بيروت في الأوّل وفي الآخرة 1/2

مقالات 03 أكتوبر 2005 0

تمضي الايام في باريس. سنة وخمسة أشهر. باردة. جافة. غادرة. جميلة ببعض من الاصدقاء يمرون بها أو يزورونها. يظهر سحرها حين تزورها صغيرتي. ضحكتي. على قلّة ما فعلت ذلك. تكلمني كبيرتي كل يوم. تهرب من الانباء السيئة. أفتّش عليها انا بإصرار الحزن. تصبح المدينة فارغة أمامك. يصبح الهاتف هو مقر إقامتك. أفراحك. أحزانك. عنوانك. يعمل في اتجاه واحد كيفما استعملته وأينما وجّهته. بيروت. تريد أن تقنع نفسك وهماً أنك لم تغادر مدينتك. تسأل وتجيب. تتحدث وتستفسر. الكل يجيبك بصبر. تطلب أموراً لم تكن لتهتمّ بها من قبل. تكرس حضوراً لم تكن تحتاج وجوده كل سنواتك السابقة.
تفرح حين يتصل بك أحد الاصدقاء يسأل ويستفسر عن نبأ يعتقد انك وحدك تستطيع تأكيده. لازلت من أهل العلم السابق. تقرأ كثيراً. تبرع في التحليل إلى حد الدقة. ترى في نبأٍ صغير ما لا يستطيع صاحب قرار معرفته. تتأكد كم أن اصحاب القرار يأخذهم قرارهم إلى خارج دائرة المعرفة. تهرب لأسابيع. لا تستطيع أن تهرب لأشهر من الحديث معها. هي كاشفة ضعفك. حافظة سرّك. عدّت شعر رأسك مرات في حياتها. تكبر في السنوات أنت وهي. تنظر إليها عن قرب. أو تتذكّرها عن بُعد. تسأل نفسك السؤال نفسه دائما. لماذا لا تضع رأسك على حضنها وترتاح؟ مَن وضع قواعد أن ما تستطيع فعله وأنت صغير لا تقدر عليه وأنت كبير ! أعرف أنني أبدو طفلاً صغيراً في هذه التعابير. لم أقلها من قبل حتى لنفسي. لكن لو ظلمتك الدنيا كلها ستبقى “الحاجّة الكبيرة”، والدتك نصيرتك مهما فعلت. فكيف إذا لم تفعل إلا ما تراه أنت خيراً وغيرك خطراً على أمنه. هي صلابتك عندما تحتاجها. قوّتك عندما تفتقدها. في كلامها خير يوازن كل ألوان الظلم الذي يمكن أن يقع عليك. لا تظهر لك ضعفها. لا تقول لك عن حاجة تنفعها. تطمئن عليك بكلمات بسيطة وبدعاء أبسط. تقفل الخط. تعرف أنت أن هذا ليس ما أرادت قوله ولا دعاؤها البسيط يكفيها. تقول في نفسها يكفيه ما فيه. أحدثه بيني وبين نفسي وخالقي. هنا يفيد الحديث. الهاتف وسيلة اطمئنان. ليس وسيلة حوار مع الخالق.
أفهمها. أعرف عذاباتها المبكرّة في الحياة التي علّمتها الصبر. لم تر في صعودي سلّم الحياة غير الدعاء ولن تفعل عند نزولي غير المزيد من الدعاء. لديها الكثير من التحفظات، الآراء، التقييم لأشخاص أو لأحداث. تحتفظ بها لنفسها. لا تقول إلا الكلمة الطيبة. مرة واحدة في حياتها على وعيي قالت غير ذلك. كان الأمر جليلاً إلى درجة لايتحمّله بشر فكيف بأمّ. لا تزال تستغفر ربّها حتى الآن. تمّر دورة الحياة عليك. تكتشف متأخراً، متأخراً، متأخراً، أن “الحاجّة الكبيرة” عرفت سنوات من الجمال وأن كثرة ما ذهبت عيناك إلى جمال الأخريات جعلتك تستعجل الوقت والعمر لتتجاهل عن غير قصد أن تقول لعصبك، لحنانك. لضعفك اللا محدود، كلمة عن سنوات الجمال. أم ان الدلع ممنوع على الكبار؟
تمنع جميع مَن حولها من إبلاغي بأنّها مريضة. أو أنها دخلت المستشفى. نتراسل صبراً مادمنا لا نتراسل شفاهة أو كتابة. أسأل عنها كلّ من حدّثني من أهلي أو أقاربي. أدقّق مع كلّ من أتى منهم الى باريس. يؤكدون لي صلابة صبرها. هل للأمهات صلة صبر صلبة مع الخالق مختلفة عن الأولاد؟ لست ضليعاً في أسرار الخلق والخالق. في هذه لي شفاعة الفتوى. من الصبر تخلق الصلابة وليس العكس.
أطلت الحديث. أعلم ذلك. هي المرة الأولى التي أحدّث فيها نفسي عن ضعف أشارك فيه الكثير من البشر بالتأكيد. عرفته وجعاً في باريس حين كنت أهرب من الحديث معها أو عنها مثل الأطفال الصغار. إذا كان للايام في باريس هذا المعنى، ففي القاهرة أعيش. حيث للعيش معنىً دافىء، حميم، صادق، تمضي أيامك. وفي الأقرب تعيش. أين تحيا؟ بيروت في الأول وفي الآخرة. هي ليست مدينة لها آخر. بل هي حياة لك ليس لها آخرة. هكذا عرفتها دائما. لم أطق فراقها يوماً منذ ولدت. أسافر. أغيب أياماً. أسابيع، أشهراً، تبقى تسكنني هذه المدينة بدلاً من أن أسكن فيها. قرأت ان المدينة سحر، حضور، ذكريات. وجوه، جغرافيا، تاريخ، هندسة، قرأت كل أوصاف المدن. لم أجد مدينة تملك هذا الكم من العطف على سكانها. كانت صغيرة كبرت. توسّعت. زاد العطف فيها بقدر اتّساعها. هي تحملك بدل ان تحمّلك نفسها. كيف لا أريد العودة إليها؟ يسامحني طه ميقاتي أن اكتب عنه هذه المرة اكثر من المرات السابقة. ليس بسبب نبله. بل لأن الوقائع تفرض ذلك عليه وعليّ.
