب حاجة يحمل بيده ورقة تحتاج الى توقيع كفيل بسد حاجته. يتحدث مع السفير في القضايا الكبرى ويناقش الصغير في حاجته قبل التوقيع على الورقة.
يتمسك بالسلطة بالتفصيل الممل الى درجة لا يمكن تصور نجاح مثل هذا الأسلوب. يريد أن يكون القائد العسكري والمدير المالي والمنظّر وصاحب القول الفصل في كل ما يتعلق بالشعب الفلسطيني. رغم ذلك أحبّه شعبه الى درجة يمكن معها القول انه الزعيم الأكثر تمثيلا لشعبه في التاريخ العربي الحديث.
أثرياء الفلسطينيين، مهندسوهم. أطباؤهم، فقراؤهم، بلطجيتهم، تجارهم، متسكعوهم. كلهم يسلّمون بزعامة ياسر عرفات. يختلفون معه، يتفقون عليه، يعودون دائما الى التسليم بزعامته.
لُقّب بالختيار. الوالد. الزعيم. الرئيس. الأخ. ولا مرة لبسه ثوب الرئاسة. »الختيار« هو اللقب المحبب الى قلبه. فيه المرجعية المحبة لا الموالاة أو المعارضة.
كان يرى في حركته “فتح” أم القضية الفلسطينية وأباها وأهلها. ليس لأنها الوعاء الوطني لمختلف الاتجاهات الفلسطينية يساراً ويميناً ووسطاً واعتدالاً، بل لأن فيها أيضا كل لهجات المدن الفلسطينية وروائح البساتين الفلسطينية على اختلاف ثمارها.
فتح ليست فقط عصبه وعصبيته بل هي الشجرة الوارفة التي يتفيأ الجميع بظلها. تنصب قامته. تنصر قضيته. تحقق حلم الوحدة الوطنية الفلسطينية دائما وأبداً. يناقش اليسار في نصوصه وكأنه نشأ في الاتحاد السوفياتي. يتقدم على الاسلاميين في المناقشة لأنه وحركته انطلقا من رحم الاخوان المسلمين، فتخال أنك تناقش أزهرياً عتيقاً بين الأزهريين.
كلما اشتدت عليه الأزمات يخلو الى نفسه ومصحفه يرجو زوال الغمّة من بين أسطر آياته. والله سبحانه وتعالى يستجيب.
اعترفَ بأهمية الاعلام كما لم يفعل أي زعيم عربي. صادق عدداً كبيراً من الصحافيين العرب والأجانب، جعلهم يعيشون معه حياته البسيطة وينتصرون لقضيته المعقّدة.
أصبح متخصصاً بالاختراق من كثرة ما أوصدت في وجهه الأبواب.
حمل معه خفة الدم والمراوغة من مصر حيث درس الهندسة. لم يكن لأحد سمع منه نصاً أو تلقى منه وعداً أو حمل منه توصية، أن يتأكد مما سمع أو تلقى أو حمل إلا بعد التنفيذ. قال لرئيس وزراء لبنان الاسبق تقي الدين الصلح وكانا مجتمعين في مستشفى البربير: تقولون عني انني أراوغ وأكذب. أنا أقتل من أجل قضيتي: فكيف تستغربون المراوغة؟
كان يعلم أن قضيته تتقدم بالمليمترات وسط حرب عليها لا تتوقف سواء من العرب أو الاجانب، فضلا عن العدو الاساسي الاسرائيلي، مما أعطاه الحق بأن لا يحرّم ولا يحلل في سبيل قضيته حتى امتزجت صورته بالقول ان هناك دائما مفاجأة ما في أحد جيوبه.
حسّه الأمني عال جدا. لذلك استطاع إنقاذ نفسه من المحاولات الإسرائيلية المتكررة لاغتياله. هناك روايات عديدة عن طرق تنقّله وحركته أثناء الاجتياح الاسرائيلي لبيروت.
ذهبت لملاقاته مع هاني الحسن عضو اللجنة المركزية ل”فتح” في بناية عكر في منطقة الصنائع في بيروت.
دخلنا عليه في شقة في البناية غير مكتملة وفارغة إلا من كرسيين بلاستيك.
