سمير عطالله كتب في “النهار”: “تيتو وكلاي ونحن”

اخترت لكم 15 يونيو 2016 0

أحببت محمدعلي كلاي، مع أنني اكره الملاكمة، والمصارعة، والتراشق بأكواب المياه في البرامج الحوارية. أحببت فيه أنه كرّس قوته في سبيل الحريّة والمستعبدين، وتحدى حرب أميركا في الفيتنام، وكان عقلاً واعياً على رغم اللكمات التي انهالت على رأسه تريد أن تنتزع منه اللقب الذي اختطفه مثل نسر، وظل محلقاً به.

بالنسبة إليّ كان محمد علي كلاي شخصية عالمية في تيارات القرن العشرين الإنسانية، مثله مثل مارتن لوثر كينغ، والقس جيسي جاكسون وجون موريسون، وسائر الجماعة في الحركة المدنية. اقرأوا ماذا قال هذا الرجل العام 1970: “لا يتطلعون إلى الملاكمين على أنهم ذوو عقول. لا يعتبرونهم رجال أعمال، أو بشراً، أو أذكياء. الملاكمون مجرد وحوش يأتون لتسلية البيض الأغنياء. أن يضربوا بعضهم بعضاً، ويكسروا بعضهم أنوف البعض، وأن ينزفوا، وأن يتصرفوا مثل سعادين، وأن يقتلوا بعضهم بعضاً من أجل الجمهور. إننا مثل عبدين فوق تلك الحلقة. يتركوننا نتقاتل، ويتراهنون علينا: عبدي يستطيع أن يهزم عبدك”.
هل يذكرك هذا الكلام بشيء؟ بأحد؟ ببلد ما؟ بشعب ما؟ عبدان يتلاكمان بلا هوادة ولا رحمة والجمهور يتبادل الرهانات. ثمة الكثير مما يجمع محمد علي بالماريشال تيتو، ذلك العظيم من رجال القرن العشرين. كلاهما طلع من قاع الفقر، وكلاهما أحب شعبه مقدار ما أحب نفسه، وكلاهما رفض أن يتحول فرس رهان.
كان تيتو أول من تجرأ على الاختلاف مع ستالين. قال له الروسي، أو بالأحرى الراهب الجيورجي: لماذا تريد جيشاً قوياً؟ نحن جيشك. قال له تيتو: شيئان لا تعطيهما يوغوسلافيا لأحد، المياه والجيش.
ماذا عُرضَ، أو طُلبَ من لبنان؟ أن يتخلى عن سياستيه: الدفاعية والخارجية. ولكن بعدما قبل، وجد نفسه يتخلى عن كل شيء آخر. كل شيء. حتى الجامعات والمدارس والبلديات والبنوك. قال تيتو لستالين وهو يحكم القسم الشرقي من الكون: لا يمكن أحداً أن يكون اشتراكياً أكثر منا. لكن الوحدة الاشتراكية لا تخولك تحويل بعض مواطنينا إلى عملاء. هؤلاء سوف نعاملهم كما تصرفنا مع عملاء النازية. للخيانة وجه واحد، وجزاء واحد.
كما كان محمد علي كلاي عملاقاً أسود في بحر من البيض، كان تيتو عملاقاً أبيض في بحر من العالم الثالث. الاوروبي الوحيد في حركة عدم الانحياز، يوم كانت الأرض تغلي بالزعامات صانعة التاريخ: نهرو، شو إن لاي، عبد الناصر، نكروما، بن بيلا، والماريشال الذي بدأ حياته عامل كاراج غير قادر على شراء الثياب “الجديدة”… إلا إذا كانت مستعملة!
الغريب أن معظمهم كان من جذور متواضعة على عكس الاريستوقراطي شو إن لاي، الذي أدرك العالم بعد غيابه، أن لولاه ولولا عبقريته في الحكم وقيادة الحزب، لانهارت “المسيرة الطويلة” في أعالي الطريق.
