تفاءلوا بمصر تجدوها؟

مقالات 29 أكتوبر 2007 0

ذهبت الى القاهرة في العام 1982 لإجراء مقابلة مع الرئيس حسني مبارك الجالس حديثاً على مقعد الرئاسة المصرية بعد اغتيال الرئيس أنور السادات، رجل الكثير من المهمات أُولاها العبور في حرب تشرين من العام .1973 مناسبة الحديث الرئاسي كانت انسحاب آخر جندي إسرائيلي من الأراضي المصرية المحتلة على قاعدة اتفاق سياسي بين الدولتين.
لم يكن من الطبيعي اكتمال الصورة السياسية لمصر في ذلك الحين، من دون لقاء مع الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس المصري المستمر في منصبه دون مهامه حتى اليوم.
لم يكن لبنان يكفي عروبة شاب يافع، يرفض غياب الدور السياسي المصري عن دنيا العرب. ويجد في التطورات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط حافزاً لعودة العلاقات العربية المصرية الى طبيعتها التواصلية. ويرغب في عودة مصر الى دورها في العالم العربي بعد أن استردت أراضيها المحتلة.
هذا قبل حدوث الاجتياح الإسرائيلي للبنان، الذي كان متوقعاً وليس هناك غير مصر تستطيع الحؤول دون الخراب الذي وقع لاحقاً بلبنان. إذ إن عنصر التوازن الوحيد بحجمه وقدرته وتاريخه في العالم العربي هو الدور المصري.
وضعت الصورة السياسية التي أحملها أمام الدكتور أسامة الباز باعتباره من المدرسة التي بدأت العمل السياسي في المرحلة الناصرية، ولا بد من أن تكون تلك المرحلة بأضوائها الباهرة عربياً قد تركت فيه أثراً أناشده على أساسه.
في مكتبه في المبنى القديم العريق لوزارة الخارجية ارتاح المستشار السياسي للرئيس المصري، وقال لي: اسمع، أفهم تماماً ما تقول، لكننا نحتاج الى عشر سنوات من النقاهة من العمل العربي المشترك، ننصرف خلالها الى ترتيب شؤوننا الداخلية وأولها الوضع الاقتصادي. لقد وضع الرئيس السادات، رحمه الله، مجموعة كبرى من المفاهيم السياسية والاقتصادية الحديثة على طاولة الرئاسة قبل اغتياله. والحكم الجديد سينصرف الى برمجة تطبيق هذه المفاهيم. ومهما قلنا عن تماسك الحكم الجديد الذي أخذ شرعيته من الثورة فإن اغتيال الرئيس السادات ترك آثاراً كبيرة وجدية في الهيكل المصري لا بد من معالجتها قبل العودة الى القضايا العربية، أي الى النزاع العربي الإسرائيلي، بمفهومه السائد في الأجزاء الأخرى، غير مصر، من العالم العربي.
بالفعل، تحقق استشراف المستشار السياسي الأشهر في العالم العربي، وبقيت مصر على غيابها عن دورها العربي، ولم تتراجع القيادة المصرية عن قرارها بالرغم من الخسائر البالغة التي أصابت لبنان وسوريا من جراء الاعتداءات الإسرائيلية، فضلاً عن فقدان التوازن في العمل العربي المشترك طوال هذه السنوات.
في العام ,1993 رافقت الرئيس الشهيد رفيق الحريري في زيارته الرسمية الأولى الى مصر، وكان على لائحة زواره في مقر إقامته الدكتور أسامة، فما كان مني إلا أن استبقت لقاءه بالرئيس الحريري في الممر المؤدي الى صالون الاستقبال، لأسأله أما وقد مرت السنوات العشر فأين الدور العربي لمصر؟
لم يجد الدكتور أسامة جواباً غير طلب التمديد لسنوات النقاهة المصرية من الأمراض العربية، على حد تعبيره، مع التأكيد أن سنوات التمديد لم تحقق لمصر الكثير من الإجابات عن أسئلة حالتها الاقتصادية، ولم تعزز وضعها الدولي، ولم تحجب عنها الأخطار المحيطة بها.