اثنان من مرافقيه يحملان شرشفاً وهو يغير ثيابه وراءه. كان حاد الرفض للقرار 242 الذي يعترف بإسرائيل مضيفاً انه لن يقبل هذا القرار لو أعطوه كل العواصم العربية.
أقبل علينا متحدثاً عن الصمود. لاحظت رقعتين في قميصه الكاكي. لم أقل شيئا فأنا أعرف تقشّفه المفرط في مسائله الخاصة.
غادرنا المبنى هاني الحسن وأنا ومشينا نحو مبنى الإذاعة اللبنانية. بعد أقل من خمس دقائق رأينا مبنى عكر ينهار نتيجة قصف جوي إسرائيلي بقنابل فراغية، لا تسمعها ولكنك ترى نتيجتها. ارتبكنا وبدأنا الركض نحو فندق “كافالييه” في الحمراء الذي كنت أنزل فيه. فإذا بهاني بعد دقائق يؤكد أن أبو عمار غادر المبنى قبل أن يقصفه الطيران الإسرائيلي.
ميّز دائما في حديثه السعودية ومصر. ليس لأنهما ثابتتان على موقفهما من القضية الفلسطينية، بل لأنهما لم يحاولا ولا مرة التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني أو إنشاء تنظيمات موالية لهما. كما فعل العراق وكما فعلت سوريا بامتياز.
مررت لزيارته في العام 82 قبل الاجتياح. قلت له انني ذاهب الى مصر لمقابلة الرئيس حسني مبارك المنتخب حديثاً. حاول ردعي عن السفر خوفاً من التفسيرات السورية لمثل هذه المقابلة. لم أستجب وسألته إن كان يريد إيصال رسالة الى الرئيس المصري. بدأ يضحك وقال أولا أريد أن أذهب قبلك لعند الحبايب. ثانياً اسأل الرئيس المصري لماذا لا يرسل فرقة من جيش مصر الى لبنان طالما انه لا يحتاجه في الداخل بعد كامب ديفيد. وأكمل الضحك كأنه يرى القاهرة أمامه.
حاول الإسرائيليون إخراجه من باب التاريخ مرات طوال ثلاثين عاما. استطاع دائما فتح ثغرة في حائط التاريخ ليدخل اليه من جديد رافعاً شارة النصر وسلاح شعبه وعظمة قضيته.
المرة الأولى في العام 1970 حين وضع يده على الأردن حيث الأكثرية فلسطينية. اعتبر الحدود الإسرائيلية الأردنية منصة لانطلاقة العمل الفلسطيني المسلح. اصطدم بالدولة التي يمثلها الملك حسين المحمي نظامه من الأميركيين والإسرائيليين. عض الملك المحنّك على جرحه طويلا الى أن سادت الاوساط الأردنية النظرية التي تقول بأن الأردن هو الوطن البديل. خطفت ثلاث طائرات غربية مدنية الى عمان وجرى تفجيرها في المطار. أمسك العاهل الأردني بعصبية رفض الأردن وطناً بديلاً وخاض الجيش الأردني حرباً ضارية في وجه المسلحين الفلسطينيين، الى أن تدخل الزعيم المصري جمال عبد الناصر وعقد قمة عربية أوقفت حمام الدم المسمى بأيلول الأسود.
خرج أبو عمار تحت عباءة الشيخ سعد العبد الله ولي العهد الكويتي آنذاك من عمان الى القاهرة. تصرف في العاصمة المصرية على أنه الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وكأن لا حرب وراءه ولا دماء، بل محطة في مسيرة هذا الشعب.
من القاهرة الى دمشق فبيروت. حيث بدأت توضع الحرب الأهلية على النار. زادها هو التهاباً. اقتطع منطقة في الجنوب سميت “فتح لاند” وأكمل طريقه من الجنوب اللبناني فضلاً عن باقي المناطق والمدن وخطوط التماس. سألته مرة لماذا اخترت لبنان منطلقاً لعملك العسكري بدلا من سوريا رغم معرفتك بالحساسية اللبنانية الطائفية من العمل الفلسطيني. أجابني: اخترت مخاطر لبنان الشخصية والعامة بدلا من السجن السياسي والإعلامي في سوريا.