ذكَّرنا غياب محمد علي كلاي بالفرادات التي أعطانا اياها القرن الماضي. يوم كانت باريس الاستعمارية هي التي تصدّر إلى العالم الثالث أيضاً رجالاً أمثال شو إن لاي، وطباخ فندق “الريتز”، هوشي منه، ودنغ شياو بنغ. ويوم تلقى استاذ الليسيه “غياب” دروسه في الحاق الهزيمة بالفرنسيين في كتب التاريخ الفرنسي، وسيرة نابوليون. منها صنع نصر ديان بيان فو. ومنها صنع الانتصار على أميركا، حين كان كلاي يتساءل ببساطة: لماذا تريدون أن اذهب لقتال الفيتناميين؟ ماذا فعلوا لي؟
محيِّرٌ القرن الماضي. قاموس طويل من المذهلين والمنجزين والكبار. غياب محمد علي، الملاكم الذي تحول شخصية تاريخية، يحملنا على استعادة عشوائية لاشخاص ضنت بهم قرون كثيرة. غاندي يستقل بالهند، ومانديلا ينهي النظام العنصري، وأنديرا غاندي تحكم دلهي، وهلموت كول يوحد المانيا، وغورباتشيوف يعطي الحرية للروس، ونيكيتا خروشوف يفكك ستالين مثل دمية، وابنة بقال تحكم بريطانيا، وديغول يستدعي الفرنسيين من ذل بيتان، وبيكاسو يغير وجه الرسم ووظيفة الالوان، وستيف جوبس يغير ايقاع الكون، وبيل غيتس يفتح باب التبرع باضخم الثروات في التاريخ.
ودّعت أميركا محمد علي كلاي كما لو أنه ابراهام لنكولن. رموز السلم والبناء قلّة، تتعلق الدول بذكراهم النادرة. ففي الهند لا غاندي قبل المهاتما، ولا غاندي بعده. وفي جوهانسبورغ، كان هناك مانديلا السجين، ومانديلا الحر، ولا ثالث. لن يتكرر أحد في هذه الصورة. هذه تجليات بشرية تمر مرة واحدة بالأرض مهما دارت.
أنشأ جوزيب بروز تيتو يوغوسلافيا في ملحمة تاريخية نادرة، وفككها سلوبودان ميلوسيفيتش في غرور مألوف وموصوف. رجال يصنعون التاريخ ورجال يصنعون الرماد والدماء والبؤس. عندما ذهبتُ إلى بلغراد في السبعينات، كانت فيها حريات اجتماعية مثل أي عاصمة في غرب أوروبا. وفي زغرب، حيث تخرج تيتو صاحب صنعة، ميكانيكياً من كاراج المعلم هارمونيا في شارع زغرب الرئيسي، كانت الحياة هادئة مثل أوروبا الأخرى. في ظل الحزب الشيوعي نفسه الذي في ظله وحد تيتو يوغوسلافيا، فككها رجل أرعن ومجموعة سفاكين.
ذلك هو الفارق بين الفرد، حين يكون عظيماً، وحين لا يكون. الماريشال تيتو ربح جميع حروبه العسكرية اولاً. لم تأته الزعامة من هوس الناس به، بل من محبتهم له.
لا زعامة تاريخية من دون عمق، ولا مكانة تاريخية من دون بعد. سوف يودعنا بان كي – مون بعد قليل والعالم لا يزال يتحدث عن داغ هامرشولد، كأنه غاب أمس. القرن الماضي كان خصباً بصنّاع السلم بعد موجة رهيبة من الحروب العالمية المدمرة. هامرشولد، وغاندي، وفيلي برانت، وجيمي كارتر، وجورج ميتشل، والأم تيريزا، وشيخ الأزهر أحمد الطيب. “على المرء أن يسعى إلى الخير جهده / وما عليه أن تتم الرغائب”. فيما كان الدكتور الطيب يزور الأب فرنسيس في الفاتيكان، عادت المنيا في مصر إلى القرون الوسطى: سُحلت عجوز قبطية عارية في الشوارع بسبب شائعة عن علاقة بين ابنها وامرأة مسلمة. 300 رجل احرقوا منزلها، وعروها وطافوا بها. تقول الآية للهمج “ولا تزر وازرة وزر أخرى”. لكن الآية تحسب أيضاً حساب الغضب الحيواني في الناس: لعلهم يتفكرون. لعلهم يعقلون. لعلهم.
