تكريم مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان: لسنا تيار استسلام نحن تيار قرار

كلمات 19 أغسطس 2016 0

HUS_1259(1)

سأبدأ الليلة بتحية إلى سماحة مفتي الاعتدال الوطني، الواقف بحزم في وجه محاولات زجّ الإسلام في أوصاف بعيدة عن مفاهيمه الصحيحة، المفتي المتمسّك بأنّ الإسلام دين حضارة وأخلاق وعدل وإحسان ورحمة، وليس دين إرهاب وتطرّف، المفتي حامل رسالة الاعتدال أينما حللتَ في الخارج، من القاهرة إلى أسوان إلى الدوحة إلى أوروبا، عنوانك الكبير دائماً حرص دار الفتوى على تعزيز الوحدة الإسلامية بين السنّة والشيعة، والوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، في إطار احترام المؤسسات الدستورية وسيادة الدولة.
منذ وصول سماحتك إلى دار الفتوى حملتَ راية تطوير مفهوم ثقافة الاعتدال والتسامح والكرامة الإنسانية ونشر الفكر الوسطي، وذلك بأساليب وطرق حديثة وحضارية انطلاقا من قناعتكم بأنّ المسلمين في لبنان هم أهلُ اعتدالٍ ووسطية، يواجهون التطرّف بوحدتهم وتضامنهم، وأنت من رفع شعار المصارحة من أجل المصالحة.
توجّيهاتكم يا سماحة مفتي الاعتدال الوطني واضحة وصريحة وصارمة، وهي أنّ الجهد الأكبر من دور المؤسسات الدينية ينبغي أن يكون في التصدي للفكر الشاذّ، وفي القضاء على ظواهر التعصب والتطرف، من خلال خطاب ديني سمحٍ منفتحٍ على الآخر، لكن من دون التخلي عن الحقّ، ودون التخلي عن الدين، ومن دون التخلي عن حقيقة الإسلام.

أستذكر هنا أنّه قبل انتخاب سماحة المفتي بأسبوعين أو ثلاثة، كنّا في عشاء بيروتيّ عند الحاج أحمد ناجي فارس. كان طازجاً حادث رأس بعلبك، وكانت بدايات اعتداء التطرّف التكفيري على الناس. يومها وصلت مجموعة من الأشخاص، سرقوا معدات وآليات وخطفوا آخرين، وقد وردتني مجموعة اتصالات من أهالي البلدة، وحينها لم أكن وزيراً للداخلية بعد، فلم يكن بإمكاني فعل أكثر من رفع المعنويات بالتضامن معهم. لكن أذكر أيضاً أنّني قلتُ كلاماً بالغ في التعرّض إلى أشكال يعتمدها التكفيريون، باعتبارها أشكالاً إسلامية. لن أكرّرها اليوم لأنّها كانت حادّة وانفعالية، وبصراحة لقد طالت كثيراً من الناس الذي ما كان يجب أن تطالهم. الأهمّ من كلمتي بكثير أن سماحة المفتي يومها كان موجوداً، وحين أخذ الميكروفون، ذهب أبعد منّي بكثير، لكن بسلاسته ومحبّته ووطنيته وبمسؤوليته كرجل دين أيضاً.
وبصراحة:
عندما ذكر الحاج كمال أنّ هذه الذكرى هي الثانية لانتخاب سماحة المفتي، فوجئت لأنني كنتُ أعتقد أنّه مضى على انتخابه وقتاً أكثر. فما فعله سماحة المفتي خلال هاتين السنتين، من إنجازات ذكر بعضها الحاج كمال أحمد ناجي فارس في كلمته، ما فعله أشياء كثيرة. فهو نشر الطمأنينة وفكر الهدوء والسكينة من دون توتر أمام الأزمات الكبرى. ما حداني إلى الاعتقاد أنّه ربما مضى عشر سنوات وأكثر.
أما في السياسة:
فمن المؤكد أنّ لديكم الكثير من الأسئلة، خصوصاً بعدما سمعتم المقابلات وقرأتم المقالات خلال الأيام الأخيرة، تلك التي امتلأت بالافتعالات والاختراعات. وعلى كلّ حال فإنّ الدكتور عمار حوري والأخ محمد قباني كانا حاضرين خلال كل الحوارات الحقيقية. وما أستطيع قوله إنّ 90 في المئة مما حصل لا يُشبِه ما نُشِرَ ولا ما قيل. لكن هذا هو البلد وهذه طبيعته.