***
لا تعترف الإدارة السياسية المصرية بسهولة بأن هناك تبديلاً في أولويات العمل السياسي الخارجي المصري منذ الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في تموز من العام الماضي، بعد أن كانت حدود الأمن القومي المصري تُرسم داخل مربع خطه الأول منابع نهر النيل، وخطه الثاني هو البحر الأحمر، بينما الحدود المشتركة مع قطاع غزة الفلسطيني من جهة والسودان من جهة أخرى، تفرض الخطين الأخيرين من هذه الحدود.
بعد أن كانت هذه حدود الأمن القومي الهادئة طوال السنوات الماضية جاءت التطورات في السنتين الأخيرتين، لتظهر أن أزمات السودان لا تنتهي، وأن هناك نظاماً متهوراً يجتاح المفاهيم الدولية من دون رادع من ذاته. وما يجري حتى الآن في إقليم دارفور هو خير دليل على ذلك.
وعلى الجانب الآخر، فإن تطورات القضية الفلسطينية جعلت من قطاع غزة تدريجياً منبراً سياسياً ومورداً عسكرياً ومجالاً انقلابياً على السلطة الوطنية الفلسطينية التي تعتمد أسساً مماثلة للأسس المصرية في السلام مع إسرائيل، بينما الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وآخرها الحكومة الحالية، تتجاهل آثار سياستها الرافضة عملياً للسلام، على الدول العربية، وخاصة على دول الطوق ذات الحدود المشتركة مع إسرائيل.
كما أن البحر الأحمر الممتد الى دول الخليج العربي أصبح مصدر قلق منتظرا بسبب الانتشار الإيراني السياسي في الدول النفطية بعد لبنان وسوريا.
أمام هذه المتغيرات، كان لا بد من إعادة النظر في الأولويات الخارجية المصرية، إنما بتؤدة، وهو وصف دون التأني في الحركة على الطريقة المصرية.
قبلت الإدارة المصرية السياسية بالسعودية طليعة لحركة عربية دعا الى تشكيل إطارها العاهل الأردني عبد الله بن الحسين، فكان الرباعي العربي الذي بدأ أعماله باجتماعات أمنية في العاصمة الأردنية بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، وتطورت الاجتماعات الى الإطار السياسي. لعبت العلاقات الخاصة والحميمة بين العاهل السعودي والرئيس المصري دوراً كبيراً في هذا المجال، كما أن شبكة العلاقات السعودية فيها الكثير من الحيوية في مناطق النزاع.
تركت مصر للسعودية اتفاق مكة الفلسطيني رغم بروز ظواهر عتب مصري على الفلسطينيين بداية، لكن حين سقط الاتفاق تصرفت مصر على قاعدة أن السقوط يطالها بقدر ما يطال السعوديين. لكن الانقلاب في غزة كان أسرع وأكثر قدرة على الإمساك بالأرض من الرغبة المصرية بلملمة الأوضاع في فلسطين المحتلة.
ثم تفرجت على السعودية تدخل وتخرج على الساحة اللبنانية من دون أن تُظهر أكثر من رغبتها بالدعم عبر السفير المصري في بيروت. تعرضت الحركة السعودية في لبنان للكثير من المطبات، في أغلبها من سوريا وحلفائها في لبنان، بينما تولت البقية الإدارة الأميركية.
حاولت مصر الحفاظ على شعرة معاوية في العلاقات مع دمشق ونجحت في أن تبقي خط الاتصال مفتوحاً من دون حرارة. فالإدارة المصرية تعلم أن الاستراتيجية السورية ذهبت مع إيران في منحى مخالف تماماً لما يراه الرباعي العربي.
***
إلى أن جاءت زيارة وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط في الأسبوع الماضي الى بيروت لتوحي كأن هناك تغيراً استراتيجياً في السياسة الخارجية المصرية تجاه واحدة من مناطق النزاع العربي.
فالزيارة هي الأولى من نوعها لوزير خارجية مصري منفرداً الى لبنان منذ سنوات طويلة. وهي تأتي في وقت يقترب فيه موعد الاستحقاق الرئاسي اللبناني ويُبنى عليه الكثير من الآمال، بالقدر نفسه الذي يسبب فيه هذا الاستحقاق الكثير من القلق والتوتر للبنانيين في حال عدم حدوثه.