يصنع التاريخ أولئك الرجال الذين خرجوا من غرائزهم إلى عقولهم. لم يقل طاغور بالخروج من الاديان والمعتقدات، بل بأن تأخذ منها أفضل ما عندها. هكذا يجتمع لك احياناً، أحمد الطيب وفرنسيس، وأن كان يستحيل حتى الآن، ثبوت هلال رمضان في يوم واحد، أو توحيد الفصح عند المسيحيين. الضعفاء لا يصنعون الحدث الشجاع. قوة غاندي لم تكن في هزاله، ولا كان صاحب ميليشيا أو دبابة. قوته أنه من أجل الهند خرج من نفسه: ثوب بال وهالة عظيمة تحطمت في خيوطها امبراطورية بريطانيا. لم يكن الهدف قتل العدد الأكبر من الناس، بل لا أحد إذا أمكن الأمر.
قام الزعيم العمالي انورين بيفان بزيارة تيتو في جزيرة صغيرة كان يمضي فيها اجازته (قبل بريوني)، وعندما دعا تيتو ضيفه إلى السباحة، فوجىء بأنه لا يجيدها، فقال ضاحكاً: “رئيس وزراء بريطانيا ولا تجيد السباحة؟”. فرد بيفان ضاحكاً هو ايضاً: “أن الاسطول البريطاني يفعل ذلك عني”. تذكرت أن المرشحين “الرسميين” للرئاسة اللبنانية لا ينزلان إلى مجلس النواب. ليس اليوم، وإنما ابداً. فإذا كانت الرئاسة نفسها دونهما، فكيف النيابة. الكتب التي صدرت عن الجنرال عون في الماضي تحمل عنواناً واحداً تقريباً: “الرجل الذي تتطلع إليه الرئاسة”. معناه، هو لا يتطلع إليها. فجأة اكتشفنا، عندما احتد الأمر بينه وبين الوزير سليمان فرنجية، أن لا مانع من التطلع إليها أحياناً.
طلب محمد علي كلاي حقه بالشركة في الأرض. لولا العبيد السود لما كان القطن أبيض في أميركا. فيما ودعته الجمعة الماضي، بدأ ايضاً وداع اول رئيس أسود، وبدأ استقبال أول امرأة مرشحة للرئاسة. استحالاتان، جعلهما رجال مثل محمد علي محتملتين. لم تكن بطولته في قبضته، فإن مداحل مثل مايك تايسون، لها ايضاً قبضات قاضية، لكن القوة الهائلة كانت في ذلك الجمع العبقري بين القضية والإنسان، فبدا يقاتل من أجل شيء واحد فقط: كرامته كنموذج لكرامة شعبه.
لا تستطيع أن تهين كرامتك من غير أن تهين كرامة شعبك. كان في امكان تيتو ان يساوم منذ اللحظة الأولى، وينتهي مثل عشرات من حكام أوروبا الشرقية الذين تقبلوا الاملاء الستاليني. لكنه قرر أنه قاد اليوغوسلافيين إلى القتال من أجل الحياة، لا من أجل الهوان. تمنى اليوغوسلافيون لو أن ثمة رتبة أعلى يعطونها “المعلم بروز”، خريج كاراج المعلم هارمونيا. فما هي الماريشالية مقابل ما فعل؟ مجرد عصا وبضعة أوسمة.
غاب باراك أوباما عن جنازة محمد علي كلاي من أجل ابنته، غائب عن كل المواقف الإنسانية الكبرى هذا الرجل. ومن باب الغياب سوف يدخل التاريخ الذي لا يُصنع إلا بالحضور.