لقد مضت سنتان على الفراغ الرئاسي، والشلل التام في المجلس النيابي. ويقرّ كلّ أركان الحكومة أنّها تشبه الفراغ في البلد، من تراكم للأزمات، من الكهرباء إلى النفايات الى آخره… ونحن خلال هذه الفترة، سواء في تيار المستقبل أو في كتلة المستقبل أو في كلّ أجوائنا السياسية ومعنا أصدقاء، بدأنا في نقاش جدي لأنّنا على اعتقاد وقناعة أنّنا بتنا على مفترق طرق ولا يمكننا الاستمرار على النحو الذي فعلناه خلال السنة الماضية. فنحن عملياً قدمنا كل شيء وتصرّفنا على أساس أنّنا أمّ الصبي وأبوه وخاله وعمه، ولم نترك مجالاً لأحد كي يهتمّ بالصبي غيرنا. فتبيّن بعد ذلك أنّ الامور لا تسير على ما يرام، ولا بدّ من التفكير في بطريقة ثانية. وتبيّن أنّ الاهتمام بالوطن لا يقع على عاتقنا وحدنا، ويجب أن يتصرّف الآخر مثلنا.
لقد قبلنا بأنصاف التسويات وقمنا بأنصاف المواجهات، ومع ذلك لم ينفع هذا في الوصول إلى الحلّ. كلّما تعطي أكثر يطلبون المزيد. ولم نصل إلى النتيجة المرجوّة. رغم ذلك نحن فريق سياسي لبناني كنّا وما زلنا وسنظلّ مؤمنين أن لبنان بطبيعة تركيبة نظامه السياسي وعلاقات طوائفه ومكوناته، هو بلد التسويات. إنّما تحت سقف الدستور، وفي ظل عملية ديمقراطية سليمة. التسويات لا تعني الإطاحة بالآليات السياسية. التسويات لا تعني استبدال العملية الدستورية بنظام “مجلس الخبراء”. التسويات هي أنّ القرار يجب ان يكون من داخل النظام وليس من خارجه. التسويات هي أن القرار هو للمؤسسات وليس لغير المؤسسات.
مددنا اليد أكثر مما يحتَمِل أوفى الاوفياء بيننا، دفاعاً عن كلمة سواء مع شركائنا في الوطن، ولم نلقَ، صراحةً، إلا الإهمال مضموناً، والاهتمام شكلا. لذلك سأسمح لنفسي بقول الآتي:
ربما يعتقد البعض أنّ هذا الكلام خارج السياق لأنّ البلد كله يتحدث عن تسوية معروضة ومطروحة على الطاولة. الحقيقة أنّ التسوية المطلوبة لا تتعلّق بانتخاب رئيس للجمهورية ، ولا بهيبة رئيس الحكومة، لأنّ من سيتم تسميته هو الرئيس سعد الحريري، الذي يستحق ذلك بأصوات الناس وبدماء الشهداء وليس منّة من أحد. كما أنّ التسوية ليست بهدف إجراء انتخابات نيابية، ولا لنأتي برئيس يستحقّ الرئاسة، وأنا من هنا أقول إنّ صوتي منذ اللحظة الأولى ولحين خروجي من المجلس النيابي هو للرئيس نبيه بري، لا يحتاج إلى شهادة من أحد لتأكيد رغبة الذين يصوّتون له.
ثم ما أهمية أن ننتخب مجلس نواب حاليا، وهو سيبقى مشلولاً ومقفلاً وممنوعاً من الإنتاج، لا في الرئاسة ولا في الخيارات الأساسية. لقد اجتمعنا مرّة واحدة بسبب قرارات مالية بعدما سمعنا كلاماً عن أخطار لا حدّ لها إذا لم تتخذ هذه القرارات.
بل إنّ التسوية تعني العودة إلى لبنان بشروط لبنان الجامع الموحد، التسوية تعني العودة إلى الدولة بشروط الدولة، لا بشروط قويّ هنا أو قويّ هناك. من هنا أقول إنّنا على مفترق طرق خطير وحسّاس بما يتعلّق بخياراتنا كفريق سياسي، في ضوء ما يجري في المنطقة وفي ضوء الحرائق المندلعة والحروب الأهلية المتنقّلة التي استدعت بشكل غريب عروض تسويات ومصالحات مع من كانوا قبل أيّام مجرد عصابات تكفير ومشاريع إسرائيلية.
