حديقة البخور 6

حديقة البخور 21 نوفمبر 2005 0

يعود الكاهن الى عالمه. يملأه بضجيج تلامذته، أسئلتِهم، مُشَاكَسَتِهِم، استفساراتِهِمْ. يأتي المساءُ يتذكّرُ رِوايَاتِها، حِكَايَاتِها، كلماتِ الهمس لها.
كيف تَحّولتْ كلها إلى تمثالٍ من الخوف، القلق، الارتباك. يذهبُ إلى غُرفتِه مساءً. ينزِلُ سَقْفُ الغُرفةِ بِبطٍء نحوه. تدُور جدرانُ الغُرفةِ حَوله. تصبحُ غرفتُهُ مُستديرة. ينظُرُ إلى ألوانها. يجدُها تتغيَّر رُويداً. كأنها ستختفي، أو يراها صاخبةً متكرِّرةً تَثْقُبُ عينيهِ وَجَعاً. هديرُ رأْسِهِ لا يتوقّف. 
كيف لكلمة “آخر” أن تجعلَهُ غيرَ قادرٍ على الوقوف. يسمعُها، يتغيَّرُ لونُه، لا يُصدِّق، لا يجدُ في عقلِهِ كُرسِيِاً للجلوس. لا يجدُ لونَهُ. وقَعَ منهُ. أصبح حلمُهُ أثْقَلَ من الوهَمْ، أَغْلَظَ من الوَزْن. حَجْمُهُ هو الوجَعُ. لا وزنَ للوجَعِ ولا حدود له. فكيف إذا كان منها؟ 
يتركُ غُرفَتَهُ. يمشي قليلاً. يذهب إلى جناحها. كان الوقتُ ما بعدَ منتصف الليل، فتَح الباب، لم تَعُدْ هناك… ليسَ في تلك الليلةِ فَقطْ. بَلْ في العشرين سنةً الماضية من حياتِه. هي لم تَكُنْ شغفَهُ، رفيقَتَهُ، حُضُورَهُ. كان الوهمُ هو سيِّد أحلامِه. أَعْمَاه شَغَفُه عن رؤية الحقيقة. صارت حقيقته خديعةً غابَتْ عن عقلِه. كلّ ما اعتقدَ أنَّه يعرِفُه عنها وفيها لم يَكُنْ واقعاً، كانَ خِيانةً لِعَقْلِه، طعنةً لحياته، تعذيباً لساعاتِه وأيامِهِ وأشهرهِ وسنواته. كان “آخر” في غرفتها قبل أن يدخل هو إليها منذ عشرين سنة. زرع في نفسه الوهم لسنوات. صنعها “هي” من وهمه. وجد بقايا “عقد الوهم” الذي بناه مرمية في زاوية الغرفة حيث يجب أن تكون. 
أمضى ساعتين ينزِفُ تفكيراً في غرفتِها. 
صارت وقاحَتُها، عنادُها، عدوانيّتُها، خيانتُها هي الحقيقة الوحيدة في حياتها. صارت تقصّ حَقَائِقَ سنواتِها بسكِين الأسابيع القليلة الأخيرة. لا يهمّها الجروح التي تُحدِثها هَذِه السكين. لا ترى الدم الذي يَنْزِفُ من هذه الجروح. لا يهمُّها وجع السنوات التي تتمزّق. 
تمسك بالسكّينَ القاطعة، الباردة برودةَ القاتلة بيدِها. تَستَعْمل نصلَها بينَ عينيها. تنقُلُها إلى فَمِها حين تتكلّم. 
فوقَ ذلك تفرَحُ فرحَ الصغار بما تَفْعَلُه. 
كانَ مِفْتَاحَها في عَقْلِها، انتقلَ إلى قلبِها. اجتمعا معاً. هذا آخر ما يَتذّكَرُه. اليوم انتقَل مفتاحُها إلى مكانٍ ما فيها. لا هو يعرِفُهُ. ولا كلماتُهِ. ولا أسطرُهِ ولا شغفُهِ. استطاعوا أن يجدوا “حفرَة” المفتاحِ الجديد. 
هل احتقرتْ نفسَها إلى درجة نقلِ مفتاحِها إلى حيثُ لا يجوزُ أن يكونْ؟ 
الجوابُ ليسَ عندَهُ. مضى عليهِ أشهراً يحاولُ ويحاولُ ويحاولْ. وإلاَّ مَا تَفْسِيرُ شَراسةِ الدِفَاعِ عَنْ أَشْهُرٍ قَلِيْلَة، والتَنَازُلِ الأَكِيد والمُهِيِنِ عَنْ سَنَواتِ عُمْرِهَا. 