حملت عناوين الزيارة أكثر بكثير مما تحتمل، لسببين: الأول الاستثناء في الزيارة الرسمية المصرية، ما أعاد الى الأذهان الحجم المصري، والثاني رغبة اللبنانيين بدور عربي جامع مماثل للدور السعودي الذي قرر الاحتجاب في هذه الفترة بعد كثير من الظهور.
غلب على الزيارة طابع الشائعات، أُولاها وأهمها ان الوزير المصري جاء ليدعم ترشيح العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية، وهذا غير صحيح طبعاً وغير طبيعي في التقاليد الدبلوماسية. بعد ساعات من وصول الوزير المصري الى بيروت وصفت وزارة الخارجية المصرية زيارته، بأنه يحمل عناصر رؤية للحل متعلقة بأزمة الاستحقاق الرئاسي. لكن جولته على المسؤولين اللبنانيين، وعلى الأخص الرئيس بري والنائب سعد الحريري، منفردين ثم مجتمعين في عين التينة، أظهرت ان الوزير أبو الغيط يدعو الى استعادة نشاط هيئة الحوار بين الاطراف اللبنانيين.
ما هو جدول الأعمال؟ كيف تمكن العودة الى الحوار الموسع قبل أقل من أسبوعين على موعد جلسة الانتخاب في الثاني عشر من الشهر المقبل؟
رد الوزير المصري بالقول ان فوائد الحوار لا تنتفي، ولو قبل ساعة واحدة من جلسة الانتخاب، وحتى لو اضطر الأمر الى ايقاف عقارب الساعة.
الاستنتاج الذي لم يُظهره الوزير المصري ان هناك مخاوف جدية لدى ادارته السياسية من عدم اجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، ليس فقط لأسباب سورية كما هي العادة، بل لأسباب أميركية لا يعترف اللبنانيون والعرب عادة بحدوثها.
فالدعوة الى الحوار الموسّع تضع على جدول الأعمال بندين لا ثالث لها: الأول هو المرشح الرئاسي وفق المواصفات التي وضعها البطريرك صفير، أي انه على مسافة واحدة من جميع الاطراف. يجمع ولا يفرّق. لا يخجل مستقبله من ماضيه . وهذه آلية غير عملية وغير ممكنة التحقيق على طاولة حوار. أما البند الثاني، فهو ما بقي من جلسات الحوار السابقة، أي سلاح حزب الله والاستراتيجية الدفاعية للبنان. وهذا الأمر في غير زمانه الآن، ويحتاج الى تهيئة لا يمكن ان تترافق مع انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. فكيف إذا كان الاقتراح المصري يتضمّن الاتفاق على الحكومة، ورئيسها، والبيان الوزاري، وكل القضايا الخلافية.
***
هل تريد الإدارة الأميركية تعهداً مسبقاً يتعلق بسلاح حزب الله قبل السماح بإجراء الانتخابات الرئاسية؟
كتب السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان 3 مقالات في الأسبوع الماضي، ادعى أنه يرد فيها على نبأ رغبة الإدارة الأميركية بإقامة قواعد عسكرية أميركية في لبنان.
بصرف النظر عن مدى جدية هذا النبأ، فإن اسلوب مقالات السفير الأميركي ومضمونها، يحملان الكثير من التحدي غير الدبلوماسي وفتح ملفات أمنية في العلاقات اللبنانية السورية باعتبارها تقع في دائرة القرار السياسي والأمني الأميركي، ما ذكّر اللبنانيين بالأسلوب السوري الفج في هيمنته حين يتناول القضايا اللبنانية. لا يمكن اعتبار ما ورد في هذه المقالات، تشجيعاً على وفاق، ولا ترغيباً في حوار، بل دعوة من جديد الى تعبئة لاشتباك سياسي بين الاطراف اللبنانيين، يحول دون اجراء الانتخابات في موعدها.
لم يرتبك السفير فيلتمان عندما سُئل عن هذه اللغة في مناسبة اجتماعية، في القول انه لا يرى في حوارات الوفاق الجارية سبيلاً لاجراء انتخابات رئاسية بعيدة عن التأثير السوري بأي شكل من الأشكال. بل انه عبّر عن رغبة لديه لم يتلق بشأنها تعليمات رسمية، في ان تجري الانتخابات الرئاسية بعد صدور القرار الظني للجنة التحقيق الدولية المكلفة بملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعندها يمكن للانتخابات ان تجري بعيداً عن الثقل السوري وحلفائه في لبنان.
