حديقة البخور 1 

حديقة البخور 17 أكتوبر 2005 0

يأذنُ لي الزملاءُ في الثقافة، الرواية، الشعر، النثر، أن أطرقَ بابَهم، أسألُهم أيضاً أنْ لا يستعجلوا الحكمَ على كلماتي، ليس لأنها المرةُ الأولى،بل لأنها حكايةُ سنواتٍ طويلةٍ من الشغف، الحب، الرغبة، الحيوية، الغضب؟ عاشها كاهنٌ يتبعُ عقيدةَ البخّور. ذهبَ بسنواتِهِ إلى التاريخِ يحاولُ أنْ يخفيَها. 
لا التاريخُ قبِلَ أنْ يضمَّها بينَ جنباتِهِ، ولا الكلماتُ قبِلَتِ الارتدادَ إلى الماضي، ما زالتْ على اندفاعِها نحوَالمستقبل. 
يدورُ حولَها، يحاورُ أحرفَها، يخبرُها أنَّ ماضيَها كرامة. مستقبلَها إهانة، لا تقتنعُ الكلمات، لا ترضى الأحرف، تصرُّ على الوقوفِ في مكانِها تحتَ الشمس. 
تواجهُ الإهانةَ بسخريةِ القادرة، القوية، الممتلئةِ رصيداً من كبرياءِ أحرفِها. 
أصدرَ معبدُ كهنةِ البخّورِ بياناً جاءَ فيه أنَّ سرقةً حصلتْ ليلاً داخلَ معبدِهِم. أحدُهم يملكُ مفتاحاً، دخلَ في ساعةٍ متأخرة جداً، قبلَ صلاةِ الصباح. 
جردَ الكهنةُ المحتويات، افتقدوا ثلاث رسائلِ حبٍ تاريخيةٍ فقطْ لا غير. 
جاءَ المحققون، رفعوا البصمات، اكتشفوا أنها بصماتُ إلهة بخوّرٍ عاشتْ طويلاً في المعبد. خلعتْ ثوبَ الإلهة، نزلتْ إلى شارعِ الحياةِ العادية، افتقدتْ رسائلَه إليها، تذّكرتْ معبدَها القديم، دخلتْ إليه، سمعتْ صوتاً، تناولتْ أولَ الأوراقِ أمامَها من “قلب” الكاهن. إذا بها ثلاث من رسائِلِها. أخذتْها، تريدُ استعادةَ نفسِها، تعرفُ أنَّ عددَ رسائلِها أكبرُ بكثير. الصوتُ الذي تخيّلتْ سماعَهُ حالَ دونَ أخذِ الباقي من الأوراق. لم يكنْ ما سمعتْهُ صوتاً، هو شوقُ قلبٍ عاشق. شعرَ بلمسةِ يدِها، تسارعت نبضاتُه، رهافةً، إحساساً. تظاهرَ بالنوم. مَنْ ذا الذي يدُ العشقِ في قلبِهِ ويستيقظ؟ 
أين الكاهن؟ 
استجوبوا “قلبَه”. أنكرَ اختفاءَ شيءٍ من المعبد، رفضَ تسليمَهم الرسائل. قالَ لنفسِهِ هذا شغفُ عمري لا أكشفه لأحدٍ إلاّ لها.
سألَهُ كبارُ الكهنةِ من أين له عوارضُ القداسة وهو كاهنٌ فقط لا غير. 
آتوه بطبيبٍ يفسّرُ لهم نجومَ العتبِ الباسمةَ التي تخرجُ من عينيه. يفحصُ شجاعةَ شغفٍ تظهرُ في حركتِه، احتارَ الطبيبُ بأمرِ الكاهن. تشاورَ مع كبارِ الكهنة. 