في العام 1982 خرج من لبنان عبر مرفأ بيروت بثلاث فرقاطات عسكرية فرنسية. المحطة الأولى اليونان، ثم تونس حيث استقر مع كوادره وقياداته وقواته المعسكرة في صحارى ليبيا والجزائر وتونس.
أصيب ومن معه بالوحدة القاتلة هناك. لا سياسة. لا عسكر. لا قضية. بل إدارة بدائية ومملة للشباب كما كان يسمي مقاتلي حركته. أكثر من ذلك لا أحد يتصل. لا أحد يهتم. الى أن كانت انتفاضة الحجارة. عاد الزهو الى وجه أبو عمار. ها هو شعبه يرفض الاحتلال بالحجارة. يتساقط الشهداء كل يوم والانتفاضة تزداد اشتعالا حتى أثمرت عودة الاتصالات والمفاوضات في العاصمة السويدية أوسلو وبسرية تامة. سقطت محادثات أوسلو في المرة الأولى فبدا وكأنها انتهت الى الأبد.
عادت المفاوضات. دخل أبو عمار الى غزة رافعاً العلم الفلسطيني على الأرض الفلسطينية منهياً ثلاثين سنة من العمل العسكري من الخارج ليعود زعيماً لشعبه يدعم العمل العسكري من الداخل.
كيف؟
لم يكن ياسر عرفات ليعتبر أن ما حققه نهاية العمل الفلسطيني، بل هو مرحلة متقدمة من المراحل التي مر بها الشعب الفلسطيني. وان على من يجلس على مقعد القيادة أن يكمل الطريق.
كان هو الوحيد الذي يجمع بين المتناقضات الى درجة أصبحت شخصيته ملازمة لهذه الصورة. يحكى أن كادراً من “حماس” على درجة عالية من الخطورة بحيث ان الإدارة الأميركية طلبته شخصياً من أبو عمار، كان في ديوانه مجتمعاً مع قياديين من مختلف الفصائل فإذا بضابط متحمس يدخل عليه فرحاً ليبلغه انهم عرفوا بمخبأ الكادر من حماس، فما كان من أبو عمار وهو يعرف هوى التقارير عند بعض الحاضرين إلا أن طلب من الضابط إعداد دورية للذهاب الى مخبأه واعتقاله. استأذن من الحاضرين وخرج من ديوانه ليطلب من أحد كوادره المقربين أن يخلق كادر حماس من تحت الأرض لتغيير مخبئه فوراً. هكذا حدث. وصلت الدورية فلم تجد المطلوب اعتقاله.
كان يعتبر أنه المفاوض ولكن المقاومة هي سلاحه. فضلا عن أصوله الاسلامية التي تجعله متفهماً وراضياً عن المقاومة الاسلامية شرط أن يُسمح له باستعمالها في المفاوضات عند الضرورة في سبيل القضية.
رعى الانتفاضة الثانية في العام 2000، ولأنه مسؤول عنها، كلما ازدادت عليه ضغوط اعتقال المنتفضين اعتمد سياسة “الباب الدوار”، الذي يدور كلما دخل أحد المقاومين ليخرجه من الباب نفسه.
نجح الشعب الفلسطيني في حماية تاريخه وحافظ على صفحات “أبو عمار” رغم كل الصعوبات. وقبل ذلك وبعده تمسك بوحدته الوطنية بعيداً عن استعمال السلاح ونتائجه. إذ ان الشعب الفلسطيني واحد من القلة النادرة في الشعوب العربية التي لم يعرف تاريخها انقساماً مسلحاً أو فرزاً وطنياً. وهو في هذا يشبه الى حد كبير الشعب المصري الذي لم يعرف حتى فترة قصيرة أي مصاعب في وحدته الوطنية.
بالتأكيد كان الرئيس ياسر عرفات الذي جمع في شخصه الكفاح المسلح والعمل السياسي والمقاومة والادارة الفاسدة داخلياً والترفع الشخصي، بالتأكيد كان يرى المد الاسلامي يتصاعد وهو محاصر في مقره في رام الله حيث تقف الدبابات الاسرائيلية على الابواب، حيث خاض أنجح المعارك الاعلامية في حياته. لكن التغيير أصبح متأخراً. أولا بسبب صحته التي بدأت تتدهور دون أن يجد الاطباء جواباً على حالته الصحية. وثانياً بسبب التركيبة الوطنية لحركة “فتح” التي نشأت في فترة المد القومي وزعامة عبد الناصر ووجود الاتحاد السوفياتي. إذ ان ابو عمار هو أول من تحمس لنجاح الثورة الاسلامية في ايران وعيّن هاني الحسن عضو اللجنة المركزية “لفتح” مديراً لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في طهران لعدة سنوات.