ترافق هذا الكلام الأميركي مع معلومات منسوبة لمسؤولين عرب كبار، وبعض مَن في دوائر القرار السياسي في العاصمة الأميركية، ان هناك قراراً إسرائيلياً بموافقة أميركية متخذاً بضربات تحذيرية وتأنيبية الى سوريا، وان البحث جار حول التوقيت.
بالطبع، لم يتناول الوزير المصري هذه المعلومات في أي من لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، لكن لا يمكن ان تكون خارج دائرة معرفته وتفكيره، وبالتالي في حركته الاستثنائية الى الداخل اللبناني. كذلك الأمر بالنسبة الى زيارة وزير الأمن السياسي المصري اللواء عمر سليمان الذي سيتناول هذا التصور في محادثاته مع المسؤولين السوريين. هذا لو تمت الزيارة المتوقع ان يقوم بها الى دمشق هذا الأسبوع.
***
ماذا عن دمشق؟
أكدت الخارجية الفرنسية منذ يومين، ما نُشر في السفير قبل أسابيع ان هناك حواراً دائراً في أوساط القرار في العاصمة السورية. ثمة رأي متشدد يقول إنه لا يجوز ملء الفراغ الرئاسي في لبنان إلا من خلال حوار أميركي سوري، او على الأقل حوار سعودي سوري. هذا مع العلم بأن الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى عمل على عقد قمة مصرية سورية سعودية فجاءه الجواب السعودي بأن عليه أولاً احضار ورقة موقعة من الرئيس الأسد بما يمكن الاتفاق عليه.
الرأي الآخر في دمشق يأخذ في عين الاعتبار العملية العسكرية الإسرائيلية على منشأة غامضة الوظيفة في منطقة دير الزور، والتي أزالت السلطات السورية آثارها في الأسبوع الماضي. وكذلك، فإن احتمالات انعقاد القمة العربية الأولى المقررة في دمشق في شهر آذار المقبل ستضعف في حال التشبث بالموقف الداعي الى الفراغ الرئاسي في لبنان، هذا مع العلم بأن هناك من ينقل من العاصمة السورية ان الرئيس الأسد اجتمع بكبار الضباط في الجيش بعد العملية الإسرائيلية في دير الزور وطلب منهم الاستعداد على قاعدة ضرب المطارات التي تقلع منها الطائرات الإسرائيلية، ما لم يكن باستطاعتكم أي الضباط ضرب الطائرات نفسها في الأجواء السورية.
حتى الآن، لا يمكن القول ان الرأي الهادئ المستوعب للتطورات قد حقق تقدماً فعلياً. لذلك لن يسمع السفير كوسران موفد وزير الخارجية الفرنسي أجوبة نهائية عن أسئلته، لأن المسؤولين في دمشق يريدون من الوزير كوشنير أن يأتي شخصياً الى العاصمة السورية لسماع ما يريده من اجابات.
من هنا، يظهر ان صراعا بين متطرفين، أميركي وسوري، يجري على الاستحقاق يحاول المصري بتدخله المباشر ان يشكل عازلاً بينهما. فهل ينجح؟
الثلاثي المؤلف من البطريرك صفير والرئيس بري والنائب سعد الحريري، ينأى بحركته عن هذا الصراع، مع معرفته بطبيعته وقدراته. وهم في سعيهم يتحصنون بموقف الاتحاد الأوروبي والرباعي العربي وخاصة زاويته السعودية. لذلك، حدد الرئيس بري جلسة الانتخاب بعد القمة التي ستعقد بين الرئيسين الأميركي والفرنسي في السابع من الشهر المقبل حيث سيعمل الرئيس ساركوزي على فك صاعق التطرف الأميركي، بينما يعمل الجانب المصري على فك مثيله في سوريا.
النجاح في لبنان يستحق المحاولة.
في لبنان خطر كبير، لكنه جميل جداً، ويستأهل القتال من أجله، والموت أيضاً .
الكلام للنائب سعد الحريري في النيوزويك الأميركية. فهل تكمل مصر مفاجآتها الدبلوماسية حتى يصدق القول تفاءلوا بمصر تجدوها؟