جَرِيِمَتُهُ أَنَّهُ تَفَاخَرَ بِشَغَفِهِ. قَدَّمَ إليهَا حُرِّيّته. عرض عليها تَنَازُله عَنْ العَقِيدَة. خَلْعِهِ لِثِيَابِ الكهنوت. رَأَتْهُ عَارِيَاً. قَالَتْ لَهُ عُدْ إلى ثِيَابِكَ. لَمْ تَرَ أوْرَاقَ اعْتِمَادِ حَيَاتِهِ. أخْرَجَتْ كُلَّ مَا فِيها مِنْ سُمُوم. وَصَلَتْ في وقَاحَتِهَا حَدَّ طَلَبْ مَحُوْ ذَاكِرَتِهِ.
لا هو يَعْرِفُهَا ولا هي تَعْرِفُهُ. تَواصُلُهُمَا جَرِيمَة. مَعْرِفَتُهُمَا لِبَعْضِهِمَا البَعْض غَدْر. وإلاَّ فإنَّه يُعَرْقِلُ لَهَا مَسِيرَةَ نُهوُضِهَا، هُوَ هُبُوطُها، مُخَرِّب مُسْتقبَلَهَا، قَاتِلُ رَغَبَاتِهَا، مُجْرِمٌ بِحَقِّ عَادِيَاتِهَا. تَحْتَفِظُ لِنَفْسِهَا بِسُؤالٍ لِلّحظَة الأَخِيرَة. لِمَاذا لا تَفْهَمُ أَنَّني أَكْرَهُ اللَّحْظَةَ التي رَأَيْتُكَ فيها لِلمَرَّةِ الأُوْلى؟ وَلِكُلِّ المَرَّاتِ مِنْ بَعْدِهَا؟ 
صَارَت تَسْتَلِّذُ القول إِنّهَا لا تُرِيدُهُ حتّىَ لَوْ لَمْ يَسْأَلْهَا. يَتَحَدَّثُ لُغَةً لاَ تَفْهَمُهَا. يَبْتَكِرُ مَشَاعِر لاَ تَعْنِيهَا. لاَ تَجِدُ في كُلِّ أشْكَالِ الحَيَاة واحِدةً لَهُ. لَمَاذا لا يَخْتَفي مِنْ دُنْيَاهَا؟ 
ضَمِيرُها القَدِيمُ جِدّاً جِدّاً جِدّاً يُطَالِبْهُ بالبَرَكَةِ لِمَا تُخَطِّطُ. هو لَنْ يَفْعَل… 
تُرْسِلُ صَدِيقَاً مُشْتَرَكاً يُنَاقِشُهُ. بَدايةً لَمْ يَفْهَم الغَايَةَ منَ الزِيَارَةِ. طَالَبَهُ بَالدُخُولِ مُبَاشَرَةً في المَوْضوُع. نُرِيدُ “بَرَكَتَكَ” لِمَا حَصَل. يُجِيبُهُ: لَكَ عَليَّ انْسِحَابي مِنَ التَواصُل. بَرَكَتي حَقِّي لا أُعْطِيْهِ لأِحَدْ. أَرْسَلتُ لَهَا عارضاً ثِيَابَ كَهنَوَتي وَرِسَالَة تَنَازُلي عَنْ العَقِيدَةِ. أَجَابَتني بِكُلِّ صَفَاقة: أخطَأتَ في التَوقِيتِ. لَيْس مِنْ أَجْلِهَا بَلْ مِنْ أَجْلِ مُسْتَقبلي. صِرتُ شَاباً طَائِشَاً يُفَتِّشُ عَنْ نَصِيحَة؟ لَمْ أُجِبْهَا بِمَا قَالَتْهُ. طَلَبتْ قريبتي مُقَابَلتَها. أَجَابَتْهَا بِأنَّني خَائِنٌ وَمُتَأخِّرٌ عَنْ سَاعَة القَدَر. 