خرج الرئيس الصبور من حصاره بعد سنتين الى باريس حيث ازدادت أسئلة الاطباء بدلا من إجاباتهم.
يقول معن بشور الامين العام للمؤتمر القومي العربي عن تلك الفترة انه سأل ناصر القدوة مندوب المنظمة في نيويورك في ذلك الحين ووزير الخارجية الفلسطيني الحالي وهو ابن شقيقة عرفات عن مرضه فأجابه ان شفاءه قرار سياسي. إذ ان دولاً غربية عديدة تفاوض اسرائيل لتحديد نوع السم الذي وضع لعرفات دون نتيجة. وهو ما حدث مع خالد مشعل زعيم حماس حين حاول عميل الموساد اغتياله في عمّان فاعتقلته السلطات الاردنية، مما دعا رئيس الموساد الى زيارة عمّان حاملا معه المضاد للسم، ثم أفرج عن الشيخ أحمد ياسين المعتقل لدى الاسرائيليين مقابل تسليمه عميل الموساد. فشل الاسرائيليون في محو صفحات أبو عمّار من تاريخ وطنه، لكنهم نجحوا في إعادته ملفوفاً بالعلم الفلسطيني الى رام الله حيث دفن.
لم أكتب عن “أبو عمار” حين اغتيل مسموماً. إذ إنني استصعبت على نفسي تجاوز ما أقرأه وأعرفه عما يجري حوله. كانت أخبار الادارة الفلسطينية تنشر وكأنها تتحدث عن دولة قديمة لها تراث في الفساد، لا على أنها نابعة من ثورة فيها الكثير من العذاب والقهر والألم. تسمع أسماء صغار صغار وقد أصبحوا كباراً في الفساد فيصغرون أكثر. تقرأ عن مندوب إخباري صغير أصبح رجلا كبيرا في الأعمال. تعرف عن صراعات بين الأمنيين الكبار فتعتقد أنك تناقش خلافات قبائل متخلّفة.
لذلك صبرت حتى جاءت الانتخابات الفلسطينية الأخيرة لأجد الفساد من بين عناوينها الاولى، فكان لا بد من العودة الى وداع أبو عمار قبل مناقشة ما خرجت به صناديق الاقتراع من انتصار كاسح لحركة حماس الاسلامية.
حماس مثل فتح، كلاهما خرج من رحم العمل الاسلامي. الثانية انخرطت في ظروف المنطقة العربية والانقسام الدولي فلعبت على وترهما خدمة لقضيتها. والأولى أمسكت بإسلامها لخدمة قضيتها حين صار الإسلام مرجعاً سياسياً لكثير من الحركات المتوثبة نحو الحكم بعد التجربة الايرانية.
استطاع الشيخ أحمد ياسين المتخرج من جامعة الأزهر في مصر أن يؤسس حركة حماس رغم ظروفه الصحية الصعبة. فهو مقعد منذ أن كان في السنة الثانية عشرة من عمره، ونظره ضعيف. انضم الى تنظيم الاخوان المسلمين خلال دراسته في الأزهر ثم عاد الى غزة ليعمل أستاذاً. ثم انتسب الى جامعة عين شمس المصرية فرحّلته السلطات المصرية بعد سجنه لمدة شهر بتهمة الانخراط في العمل مع تنظيم الاخوان في العام 1966. اعتمد الشيخ ياسين الدعوة الاسلامية لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي، وأسس مجمع الاسلام للاهتمام بالمساعدات الطبية والتعليمية الى أن سيطر على كل المؤسسات الاسلامية في غزة.
اعتقله الاحتلال الاسرائيلي في العام 1983 وحكم ب13 سنة من السجن لاتهامه بتخزين السلاح. أفرج عنه بعد سنتين في عملية تبادل للأسرى. في العام 1987 أسس الحركة الاسلامية المسلحة “حماس” مخالفاً بذلك سياسة منظمة التحرير. وبعد سنتين اعتقلته اسرائيل مع 200 عنصر من حماس وحكموا بالسجن مدى الحياة، الى أن أفرج عنه في العام 97 في عملية مبادلة مع الأردن بعميل للموساد.