أحالوه إلى لجنةٍ كهنوتية، حددوا له موعداً. لم يعترض. قال أصّلي وأعودُ إليكم. ذهبَ وهو يحدّثُ نفسَه، صلاتُهُ سؤالُها، هل تسمحُ له بالاعتراف؟ 
يعودُ الحلمُ الى ذاكرتِه… 
كاهنٌ شاب، أستاذٌ في العقيدة، نجمُ المعبد. يأتون من المعابدِ الأخرى، يستمعون الى علْمِهِ يتدفق. دخولُهُ الى الصفّ حضور، خروجُهُ انبهار. يحسُبُ الكهنةُ الكبارُ لعلْمِهِ ألفَ حساب، يغارُ منه الكهنةُ الصغار، كلٌّ منهم يختارُ مادةً يدّرسُها إلا العقيدة، لا يقتربُ منها أحد. من ينافسُه يكونُ قد حكمَ على نفسِه بالفشلِ مسبّقاً. حاولَ بعضُهم تحدياً، كسبوا خيبةَ الأمل بعد قليلٍ من الوقت. 
عابسٌ دائماً، له مهابةُ العالم، لا يشعرُ بمن حولَهُ إلا إذا أخطأوا، يسحبُ سَوْطَ علْمِهِ عليهم. حاولَ بعضُهم الانتقاصَ منه لأطباعِه الحادة، شفعَ له علمُه. لا يتركُ كتاباً يعتبُ على معرفته. لا يتركُ جهداً للوصول الى أعماقِ العقيدة، تفسيراً، تقديراً، تفصيلاً، إقناعاً، اجتهاداً. 
للذين لا يعرفون البخورَ هو اسم لنبتةٍ رائحتُها خلابة. جيلُ القدماءِ أخذوها رمزاً لعقيدة. هو الوحيدُ من الجيلِ الشابِ الذي جعلَ العقيدةَ قوةً لمن يتعلمُها، يعرفُ أصولَها وفروعَها. صفوفُهُ الملأى يومياً جعلتْه كاهنَ العقيدة، ليس فقط أستاذَها. 
هي فراشةٌ جميلة، صباها حديثُ المعبد، يختارُ مجلسُ الكهنةِ الكبارِ مَنْ يرون فيها صفاتِ الإلهة من صفوفِ المعبد. الصفاتُ ليست سهلةً على الإطلاق. تمرُّ سنواتٌ قبل أن تدخلَ إحداهن جناحَ الإلهة. تعيشُ منقطعةً عن العالم، تتعمّقُ في معرفةِ العقيدة، تلبسُ ثياباً أقربَ الى الأميراتِ منها الى الكهنة. اختاروها هي. بريقُ الذكاءِ في عينيها لا ينقطع، يلتقطُ عقلَها كلَّ ما حولَها دونَ جهد. مؤمنةٌ بالعقيدة، تقبلُ التخليَ عن الحياةِ العادية، تلتزمُ حدودَ المعبدِ في حياتِها، تقبلُ بالاختيار، لا تخفي فرحتَها، تفعلُ ذلك بصوتٍ عالٍ. 
ينظرُ إليها الكهنةُ الكبار، بعضُهم باسماً والآخرُ مستنكراً. يلتقيها كاهنُ العقيدةِ في رواق المعبد، ينظرُ إليها يجدُ أنها امرأةٌ في ثيابِ إلهة. 
تنظرُ إليه تجدُ فيه رجلاً يلبسُ ثيابَ كاهن. تجاوزَ أحدُهما الآخر، كلاهما يفكرُ في بهاءِ الآخر. 
استوقفَه رئيسُ المعبد، قال له هذه هي الإلهةُ الصغيرة، أريدُكَ أن تزرعَ العقيدةَ في رأسِها، كما البخورُ في حدائقنا. استمعَ كاهنُ العقيدة، أكملَ طريقَه، لم يعّلق. 
يدخلُ الى صفِّه صباحَ كلِّ يوم، يجدُها في الصفِّ الأول، مبتهجةً بنفسها، تحيّرُهُ بين حركتِها وعقلِها. حركتُها جسد امرأة، تحدّثُه كلما تحركتْ. 