بدأ العد العكسي للعودة. طه يتصل بي إلى باريس ليقول إنه عائد من دمشق وإن الدكتور بشار الاسد اعتبر ما حدث خطأً من الماضي يجب تجاوزه. وأعطى التعليمات بذلك للواء غازي كنعان. ثم تحدث مع الرئيس العماد إميل لحود هاتفياً. لم يكتف طه بذلك. زار اللواء كنعان في طريق عودته من العاصمة السورية. تأكد من تبلغه الرسالة. اتصل بكبير الامنيين اللبنانيين. تأكد من تبلغه الرسالة ايضاً. إذاً لا حواجز أمنية. على عادته يعرض طه سيارته تنتظرني في مطار بيروت. يأتي هو اذا كان ذلك يريد في طمأنتي من الغدر. أؤكد له أن ليس لطيبته ان تحمل غدراً. الرئيس نجيب ميقاتي كان وزيراً وحاجاً في ذلك الوقت يتدخل في الحديث. يطمأنني ويذهب. يترك المهمات المعقدة لشقيقه الأكبر. أليست هذه مهمات الأشقاء الكبار؟
انتهى الهاجس الامني مؤقتا. نأتي إلى الواجب الشخصي السياسي. الرئيس الشهيد رفيق الحريري. الواجب الشخصي هو سنوات العشرة الطوال بما فيها من حلو ومرّ. مصاعب وحلول. تعب وراحة. ضغوط وانفراج. نهارات وليالٍ. أفكار وعناوين. خطط. نجاح. فشل. معرفة. جهل. نضوج. أحلام. حقائق. أطباع. الرياض. دمشق. صيدا. بيروت. عواصم العالم. تراه في المرة الأولى مقيماً في بيروت. المرة الأولى رئيساً لمجلس الوزراء. المرة الأولى يجنح نحو الحلم. المرة الأولى التي يصطدم فيها بالواقع. يقع. يقف. يشمخ. ينكسر. يثابر. يُقدم. يتراجع بأسرع من إقدامه. اليوميات التي تنتهي عندما يدخل إلى غرفته لينام. يبدأ غيرها عندما يفتح باب غرفته صباحاً حاملاً مسبحة اليسر بيده. ليجعل الله من نهاره يسراً ومن معه. آخر مرة رأيتها بيد السيدة نازك جعل الله لها فيها اليسر والصبر.
الجانب السياسي هو الأصعب. سترى الناس صورته في وجهي أينما ذهبت. سيسمعون كلامه في ما أقول كما تعودوا لسنوات طويلة. هل عليّ ان اقول قبل ان اتحدث ان ما سيأتي على لساني يعّبر عن وجهة نظري فقط. هل ئُلزم الناس بعدم السؤال والجواب عمّا حدث معي. لماذا فعلت القيادة الامنية السورية اللبنانية ما فعلت؟ أسئلة تدور في ذهني وصور موجعة والليل يمر في باريس. قلت لنفسي أكلّمه في الصباح. فهو يستقبل المعزّين بوفاة والده الحاج بهاء، رحم الله كلاهما. كيف سيستقبل الخبر؟ فعلت على دفعات. اتصلت بأحد مساعديه الرئيسيين أبلغته بما سمعته من طه ميقاتي. لم يعرف مساعده ما إذا كان عليه ان يفرح او يتردد تحسباً. بالفعل كان مساعده على حق. إذ إن الجواب الأول من الرئيس الحريري كان متردداً إلى حد الرفض. اعتبر القرار السوري بداية احتمال مشكلة جديدة. او في أحسن الأحوال إرباكاً له لا يحتاجه في ذلك الوقت. جاءه طه معزياً. تبادل معه الكلام بصوت لا يسمعه أحد. غادر طه قاعة العزاء. طلب من مساعده ان يطلبني على الهاتف. تحدثت اليه. قال جملة واحدة “تكلمني حين تصل”. لم يكن سهلاً عليه قبول القيادة السورية من غيره بما سبق أن رفضته منه.
أحد جهابذه التفكير العميق في فريق الرئيس الحريري صادف أمّ أولادي في عزاء الحاج بهاء. لم يجد ما يقوله لها غير اقتراح بابتعادي عن الرئيس الحريري اثناء إقامتي في بيروت فهذا أفضل للاثنين. غباؤه جعله يعتقد أنه يطمئنها فإذا بها تزداد قلقاً. لم ينتظر وصولي لكي يتقدّم باقتراحه فأُسمعه ما يليق به وبعبقريته. بدأ الشرر يظهر في عيني قبل مغادرتي العاصمة الفرنسية. كالعادة جاءت “رفقة العمر الذي لم يكتمل” ريما تقي الدين تهدئني وتجعلني أقسم يميناً ان لا أفتح الموضوع عند وصولي الى بيروت. حملاني هي وكفيلتي الباريسية لينا الى المطار ومنه الى بيروت.
2 الوصول.
نهاد…