تسوية أم استسلام؟

مقالات 17 ديسمبر 2007 0

بدا العماد ميشال سليمان في الاسبوع الماضي وكأنه قائد الجيش المرشح لرئاسة الجمهورية، بعد أن كان رئيساً يسمّي قائداً للجيش بانتظار انتهاء الاجراءات الدستورية اللازمة لدخوله الى قصر الجمهورية في بعبدا.
لم يحدث هذا لخللٍ في جهوزيته ولا لتغيّر في سياسته، بل لأن القوى السياسية التي رشحته لا تستطيع وحدها ايصاله الى الرئاسة. بينما القوى المترددة والمتحفظة وحتى المعترضة على تسميته، تريده رئيساَ لو انتخب بعد ان تنزع عنه صفات الصورة العسكرية القادرة على تحقيق ما لا يستطيعه المرشحون المدنيون. بصرف النظر عن حقيقة القدرة العسكرية في النظام اللبناني.
هناك ثلاث حقائق ظهرت في الاسابيع الثلاث الاخيرة منذ نهاية المهلة الدستورية في الرابع والعشرين من الشهر الماضي وحتى الآن.
الحقيقة الاولى ان ترشيح زعيم الاكثرية الشاب سعد الحريري للعماد سليمان كان مفاجأة بالفعل لقوى المعارضة من دون استثناء وللكثير من قوى الرابع عشر من آذار والأهم ان ترشيحه كان مفاجئاً للقيادة السورية. فلا أحد ممن كان لا يعرف بالترشيح تصوّر ان النائب الحريري ومعه وليد بك والرئيس السنيورة يمكن أن يتخلوا عن رفض تعديل الدستور ليس لاسباب مبدئية فقط، بل لما للتعديل من ذكريات مريرة في نفوسهم بعد التعديل الدستوري الذي مدد للرئيس السابق اميل لحود في العام 2004 واغتيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري على أثره. لقد تجاوز النائب الحريري الكثير من المحظورات السياسية بترشيحه العماد سليمان. أولها بالطبع التعديل الدستوري وثانيها الطبيعة السياسية القريبة من القيادة السورية لقائد الجيش اللبناني والذي يحافظ حتى اليوم على علاقة وثيقة بالرئيس بشار الأسد شخصياً.
احتارت القوى المحلية المعارضة امام هذا الترشيح وخاصة لدى طرفين اساسيين. الاول هو حزب الله المعني مباشرة بالتنسيق مع قيادة الجيش. فعلى الرغم من التجربة المرنة والمتعاونة بين قيادة الحزب وقائد الجيش منذ ان عيّن قبل تسع سنوات. فإن المفاجأة ايقظت في قيادة الحزب مخاوف من أن يكون الترشيح جاء نتيجة لتغير سياسي في العماد سليمان لم يلاحظوه رغم متابعتهم الدقيقة للعلاقة معه. ازدادت هذه المخاوف حين ظهر الحماس الاوروبي تباعاً ومن ثم الاميركي الفج على طريقة السفير فيلتمان، لترشيح العماد سليمان.
هناك من يقول ان هذا التوجس طبيعي لدى قيادة لا تعرف من الثقة إلا ما تراه امامها كل يوم. فكيف إذا كان الأمر منوطا بالعلاقة بين الجيش اللبناني الذي سيصبح قائده رئيساً للجمهورية وبين تنظيم عسكري وأمني لديه من الهموم اللبنانية ما يكفيه منذ حرب تموز في العام ,2006 وتحقيق مقاتلي حزب الله صموداً عسكرياً في وجه الجيش الاسرائيلي، لم تنته اثاره داخل اسرائيل حتى اليوم. استمهلت قيادة الحزب امام الترشيح فأخذت خطوة الى الامام بدعم الترشيح وخطوتان الى الوراء بشروط التعديل الدستوري وغيرها مما سمي بالضمانات وهي صفة لا يفترض انها تنطبق على العماد سليمان.
وجد هذا التحفظ هوى عند العماد ميشال عون، فهو لا يستطيع مقاومة ترشيح قائد الجيش علناً لأن في الجيش وعائلات عسكرييه وضباطه نشأت حكاية الرئاسة عند عون نفسه فكيف يحق له ان يعترض على زميل لا حق له في القيادة العسكرية.
في الشكل أيد العماد عون ترشيح سليمان وصار من الشجاعة عنده ان يقول عندما يسأل عن الترشيح انه لو كان لا يؤيده لاعلن ذلك وبالتالي فلا ضرورة للسؤال عن هذا الموضوع. بل لا بد من الانتقال الى البند الآخر وهو البحث مع الأكثرية مسبقاً في تقاسم مقاعد الوزارة وتسميته قائد الجيش الجديد ومناصفة مراكز الفئة الاولى في الادارة بين المسيحيين والمسلمين باعتبار ان هناك اجحافاً مستحدثاً بحق المسيحيين.