استقبله الآلاف في غزة. فاجأ الجميع بعرضه الهدنة على اسرائيل اذا انسحبت من الضفة الغربية وقطاع غزة.
أكثر من ذلك، وعد الاسرائيليين بوقف الهجمات على المدنيين إذا أوقفت هجماتها على المدنيين الفلسطينيين.
لم تشفع له هذه المواقف. في ايلول 2003 نجا من محاولة اغتيال اسرائيلية بقصف جوي على مبنى يعقد فيه اجتماع لقيادة حماس. وفي آذار 2004 اغتيل بثلاثة صواريخ أطلقتها مروحية اسرائيلية أثناء خروجه مع مرافقيه وأقاربه من صلاة الفجر.
أخذت قيادة حماس من إيمان مؤسّسها زاداً. أضافت إليه خبرتها في التعبئة الشعبية. خاضت الانتخابات البرلمانية فجاءت النتائج لتذهل العالم. البعض اعتبرها انتفاضة ثالثة في وجه المفاوضات مع اسرائيل على خريطة الطريق التي لو استمرت على سرعتها الحالية لأخذت سنوات مع أعمار الكثيرين من القيادات الفلسطينية.
آخرون اعتبروها زلزالاً يصيب المنطقة، خاصة أن الصور الأخيرة لخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس أخذت في دمشق وفي طهران، بما يمكن اعتبارها أي نتائج الانتخابات إضافة الى الرصيد الايراني في المنطقة العربية.
الحقيقة أنها انتخابات ديموقراطية جرت بشفافية مطلقة وبمراقبة دولية جدية، وبالتالي فإن نتائجها تعبّر عن الواقع السياسي الحالي للشعب الفلسطيني.
لكن لماذا تخلى الشعب الفلسطيني عن حركته التاريخية الأم فتح لصالح الاسلام السياسي الحديث في حركته؟
أولا: شهد الموضوع الفلسطيني أعلى نسبة من الوعود الاميركية لصالح سلام تنفذه اسرائيل بواسطة دباباتها تارة وسلاحها الجوي تارة اخرى لقتل الناس وتدمير المناطق، مما خلق مزاجاً مقاوماً لدى الشعب الفلسطيني خارج إطار سياسة المفاوضات. وهذا تجاوب طبيعي مع الانتخابات المصرية التي أعطت 20 في المئة من مقاعد مجلس نوابها للاخوان المسلمين رغم مركزية السلطة المصرية في يد الحزب الحاكم. كذلك مع السياسة السورية التي تؤكد رفضها للسياسة الاميركية في المنطقة يومياً. وللسياسة الايرانية التي تخوض صراعاً عنيفاً للدفاع عن حقها في التخصيب السلمي للذرّة. الفضل الاكبر لانتصار حماس أنها أدخلت أهل السنّة بقوة في الهلال الايراني فاختلط الخمر بالماء لكي تخف حدة شيعية الهلال المرتقب.
ثانيا: دخلت حركة فتح في الانتخابات دون قضية ودون عنوان ودون زعيم بعد تسميم أبو عمّار، وسط خلافات داخلية مذهلة في الرغبة بالترشح بأعداد كبيرة في الدوائر نفسها. مما أوضح أن الحركة لا تستطيع الاعتماد على تاريخها فقط في غياب معظم زعمائها التاريخيين مثل أبو جهاد وأبو اياد وغيرهما. هذا فضلا عن نسبة الفساد بين الفتحاويين الذين تسلموا مناصب عامة فبدا وكأن التنمية الضرورية للغاية في قطاع غزة تذهب مع فسادهم لتعود مع إصلاح القادمين الجدد.
ثالثا: كان أبو عمار يجمع صفة المقاوم على ضرورة المفاوض. لم يستطع الرئيس الجديد محمود عباس “أبو مازن” أن يضمن هذه الثنائية. اختلف مع رئيس حكومته “أبو العلاء”الذي كان كادراً دون الوسط أيام الوجود الفلسطيني في لبنان.