لم تَتَجَرَّأ أَنْ تَقول لَهُ مُوَاجَهَة أَنَّها تَكْرَهُهُ. إنَّها لَمْ تَعُد تَشْعُرُ بِهِ. إنَّها لا تَرَاهُ في حَاضِرِهَا. إنَّهَا لا تَرْغَبُ بِهِ في مُستَقْبَلِهَا. إنَّهُ لا يَحُقُّ لِسَنَوَاتِهَما أنْ “تَعْتَدي” على خُصوصِياتِها. تَجَاوَزَ كُلُّ هّذِهِ المَشَاعِر. قَالَ لِمُوفَدِها هي ابْنَتي، شَقِيقَتي، امرأتي، حَبيبتي، شَغَفي. أُنَفِّذُ لَهَا مَا تَطْلُب إنّمَا لا يُطالِبُني أحَدٌ بإِعْلانِ تَخَلِّيّ عَنْ مَشَاعِرِي. “أُعْذُرْني لو قُلْتُ لَكَ أنَّكَ لَنْ تَحْرِصَ عَليهَا أكْثَرَ مِنِّي. بالتأكِيدْ أَنْتَ عِشْتَ مَعْهَا سَنَوات أكْثَر مِنْ سَنَواتي. لكِنَّكَ لا تَشْعُر بِمَا أَعْرِفْهُ مِنْ سَنَواتيِ العِشْرِين. إذْهَبْ وَقُلْ لَهَا لا أُبَارِكُ. هي لَنْ تَهْتَمّ في كُلِّ الأحْوالِ. لَهَا عليَّ فَقَطْ وَعْدي بِعَدَمِ التَواصُل مَعْهَا. هذا أَقْصىَ مَا أسْتَطِيِعُه. إجْلِس إليها. قِفّ بِجَانِبِهَا. حَادِثْهَا. إسْمَعْهَا. سَاعِدْهَا على قَرَارِهَا. هذا دَورُك. أنا لا أسْتَطِيعُ القِيَامَ بِهِ. هي تكره فيّ سرقتي قرارها. لا تَطْلُبْ مِنِّي مَا لا طَاقَةَ لي عَليه”. 
لن يتوقّف عن دقِّ كلّ الأبواب، لا بدّ أن يفتحَ له القدر باباً أو بابَ الخلاصِ من خديعتها. 
يكتب لها أيضاً…. 
15  
لم أَعرِفْ أنكِ قاتلةٌ بالقطنة. شَكْلُها مستدير. تبدو للناظر إليها أنّها من طَبَقَةٍ واحدة. عندما تُدقِّقُ تجدُ طَبَقاتِها كثيرةً. لم أَرَها مرّةً نَصلاً. سكين رقيقةٌ تذبحُ في الثانية الأُولى لاستعمالِها. 
لأصابِع الناس خصائصُ وأشكالٌ. رأيتُ في أصابِعِكِ جمالاً حَدّثُتكِ عنه. 
فقط؟ لماذا ليس عن الخصائص؟ خَبّأْتُها رصيداً لك. أستعمِلُهُ عندما يشتعلُ الغَضَبُ بين حاجبيك، حين لا يبقى من كلامي ما يرضيكِ. 
ألم تقولي مرّةً: أُحِبُّ زَعَلي منكَ ومَعْكَ. مُراضاتُكَ لي حُلُمٌ أُريدُهُ دائماً. “تجلِسُ على الأرصفة وأنتَ أكبرُ من الكبار. تَنْزِلُ إلى الأرض في مكانٍ عامّ. كأنك تصلّي لآلهة. لا يَهُمُّكَ مَنْ يراك. مَنْ يسمعُك. أركض لأرفعك، أَو إِنْزَل معكَ. لا أكونُ إلاّ حيثُ تكونُ أنتَ. أكتب لكِ، أم أتحّدثُ عنكِ؟ 
مِنْ أَين اشتريتِ قطنة نَصْل السكّين. أعطني العنوان. أشتري لكِ واحدةً. لا أسجِّل عليكِ أنّكِ فَعَلتِ. 
“لم تعرفْني امرأتُك. أردتَني حبيبة. تضعُ على كَتِفَيَّ كلَّ الحِمْل”. 
“مَن قال لك إنّني أَفُوقُ نفسي قُدْرَةً. صحيحٌ أنّني أَفُوقُ الأُخريات من أجلِكَ ومَعَكَ. إنّما لا أَفوقُ نفسي في وجه رغبةٍ في حياةٍ عاديّة”. 
أكتبُ عنكِ. أم أكتُبُ لك ؟ 
أولُ مَنْ يشْعر… آخِرُ مَنْ يعلَم… أولُ مَنْ… آخِرُ مَنْ… أولُ مَنْ… آخِرُ مَنْ… أَولُ مَنْ… آخِرُ مَنْ… 
لا أَستطيعُ أنْ أَمْلأَ فراغَ النِقاط. ينكسِرُ قَلَمي… ينكسرُ قَدَري… ينكسِرُ حُلمي… ينقطِعُ شِرْيانُ القوةِ في يدي. 