أعاد العماد عون النقاش السياسي الى صفحته الاولى بعد ان تنازل مبدئيا عن ترشحه للرئاسة. فبات يبحث عن مخارج لفظية مهينة للرئاسة وللمرشح العماد سليمان. إذ انه في الاتفاق المؤكد الاول بين الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري تم الاتفاق المعلن على ان للرئيس الجديد الثلث المعطل وليس للمعارضة. كما انه ليس للأكثرية وفق حساب معين اكثرية الثلثين. وبالتالي فعلام التفاوض بعيداً عن العماد سليمان.
أما مناصب الفئة الاولى في الادارة فهي مناصفة بحسب الدستور وإذا كان هناك من اجحاف غير مؤكد فيجري معالجته في مجلس الوزراء باعتباره مسألة اجرائية وليس خطراً سيادياً.
كذلك قيادة الجيش التي ذهب اللواء فرنسوا الحاج شهيداً لها باعتباره الاول بين المرشحين. كيف للعماد عون ان يطلب من قيادة الأكثرية التفاهم المسبق على تسمية قائد الجيش، في الوقت الذي فيه للعماد سليمان الرئيس القادم من قيادة الجيش الحق الاول عرفاً وسياسة تسمية من سيأتي بعده.
يبقى الدور الدستوري للحكومة في التعديل الدستوري والتي يتبارى قادة المعارضة في شرح عدم شرعيتها وفقدانها لدستوريتها بعد استقالة وزراء حركة أمل و حزب الله منها. مع العلم ان هذا المنطق لغم سياسي لا يستطيع احد الدفاع عن صحته في وجه كل القوى المعنية بالشأن اللبناني. هذه الحكومة اتخذت ألاف القرارات لكنها انجزت قراراً واحداً يعني غالبية اللبنانيين وهو المحكمة الدولية التي ذهب ضحية اقرارها عشرات الشهداء. فكيف يطلب منها ان تتخلى عن دستوريتها في جو من انعدام الثقة بين القوى السياسية اللبنانية. وكيف يستطيع الرئيس نبيه بري ان يطلب من رئيس هيئة تحديث القوانين في مجلس النواب أن يعد اقتراحاً لتعديل الدستور، ثم يدعم طلبه هذا بتكليف قانوني كبير يشتهر بالدقة والتوازن والعدل هو الدكتور بهيج طبارة بصياغة اقتراح التعديل. فلا يغيّر رأيه المخالف لقيمة دستورية مثل النائب طبارة ولمهمة كلف بها من ولاه المجلس النيابي رئاسة هيئة تحديث القوانين.
هذا قبل صدور المواقف العربية والدولية الداعمة لانتخاب الرئيس اولا ثم البحث في ما تبقى من عناوين.
***
لن تغيّر المواقف التي بدأت بالأمس من السفير السعودي في بيروت ومساعد وزيرة الخارجية الاميركية الذي زار العاصمة اللبنانية يومي السبت والاحد الماضيين. والتي ستتوالى تباعاً من الدول الاوروبية والعربية. لن تغير من الأمر شيئا. فالمفاجأة ذهبت الى خارج الحدود.
في بيروت تمت الاجتماعات المتعلقة بترشيح العماد سليمان بين العشرين والخامس والعشرين من الشهر الماضي. تباحث النائب الحريري مع الرئيس السنيورة ووليد بك والرئيس الجميل وسمير جعجع. وبالطبع مع العماد سليمان. وكذلك فعل السفير السعودي عبد العزيز خوجة مع قيادته في الرياض ومع جعجع والوزيرة نايلة معوض داعماً الترشيح ومع العماد سليمان أيضاً.
بقي السر في مخبئه حتى وصل وزير الخارجية بالوكالة طارق متري الى أنابوليس في السابع والعشرين من الشهر الماضي للمشاركة في المؤتمر الدولي الذي دعت اليه الإدارة الأميركية للبحث في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
استقبل وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط زميله اللبناني بقوله: مبروك بقى عندكم رئيس .
فوجئ متري بالنبأ حين شرح له الوزير المصري أنه تم الاتفاق على العماد سليمان رئيساً.
صباح اليوم التالي في الثامن والعشرين أُعلن من بيروت ان تيار المستقبل يرشح العماد سليمان للرئاسة. وبدأت كرة الثلج تكبر يوماً بعد يوم.
في دمشق لم تكن القيادة السورية أقل مفاجأة. فقد ظهر لكل الزوار الذين قابلوا الرئيس الأسد ومعاونيه حتى السادس والعشرين من الشهر الماضي أن القيادة السورية لم تكن على علم باعتماد سليمان مرشحاً من الحريري والسعودية ومصر طبعاً، بل كان حديثهم يميل الى توصيف الفراغ القائم على خروج العماد لحود من بعبدا وعدم تشكيل حكومة جديدة. وبقاء الرئيس السنيورة على رأس حكومته دون إجراء انتخابات بنصاب النصف زائدا واحدا. إلا إذا توصلنا خلال أسبوع الى تفاهم مع فرنسا يسهّل الانتخابات. طالما استمر الانقطاع بين واشنطن ودمشق . الإضافة الأخيرة تُروى لكنها غير مؤكدة.
نجح العماد سليمان في امتحان الثقة مع قيادة الأكثرية بحفظه السر لأيام، وأثار الشكوك والأسئلة حول خطورة حدوث هذا الأمر في الأجهزة الأمنية للمعارضة ولدى القيادة السورية أيضاً.