أليس الأولى أن نتصالح كلبنانيين ونعقد التسويات بيننا بما يحفظ الكيان والنظام وأهل النظام وأهل الوطن؟
كنّا وما زلنا طلاب تسوية، لكنّنا نرفض أن تكون التسوية إسماً حركيا لأمرين هما الاستسلام أو الانتظار. نحن لسنا تياراً مستسلماً ولا تيار انتظار سياسي. نحن تيار قرار، بتمثيلكم وبمحبتكم وبقدرتكم وبقوتكم وبالتأكيد لن نقبل لحظة أن نكون تيار استسلام سياسي ولا تيار انتظار سياسي. وغدا فإنّ الأيام، والأيام القريبة وليس البعيدة، ستبيّن صحّة كلامي.
صحيحٌ أنّ خياراتنا محدودة، لكنّ خياراتنا بيدنا ولا يقرّر عنّا أحد، وعندما نمسكها بيدنا نستطيع التحكم بها على الرغم من كلّ ما تسمعونه من مشاكل وعلى الرغم من كل ما تشاهدونه من استعراضات قوّة.
آخر استعراضات القوّة ما قرأته في جريدة الأخبار وكان مفاجأة كبيرة جداً جداً بالنسبة لي. ولا بدّ من التذكير هنا أنّنا كنّا نتناقش خلال جلسات الحوار حول بند دائم غير رئاسة الجمهورية، يتعلق بما أسمّيه سرايا الفتنة، وهم يسمّونه سرايا المقاومة. كنا نقول لهم دوما إنّ هذا الانتشار في المدن والقرى ومفترقات الطرق، لا يأتي بنتيجة. ثم من هم هؤلاء الذين تسمّونهم “سرايا مقاومة”؟ هؤلاء نحن نعرفهم اسماً اسماً، والبلد صغير والناس تعرف بعضها، ولكلّ واحد منهم ” فيشته”، أي ملفه، الذي يُقرأ بسرعة. ولا أحد يمكنه أن يدّعي النزاهة والشرف والاستقامة والكرم، وهو لا يتمتّع بهذه الصفات.
إذاً قرأت اليوم أنّ سرايا المقاومة جيش من 50 ألفا وأنّ لديها مهمات داخلية. هنا أسأل: في وجه من يقف الخمسون ألفاً هؤلاء؟ وما هي مهماتهم الداخلية؟ ثم يتحدث المقال عن “واقع مبتوت في زمان مطلوب فيه راس المقاومة وأنصارها في كل لبنان ومن كل الطوائف”. فعلاً هي مسألة محيّرة: كيف يمكن بناء بلد مع جهة تعتبر نفسها مستهدفة من كلّ الطوائف؟ وكيف يمكن أن تبنوا بلداً كلّ من فيه يعادونكم ويطلبون رأسكم؟
بعدما قرأت هذا الكلام تبيّن لي أنّ وظيفتهم الثانوية هي محاربة التكفيريين، لكنّ عملهم الأساسي هو مواجهة التهديد الداخلي.
في الحقيقة بعدما قرأت هذا الكلام أريد القول إنّ هذه ليست سرايا فتنة بل سرايا احتلال. وهذا الاحتلال لا ولن نقبل به تحت أيّ ظرف من الظروف. لقد جرّب هذا السلاح مرّة وأتى بنتيجة سياسية ، لكن أقول على مسؤوليتي، ولا اعتقد أنّ زملائي يختلفون معي، أنّه مهما كان نوع السلاح. كلّ واحد يستعمل ما يريد، لكن نحن كأهل وكمجموعة وكمسلمين كلّنا قاومنا الاحتلال الإسرائيلي قبل أن تخرج الأسماء الأخيرة. وأنا من جيل تشكّل وعيه على مقاومة إسرائيل. نحن تربّينا على مقاومة اسرائيل ولن نقبل أن يتحول هذا الاحتلال إلى احتلال لبناني، بل سنقاومه بكلّ الطرق والوسائل السلمية والسياسية، ولن نقبل به تحت أيّ ظرف من الظروف وفي كل مكان وليس فقط في الحوار.
لقد قرأتُ هذا الكلام مرات عدّة ولم أصدقه. وأعتقد أنّ من قال هذا الكلام ليس سوياً. فكيف يكون كل اللبنانيين معادين لك وأنت الوحيد الوطني اللبناني تدافع عن لبنان في وجه التكفيري وإسرائيل. إذا كان كل اللبنانيين معادين لك فلن تستطيع مواجهة أحد، كائناً من كان معك، ومهما كانت وظيفته أو طائفته أو قدرته.
أحببت قول هذا الكلام من هنا لأنّ هذا المنبر كان على الدوام منبراً بيروتياً وطنياً، وكما تفضل الحاج كمال فهي مناسبة نتذكر خلالها حضور الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله، الذي تعلّمنا منه الكثير وكان من أوائل المقاومين ضدّ إسرائيل.