حديقة البخور 2

حديقة البخور 24 أكتوبر 2005 0

أكملَ الرسالةَ الرابعةَ قراءةً ثم الخامسة والسادسة. راقتْه الكلمات. فرحتْ به الأحرف. سكَنَتْه النار. اشتعلَ كلُّ شريانٍ في جسدِه. مرّتْ سنة على آخرِ لقاءٍ بينهما. غادرتْ هي المعبد. أدارَ هو ظهرَه. أمسكَ بعقيدتِهِ التزاماً ومضى… ماذا يفعلُ الآن؟ لمن يعطي حرّيته؟ من أين أتته القدرة على الحرّية؟
من كلماتٍ عنها؟ من أحرفٍ تصفُها. من صورٍ لا تتركُهُ لحظةً واحدة.. من معابدَ يعودُ إليها واحداً واحداً. لكلٍّ منها طقوسُ شغفٍ لا تُنسى.
خدمَ عقيدته كما لم يفعلْ أحد… بات لديه مؤلّفات… وصلَ الى أعلى درجاتِ العلم. أوشحةُ كبارِ الكهنةِ في كبرى المعابدِ أُعطيتْ له. لم تكنْ هي هناك. فقدتِ الأوشحةُ ألوانَها منذ اللحظةِ الأولى.
يقرأ. يُعيد القراءة. لا يكتفي. يفرح بكلماته. كأنها هي. صورتها في الأحرف. واحداً. واحداً. رائحتها في الأوراق. ورقة. ورقة. بريق عينيها يضيء كتاباته. يقرأها للمرة المئة.
هو لاجئ حنان في حضنها. لاجئ خيار في قرارها. لاجئ حوار مع عقلها. لاجئ شغفٍ في “جميعها”. هي عصبه. فخره. طبيبته. مديرة حياته. ملجأ ضعفه. مخبأ دمعه.

(4)
هي اسمٌ أم مفتاحُ سحْر؟
أم موكبُ حوارٍ يختزلُ خيالَكَ ويأخذُكَ الى الأعلى.
كثيرون يريدون معرفةَ العنوانِ الأعلى.
لا يهم. هي تعرفُه وأنتَ أسيرُ الخيالِ فلماذا تسأل؟
تقرأها. تراها مراتٍ في اليوم. تسكنُكَ دائماً في المساء.
لا تمل. لا تكل. لا تتعب.
أنتَ أيضاً لا تسألُ أين تراها كلَّ هذه المرات. تزورُكَ يومياً في معبدِك.
عفواً معابدِك. لا تستأذن.
من يملكُ حضوراً في حضورِها؟
عندما تحضر فيكَ تأخذُكَ بضحكتِها.
كيف يفرحُ مَنْ بحضورِها مخطوف؟
تدورُ به الدنيا. يدوخُ ويعودُ الى مقرِّه.
ليست امرأةً كما تُوصفُ في كتبِ التاريخ.
هي الحضورُ السارقُ للأحلام. للخيال.
تأخذُ هي وقتَك. تفعلُ به ما تريد.
تجعلُهُ كبيراً وهو صغير.
تمسكُهُ بعينيها. تجعلُهُ فتياً وهو عجوز.
حنوناً وهو جاف. باسماً وهو عبوس.
أنتَ لا تسمعُ إلا حضورَها.
هذه هي المرةُ الأولى التي يتحولُ فيها الحضورُ الى أداةِ سمْع.
حولكَ كلُّ الكلام. لا تفهمُه. لا تحتاجُ الى ترجمتِه.
ما الذي يجعلُها خيالَكَ؟
عزّ بعد فاقة كما تعلّمنا صغاراً عن الأمير “علّاقة”.
أو قربٌ إثرَ بُعْدٍ كما تعلّمنا كباراً.
“البعد جفاء” أين القرب؟
تكتفي بالملاحظة.. هل سنتحدثُ كلما قرأتُ لك؟
أنتَ توقّعُ ببصماتِكَ العشرَ على الاعتراف بها.
تتهادى مبتعدةً أو مقتربةً كأنها لا ترى البصمات.
تتجاهلُ معنى التواقيع. تضحكُ فينتشرُ السحر.
لم يعجبْها من كلامِكَ عنها غيرُ عرْضِ كتفيها.
تريدُ منافستَكَ على ما تحب.
لا يكفيها أنهما لها ومعها.
لا أنا أراهما ولا هما يسألان عنّي.
لم يكفِها تعويضاً أنها مرآتُك. معرفتُك.
حوارُك. يومُك. ليلُك.
لم يكفِها عقوبةً لكَ أنها ليستْ امرأتَك.
الإمارةُ لها حق. التفوّقُ لعبةٌ بين أصابعِها.
القدرةُ هوايةٌ في أوقاتِ فراغِها. كيف تصفُها بهم؟
الفضلُ لها أن سمحتْ لكَ بالاقترابِ من أصابعِها.
بالتعرّفِ الى تفوّقِها. ليس اجتهاداً منكَ أنكَ اقتربتَ
أو تعرّفتَ أو وصفتَ مراراً ومراراً ومراراً.
لماذا تكرّرُ الكلمات. الأوصاف. المشاعر. التقدير.
التقويم؟
من أعطاكَ حقَّ وضعِ العلامات؟
رحِمَ اللهُ امرءاً عرفَ حدَّ خيالِهِ فتوهّمَ عندَه.
من هي هذه “السارقة” التي تقرر. تمنع. تسمح. تسحر.
تحضرُ كما الأرواحُ في رواياتِ الصغارِ والكبار؟
أنا أعرفُها. ماذا عنكِ؟

(5)
تقولُ إلهةُ البخورِ للكاهن:
لا تنامُ وغصّةٌ في قلبِك.
لا تنامُ وعتبٌ في فكرِك.
لا تنامُ وعبسة بين عينيك.
تفعل. أفعل. نختلف. نتفق. تتجاورُ أكتافُنا. تتجاورُ بقايانا.
تدخلُ الكلمة “المفتاح”. تحملُها معها دائماً أيقونةَ شغف.
يتداخلُ أغلانا. يتداخلُ صوتانا. تتداخلُ الأحلام.
يرحلُ العتب. تنزاحُ العبسة. تذهبُ الغصّة.
ننام. نستيقظُ على شغفٍ ضاحكٍ وأكثر…
هل عرفتِها؟

(6)
دخلتِ الإلهةُ إلى غرفةِ الكاهن. قالتْ له مريداتي الصغيراتُ أتينَ لتزييني. هل لديكَ طلبات. هل لديكَ توصيات. هل لديكَ تعليمات. قلْ.
أنتَ كاهنُ جمالي. عرشُ حياتي. صولجانُ فرحي.
غرِقَ الكاهن في نفسِه. لم يحتملِ الكلام. اعتبرَهُ حلماً. غابَ عن السمْعِ لثوان.
أمسكتْه بيدِها. عاد إلى وعيه. قال مَنْ لديه بخّورُك لا يحتاجُ الى مريداتٍ للتزيين لا كباراً ولا صغاراً. استدركَ قائلاً: ربما وردةٌ بيضاءُ صغيرةٌ تُضافُ الى حديقةِ بخورك.
فعلت. وضعتها حيث القداسة. أخذَ منها الوردة. بقي بخورُها فيها ومنها.
هل عرفتِها؟
يقول لنفسه. أرسلها إليها. تعيد قراءتها بدلاً من أن أفعل وحدي. تتذكر. هل نسيت؟ يزدهر عقلها حواراً. يشتعل حضنها حناناً.
يأتي بتلميذة صغيرة. يحّملها الرسائل. أين الجواب؟؟