جهاد الزين كتب في “النهار”: “حين تخذلنا تركيا و”تجبر خاطرَنا” تونس”

اخترت لكم 04 يونيو 2016 0

trky_267634_large

ليس فقط بُعدُ نظر وثقافة قادة “حزب النهضة” هما اللذان أوصلا تونس إلى هذا التحول المضيء في العتمة الأصولية العربية بإعلان الفصل بين الديني والمدني بل أيضا قوة الكتلة العلمانية التونسية خصوصا نساءها في منع الصعود الأصولي والتكفيري.

من المفترض أن يكون طبق الساعة في الحديث عن تركيا هو قرار البوندستاغ الألماني بتبنّي توصيف “الإبادة” لما تعرّض له الأرمن عامي 1915 و1916 وهو القرارالذي لم يكتف بذلك بل أضاف إلى هذا التوصيف ما تعرضت له “أقليات مسيحية” أخرى. أي أنه بهذه الصياغة يجعل الماضي التركي عدوا ليس فقط للأرمن وإنما لكل مسيحي في منطقتنا… وهذه، بمعزل عن مدى دقة أو عدم دقة هذا التوصيف، مبالغة أو عدم مبالغة هذا التوصيف، هي إحدى نتائج سياسات الرئيس رجب طيِّب أردوغان (وجناحه الراديكالي) الذي يُحكِم سيطرته على “حزب العدالة والتنمية” الحاكم. فأوروبا وفي المقدمة ألمانيا بدأت على طريقتها بمعاقبة السياسات المتطرفة الإسلاموية التي انتهجها ولا يزال الرئيس أردوغان في السنوات الأربع الأخيرة والتي تتمثل بشبهة دعمه لـ”داعش” وشن حرب شرسة على مناطق الأكراد ناهيك عن تأسيسه لنوع سافر من “الدولة البوليسية” داخل تركيا لا داعي لذكر مآثرها المعروفة ضد الصحافة والقضاة والضباط والحركات الشبابية والثقافية بما فيها الأكاديميون والأكاديميات، الروائيون والروائيات، والبيئيون والبيئيات… وملكة جمال سابقة.
لكن ما سأذهب إليه بشكل أساسي اليوم هو المقارنة بين الانحراف الإسلاموي الأصولي المتمادي لأردوغان وبين التصويب التاريخي الناضج الذي دخلت فيه تونس عبر إعلان “حزب النهضة” المعتبر أحد أبرز الحركات الأصولية العربية سابقا تبنيه للفصل بين الديني والمدني وبدء توصيف قادته لأنفسهم على أنهم “مسلمون ديموقراطيون” على غرار طبعا النموذج الأوروبي للديموقراطية المسيحية.
راهنّا طويلا على أن يأتي هذا التحوّل من تركيا التي هي الدولة الرائدة في انتهاج الخيار العلماني والتحديثي في العالم المسلم والتي حققت عبر ذلك نتائج متقدمة حقيقية تجعلها الدولة المسلمة الأكثر حداثة في الشرق الأوسط وإفريقيا.
لكن المفاجأة أن هذا التحول جاء من دولة صغيرة وضعيفة على أكثر من صعيد ولكنها رائدة في كونها الدولة الوحيدة الناجية من أهوال “الشتاء العربي” الذي أفضى إليه “الربيع العربي”. ( في نيوزيلاندا كانت إحدى المؤسسات الثقافية تحضِّر لنشاطات ثقافية حول العالم العربي تحت عنوان “الشتاء العربي”).
ليس فقط بُعدُ نظر وثقافة قادة حزب النهضة هما اللذان أوصلا تونس إلى هذا التحول المضيء في العتمة الأصولية العربية بل أيضا قوة الكتلة العلمانية التونسية خصوصا نساءها في منع الصعود الأصولي والتكفيري، وتلقُّفُ قادة “النهضة” بزعامة الشيخ المحترم راشد الغنوشي هذا المعطى التونسي والتكيف معه بل التحول معه إلى حركة مسلمين ديموقراطيين. هذه الحركة التي حكمت أجزاء كبيرة ولا تزال من أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية وقادت مع الاشتراكيين الأوروبيين مشروع بناء الاتحاد الأوروبي.
خذلتنا تركيا رجب طيِّب أردوغان بعد طول رهان على إمكان تحوّل إسلامييها نحو التيار المسلم الديموقراطي. كان رجب طيب أردوغان يَعِدُ بذلك مباشرة عبر ما كان معروفا عنه أنه يفضِّل اعتباره “محافظا” وليس إسلاميا. قال لي مرة عبدالله غول وكان لا يزال وزيرا في حكومة نجم الدين أربكان أن حزبه ( حزب الرفاه يومها) يتبنّى السيكولارية الأميركية لا العلمانية الفرنسية في فصل الدين عن الدولة.
ضرب أردوغان كل هذا التيار وتبيّن أنه حوّله إلى خدعة كبيرة أخرى من خدعه الاستراتيجية …
لكن تركيا هي اليوم تحت وطأة حكم شعبوي فردي يدير حزبا يسيطر عليه الأصوليون، بل الإخوان المسلمون، بشكل سافر. لهذا فإن الرهان على العلمانية الحداثية التركية مستمر. المواجهة تنخرط فيها نخب واسعة جدا في المدن الكبرى وتحالف من طلائع مخضرمة وشبابية.
تجبر خاطرنا تونسُ اليوم في العتمة الشاملة. ولكن مستقبل علاقة الحداثة بالإسلام يتقرر في تركيا.
يظلم أردوغان تركيا مرتين: مرةً لأنه تحوّل إلى متسلِّط أفسد “النموذج التركي” للديموقراطية بعد سنواته الواعدة وثانيا لأنه يتيح عبر سلوكه إعطاء صورة إجمالية ظالمة عن كل التاريخ التركي بما يطمس الجوانب المضيئة من التعددية العثمانية والتي عرف لبنان جزءا منها خلال المتصرفية بين 1864 و 1914… بل التي عرف الأرمن أنفسهم قيمتها قبل أن تبدأ سنوات الانهيار وأخطاؤها الفاحشة.
بهذا المعنى يسيء أردوغان إلى الحاضر والماضي التركي معاً. وبالمعيار التونسي… يسيء إلى مستقبلها.