إذ كيف لصديق مثل العماد سليمان أن يقطع شوطاً بهذه الأهمية في ترشيحه دون أن يطلع حلفاءه الطبيعيين في دمشق وبيروت على أسراره الرئاسية.
صار من الضروري مراجعة الحسابات وتغيير طبيعة المفاوضات. فكلّف الرئيس بري العماد عون بالتفاوض بدلاً منه بعد أن وصلت أنباء الشكوى السورية من تراخيه أمام تسوية وطنية في الاجتماع الأخير الثلاثي الذي جمعه مع النائب الحريري بوزير الخارجية الفرنسية كوشنير. ظهرت على بري نسبة عالية من الوطنية واقبال أكتر على الدولة فكان لا بد من الذهاب الى الحائط المسدود بدلاً من تفاؤله المزعج.
بدأ الحديث عن تصاعد التوتر في العلاقات السعودية السورية الى حد اقتراح نائب الرئيس فاروق الشرع المتخصص في إثارة المشكلات في وجه القيادة السورية إعلان دمشق رغبتها في نقل مقر انعقاد القمة العربية المقررة في شهر آذار المقبل في دمشق، الى القاهرة. بحيث لا تصبح العلاقات السورية مع السعودية ممسكاً تلتوي به الذراع السورية سياسياً.
حتى الآن لم يجد الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الايطالي والعاهل الأردني والرئيس الروسي ورئيس الوزراء التركي، وغيرهم من الراغبين بالتواصل مع سوريا لإيجاد مخرج للانتخابات الرئاسية اللبنانية، لم يجدوا غير الدوران في حلقة مفرغة، تمضي أيام الأسبوع الأول في مقر حزب الله وعطلة نهاية الأسبوع في الرابية عند العماد عون. آخر من ضاع في حواريها أحمد داوود أوغلو مستشار رئيس الوزراء التركي الذي زار بيروت ودمشق سراً. ووجد نفسه أمام مطالبات من المعارضة سمعها في دمشق لا يفهم لها مبرراً ولا سبباً.
***
الحقيقة الثانية هي اغتيال اللواء فرنسوا الحاج رئيس غرفة العمليات العسكرية في الجيش اللبناني.
في الجانب الأمني توضح عملية الاغتيال انها تمت بناء على أوامر سريعة ومستنفرة تستعجل حصولها. فشراء السيارة تم قبل يوم واحد من تفجيرها. والتفخيخ علني وظاهر في صندوقها دون احتساب لطارئ أو لحاجز تفتيش. وكل هذا في محيط مخيم عين الحلوة في صيدا.
لا شك في أن الدور الذي قام به اللواء الحاج في مواجهات نهر البارد يؤهله لأن يكون على لائحة الاغتيال من التنظيم الأصولي الذي كان متمركزاً في المخيم الشمالي. لكن في السياسة من اغتيل هو قائد الجيش الذي يريده العماد سليمان بعده ويزكيه العماد عون دون أن يعلم بترشيحه لهذا المنصب.
باغتياله تحقق أمران: الأول رسالة الى المؤسسة العسكرية التي قاتلت ببطولة التطرف، ونالت عليه شهادات دولية وعربية.
الأمر الثاني ان العماد سليمان في حال انتخابه أصبح مقطوعاً عن الجيش أياً كان القائد المقبل، فيصبح مثله مثل العماد لحود حيث اختار السوريون العماد سليمان لقطع صلته بالجيش. فلا يصبح مقرراً في المؤسستين: رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش.
***
هل في ما سبق فتح لباب الانتخابات الرئاسية؟
الحقيقة الثالثة هي أن النائب سعد الحريري وقف على باب التسوية بترشيحه العماد سليمان. فمن يرشح قائد الجيش الصديق العملي للقيادة السورية يعلم بأن خطوته التالية في التسوية ستكون مع دمشق ولو تأخرت. أما وليد جنبلاط بتصريحاته الهادئة فقد دخل الى قصر التسوية وتربع في ديوانها.
بالمقابل فإن المنطق السوري الذي مدد قسراً للرئيس لحود في العام ,2004 هو نفسه الذي يفضّل الفراغ اللبناني على مخاطره. ومن لم يقتنع فعليه مراجعة كلام نائب الرئيس السوري.
الحديث عن انتصار حلفاء سوريا في لبنان على لسان الشرع هو دعوة للأكثرية الى الاستسلام بدلاً من البحث عن تسوية عاقلة.
لا يهم الشرع جواب الأكثرية، ما دام قادراً بكلامه على إثارة الاشتباك الدائم. ومن يأته الانتصار من دمشق فلن يقبل بتسوية.
الجواب هذه المرة، كما منذ ثلاث سنوات في مجلس الأمن الدولي حيث بدأ النقاش ولم ينته بعد حول قرار يلزم سوريا بتسهيل إجراء الانتخابات الرئاسية. وبعودة كتاب الاشتباك الى صفحته الأولى.
من ينتصر؟
التسوية انتصار. الاستسلام هزيمة لمن يحصل عليه…