لا تتركُه يهدأ. جالسةً تهزُّ رجْلَها كلَّ الوقت، تقفُ مجيبةً على سؤالٍ فتتحركُ <<جميعُها>>، لا يبقى فيها من شيءٍ ساكناً. 
يحثُّ عقلَها علماً، عقيدة، معرفة، أسئلة، خفايا، خبايا، قدرات. تلبّيه كما لو كانت على مقعدِها في صفِّه منذ سنوات. لم يمضِ شهران على بدايتها للدراسة. 
ينتهي وقتُ الدراسة، تخرجُ أولَ الخارجين، متباهية، متجاهلة، تحملُ علمَها في رأسِها. يحمل سِحْرَها في رأسِهِ ويذهبُ الى غرفتِه، يغرقُ في كتبِ العلمِ بحثاً، تدقيقاً، تمحيصاً. يأتي الليل، تعودُ الإلهةُ إليه، لا تستكين إلا وعيناه تغفوان. 
يأتي الصيف، يُنتدَبُ للتعليمِ في معبدٍ على شاطئ البحر، ينتظرُه تلاميذُه هناك بالشوقِ الى علمِه، أسلوبِه، انسيابِ كلماتِه، عمقِ عقيدته . تعرفُ هي مصادفة، تدقُّ بابَ غرفتِهِ بجرأةِ الإلهة، تطلبُ منه مرافقتَه لحضورِ دروسِهِ هناك. أجابها وعبسةُ الجبينِ بين عينيه، أسألُ رئيسَ الكهنةِ وأجيبُكِ. استدارتْ ترتعدُ شوقاً، كيف يتركنُي الصيفَ كلَّه؟ قبْلَ أن تجيبَ وجدتْهُ واقفاً وراءَها. يمسكُها من كتفِها للمرةِ الأولى، ترتجفُ رموشُها، يستعيدُ وقفتَه. 
لا ينشغل لكِ بال، ستذهبين معي، تشكرُهُ فرحةً، تعودُ الى جناحِها. يعودُ هو الى السؤال، كيف أذهبُ من دونَها، هي الجوابُ الحاضر، الحضورُ القادر، العقيدةُ الصلبة، المثلُ الأكيدُ لعلمِه، المحرّضةُ على الفهم. جلالةُ حضورِها علماً، ثقافةً. 
يذهبان معاً الى معبدِ البحر، هناك يستسلمُ الاثنان لقدرهِما. 
رجلٌ وامرأة، لا هو كاهنُ عقيدة ولا هي إلهةُ معبد. ينتظران الليلَ، يحاكيان مياهَ البحرِ بكلِّ اللغات، همساً، ضحكاً، كلاماً، جسداً. حتى المياهُ لا تعودُ بموجِها لتفرّقَ بينهما. تشتعلُ الدنيا شغفاً بهما، يشتعلان شغفاً أحدُهما بالآخر. لا يتركُ هو لحظةً دونَ مناغشتِها، لا تتركُ هي ساعةً دونَ أن تجيبَه ببريقِ عينيها. 
عشرون عاماً، يقوى الشغف، لا يعرفُ حديثاً إلا معها، لا تعرفُ اهتماماً إلا به. افترقا، التقيا، افترقا، التقيا. يبقى الشغفُ حيث هو. هي لم تعدْ تطيقُ عنه فراقاً، لا يهمُّها تاجَها، تريدُ أن تحيا معه إنسانة، لا إلهةً تسرقُ الوقتَ لتُلبسَه هيامَها. يزوران المعابدَ في مختلفِ أنحاءِ البلادِ معاً. هو الأستاذُ الكبير، هي الإلهةُ التلميذة. يستقيلُ كلاهما ليلاً من عبءِ العقيدة، تصبحُ هي عقيدتَه، يصبحُ هو إلهَها، لا يبقى حرفٌ لا يعرفانه معاً، لا تبقى كلمةٌ لا يقولانها معاً، لا تبقى نسمةٌ من جسديهما لا يعرفانها معاً. 