قلتُ إنكِ سارقَةَ خيَال… صِرْتُ قاتلةً بالقُطْن… 
مَتى حَوّلْتِ القطنةَ إلى نصَلِ سكّينٍ رَقيق؟ 
متى تعلّمتَ الذّبحَ في ثانيةٍ واحدة؟ 
كتبْتُ عنكِ عَلَناً سبيلَ حِوار، كتَبْتُ لكِ مباشرةً خيارَ نَقّاش. 
عرفْتُ شجاعَتَكِ كما لا يعرفُها أحد، حَسِبْتُها معي دائماً وأبداً، لم أعرِفْها مَرّةً في وجَهي. 
أُباركُ لكِ بالقُطْنَة. أفرحُ لكِ بالنَصْل الرقيقِ للسكّين. 
هل تكفيكِ؟ هل تُرضيكِ؟ أم تُريدين أَكْثر؟ 
تدمعُ عيناكِ؟ ليس كثيراً. ترمينَ بالورقِ حيث يُرمى. أكيد. تذهبينَ إلى فرْحةِ الحياةِ العادية؟ 
أنا لن أفعل… 
يعودُ إلى نفسه محدِّثاً لا يُحدِّثُ إلاَّ نَفْسَهُ هذه الأيام كلامي جافّ حادّ. أنا مشتاقٌ إليها. لِمَ لا يَكْتُبُ ما يبعثُ الدِفءَ في رسالتِه؟ علّه يُذيبُ بعضاً من جفافِ عينيها، ينتفضُ رَفْضاً. تحضُرُهُ صورتُها. يذوبُ جليدُ رَفْضِه. 
16  
كُلُّ رَجُلٍ يُفَتِّشُ عن امرأةٍ تتحمّلُ غُرورَه. تعترِفُ بما ليس فيه. تَقْبَلُ بما ليس عنده. تأخُذُ ما لا يَقْدِرُ أن يُعطِيَهُ. يطلُبُ منها أن تشْكُرَهُ أيضاً. فتفعل. 
يأتي في المساء، يُخبِرُها عن مصاعِبِ النهار. يطلُبُ منها أن تحتمِلَ ما لا تَعرِفهُ. ربما ما لا تُصَدِّقُه. 
المرأةُ غرورُها منها فيها. ما يخرُجُ منه إلى العلن هو رأْسُ جبل، مَحَبَّتُها لنفسِها. إعجابُها بقُدُراتِها. ما لا تنتَبُه له أنتَ تجبرك بمعرفتِه. بأسرارِه. بمزاياه. ربما هو غيرُ مَوجود. تنْتَبِه وأمْرُكَ لله. 
عَرَفْتُ أشخاصاً اشتكوا من غروري. استغرَبْت. أنا لم أشعُرْ بهم. كيف تجرّأوا على غروري؟ كيف عرفوه؟ غروري أنت من زمان. أعطيتك إياه. لم أستعيده. لا أُريدُه. من كان غرورُهُ امرأةً مثلك يترُكُ لها الدنيا فكيف بغرورِه؟ 
أنت تتسلين بغروري. كيف أحرِمك من تسْلِيّتكَ أنت تُقَلِّدُني غروري. كيف أحْرِمُكَ من حركاتِك؟
إنْ نسيتُهُ لِلَحَظاتٍ وأنا بين يديها أو في حضرتِها تذْهَبْ إليه مباشرةً. تُذَكِّرُيني به. أنت تقررين كُلَّ مَرَّةٍ نَوْعَ الغُرور. غداً غُرورّ آخر.
عِنْدَكَ الكَثِير الكَثِر الكَثِير. مزايا. مُكََوَّنات. سُلُوكُ. أطبَاع. ألوان. المَخْفيِ أعظّم. ترمين غرورك علي. أو تضعينها على الكرسي جانباً.
تقولُين أنتَ غروري. لا أحْتَاجُ أكثر. أَسْقُط بَيْنَ يَديْك. تَتَمَهّلِين في القَول أنتَ لا تحبهما… كيف؟ لا أعرف أنتَ وحْدَكَ تَعْرِفُ. اسألهُما.
هَلْ عَرفْتَهُمَا؟
عاد لتلميذتِه الصغيرةِ مرّةً أخرى…