كان أبو عمار يدفع المال ويعيّن في المناصب ويسجن المتمرد. هرب أبو مازن من العناوين الثلاثة وبالتالي من تجربة السلطة. تصفه افتتاحية “نيويورك تايمز” بأنه منطقي دون عاطفة، مفاوض دون سياسة، سوداوي المزاج يهدد بالاستقالة كلما صعبت عليه الأمور. تركته فتح والفصائل الفلسطينية واسرائيل وحيداً. حنان عشراوي تصفه بأنه يدور حول نفسه ولا يفعل شيئاً.
عرفت أبو مازن في بداية الثمانينيات حين كان يأتي الى بيروت من دمشق حيث يقيم. كنت أحرص على لقائه في كل زيارة، هادئ. رصين. لا يرتاح للسلطة ولا للعسكر. كان يعتبر بيروت مدينة مزعجة ويفضل هدوء دمشق لقراءة كتبه وتأليف كتب اخرى. منظر من الدرجة الاولى. قارئ جدي للتطورات، لكنه غير عملي وغير تنفيذي. يعتبر المال مفسدة فلا يقترب منه لا لنفسه ولا لغيره.
فوق ذلك كله يترأس دولة تربى كوادرها وقياديوها على صورة أبو عمار وطريقته في إدارة حركة “فتح” ومنظمة التحرير. فكيف سينجح؟
على عكس السائد، فإن قدرة أبو مازن على التواصل مع قيادة حماس أكثر نجاحاً من قدرته على إدارة حركة فتح. فهو يفضل الاستقامة في القول وفي الفعل. فإذا كانت حركة حماس تفتش عن “واقعية” تبدأ بها عملها الرسمي في البرلمان والحكومة فلن تجد أفضل من أبو مازن لهذا الدور. لذلك يرجح أن تأتي حكومة تكنوقراط من أصحاب العلم والخبرة يرعاهم ابو مازن “بواقعيته” ويبعد عن الادارات الروح الثأرية التي تغطي حركة “فتح” هذه الأيام.
هذا يسهّل المفاوضات على المساعدات القليلة التي تحصل عليها السلطة الفلسطينية من أوروبا والولايات المتحدة الاميركية ولو بعد حين. فضلا عن أن هناك بدائل عربية وايرانية للحصول على مساعدات، اذ ان الانتشار الفلسطيني في الدول العربية يجعلها أكثر التزاماً تجاه أمنها القومي قبل الرغبة في تسديد احتياجات الفلسطينيين.
ماذا عن عملية السلام المسماة خارطة الطريق؟
هذا هو الملف الأصعب الذي يواجه القيادة السياسية الجديدة للشعب الفلسطيني. وهنا المحك الاميركي في تنفيذ ما وعدت به الادارة الاميركية وما التزمته اسرائيل في خارطة الطريق.
حماس في المسؤولية السياسية لمدة أربع سنوات والناس ستطالبها بكل أنواع الحلول لكل أنواع المشاكل والحاجات والقدرات معروفة ومحدودة فهل سترد عليهم بالمزيد من التصعيد في مفاوضات السلام؟
الرئيس الاميركي قال ان حماس ستصبح شريكة في عملية السلام بعد تخليها عن شعار تدمير اسرائيل ونزع السلاح من الميليشيات.
وزيرة خارجيته كوندليسا رايس أعربت عن تفاؤلها لأن الشعب الفلسطيني أعرب عن رغبته في التغيير.
الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس أعطى وعده بالهدنة مقابل انسحاب اسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة فكان نصيبه الاغتيال بالصواريخ بعد صلاة الفجر. فهل تريد الادارة الاميركية من قيادة حماس الوعود نفسها فتحصل على صواريخ اغتيال بعد صلاة الجمعة مثلا؟
للشعب الفلسطيني تجربة طويلة مع السلام الاسرائيلي. كذلك تجربة ابو مازن في المفاوضات مع اسرائيل. لكن لا سلام دون القدس. هكذا ودّع ابو عمّار شعبه. فكيف بحماس؟ القيادة الجديدة تضع الخطة السياسية للمفاوضات. ينفذها ابو مازن بدقة. تخرقها اسرائيل. تعود للمتفجرات مجدها. هذا قدر الفلسطينيين وهذا نصيب الرفض الاسرائيلي.