عشرون عاماً، لا ملل، لا تعب، كأنهما يصعدان درجاً للهوى لا ينتهي. 
كلما انحرفَ بناؤُه تظهرُ درجاتٌ جديدةٌ يكملان صعودَها معاً. حديقةُ بخّورِهِ هي. 
يشمُّها كما الصلاة، يرعاها كما المناجاة ،. يلمسُها كمولودِ اليومِ الأول. ترتجفُ يداه أن يخطئ بلمستِه. 
يتذكرُ يدَها، مريضاً لسنواتٍ طوال. تعالجُه، تمسحُهُ بمراهمِ البخور، تنامُ في سريرِه، أصبحَ سريرَهما. حفظتْ كلَّ الصلواتِ لتقرأها له، تعلّمتْ كلَّ اللغاتِ لتحفظَ صلواتٍ جديدةً، انتدبتْ مَنْ يذهبُ إلى معابدِ مختلفِ الأديانِ في أصقاعِ الدنيا يسألُ عن الدواء، ذهبتْ بعيداً جداً جداً، تفتّشُ عن دواءٍ يشفيه.
سهرت لياليَ، تنظرُ إليه نائما، تسمعُ خفيفَ أنينِه، تخبرُه في الصباحِ أنها رأتْ حلمَهُ في الأمس، تضحك، تخرجُ من غرفتِه. 
يبتسمُ وهو وحدَه. استطاعتْ ببصيرتِها أن ترى حلمَه، “صورتها”. 
توقفتْ عن معالجتِه، لا يحقُّ لها معالجةُ كاهن، وهي إلهة. 
تمردتْ، قبلتْ، تمردتْ، قبلتْ، تمردتْ، قبلتْ. كيف تتركُ شغفَ عمرِها مريضاً. تمردتْ مرةً أخيرة، قبلتْ. 
نفِدَ زيتُ التمردِ عندها، كرهتْ صفتَها، هربتْ من المعبد. 
تعبتْ هي. لم تعدْ تستطيعُ الصبر، هي تعلمُ أنَّ الكاهنَ لا ينقصُهُ الشغفُ ولا الهوى. 
لكنه متمسكٌ بالعقيدة. هو أصبح كبيرَ أساتذتِها، كيف يتركُ عقيدتَهُ لأجلِ شغفِه. 
هو كاهنٌ لا يحقُ له الحديثُ مع الإلهة الا بما يقتضيه جلالُها، هكذا يفعلُ أمام الآخرين. هي تجاريه علناً، تحاسبُه دلالاً حين ينفردان. عاشتْ تمرداً عليه مراتٍ ومرات، يتركُها تثورُ بما عندها، يستمع، يجيبها حباً، تهدأ، يعودُ التمردُ مجدداً. 
تتكررُ الثورات، تخلعُ ثوبَها، تتركُ المعبد، تتركُه وحيداً مع عقيدتِه. يستمرُّ في حياتِهِ وجعاً، ينجرفُ تعليماً، يلمعُ اسمُهُ أكثرَ وأكثر. هي على حدِّ ما يعلم تنجرفُ في الحياةِ العادية، يبدأُ في الكتابةِ عنها. 
عنها؟ لا يحقُّ لكاهنِ عقيدةٍ أن يخاطبَ الإلهةَ فكيفَ بمراسلتِها؟ 
تعلّقُهُ بعقيدتِهِ جعلَه يتجاهلُ أنها شغفُه. تركتْ جلالةُ الإلهة، مراتٍ معه ومن أجله لا تعد. ومرةً واحدةً دونَه ومتخليةً عنه. جلسَ وحدَهُ يقرأُ الرسالةَ الرابعة، الرسائلُ الثلاثُ الأولى معها…