بيروت في الأول وفي الآخرة 2/2 العودة إلى الضريح

مقالات 10 أكتوبر 2005 0

في الطائرة الى بيروت يبدأ شريط الاحداث بالدوران. ما الذي أعاد طفولتي، شبابي، حياتي العملية. السنوات الاخيرة يوماً بيوم. من أساء. من احسن. لماذا ؟ سؤال تكرر عشرات المرات في ذهني في الساعات الخمس من باريس الى بيروت.الوجع حلّ محّل القلق. التوتر اخذ مكان الخوف. كأنني أتيت بعصبيتي معي من المنفى.حطت الطائرة. صرت مستعجلاً على اختراق جدارالعودة. استقبال مبالغ به في المطار من الموظفين في الجمارك والامن العام. لم يخافوا من اسمي.بالعكس وجدوا في الترحيب طريقة للتعبيرعن رفض الإبعاد.
من المطار الى منزل نبيل ناصر الصديق منذ سنوات لا أعرف عدّها. الوحيد الذي لم يترك يوماً إلا وزارني في مكتبي ايام التهديدات السورية المطالبة بإبعادي. أيام هنا استمرّت ثلاثة أشهر.قبل ذلك، بعد ذلك، لم يتركني، يحمل عصا مرضه ويأتيني بكامل أناقته. لا يمنعه مرضه من الشجاعة. يرفع صوته، يشتم، يهدد بعصاه، يكتب بقلمه.يأتيني الى باريس بين حينٍ وآخر، يحمل عنّي توتري، يقتسمه معي، اتعلّم منه الصبر الصامت.حين تنقصه الشجاعة يأخذها من عفاف زوجته وأم أولاده. أستعير منها بعض الأحيان شجاعتها أيضاً.يحمّل الرئيس الحريري ما لا طاقة له عليه من كلامٍ عنّي. يستوعبه الرئيس الشهيد بهدوئه وكظمه للغيظ.الزيارة الأولى لمنزله بعد العودة لم تكن للقائه بل لوداعه. توفي نبيل منذ أيامٍ قليلة. أجالد نفسي. لم أبكِ وأنا أدخل منزله. فعلت ذلك بحرقة في باريس.فوجئ الجميع بوصولي. بعضهم اصيب بالذهول الى حد عدم الرد على تعزيتي. فتّشت عن طارق ورانيا ولديه لأضمّهما الى صدري كما كنت سأفعل مع نبيل لو وجدته في المنزل.
من هناك الى منزل الحاجة الكبيرة الوالدة حيث الجميع أكثر صلابة منّي. هم يعتبرونك فخراً سياسياً لهم لا منفياً. على الأقلّ هذا هو الانطباع الذي يريدون اعطاءك ايّاه. ثم الى منزلك حيث تستمع الى نكات أولادك. صغيرتك، ضحكتك الكبيرة، تجيد الصراخ فرحاً. لا تزال تفعل حتى الآن، لكن دون فرح. حتى الآن أنا الأضعف ممن قابلت أو سمعت.
كمن يأخذ نفسا عميقا أمسك بالهاتف طالبا الرئيس الحريري. ترحيب لطيف من المجيب. يحوّلني اليه. يصمت كلانا لثوانٍ ثم نتفق على اللقاء باكرا صباح اليوم التالي.استرجع أياما سابقة في باريس وقّعت فيها على استقالات بالجملة من مهام متعددة كنت أمارسها في شركاتٍ عدّة منها اذاعة الشرق وتلفزيون المستقبل. المهمّة الوحيدة التي لم أستقل منها حتى الآن هي الرئيس الحريري نفسه، حيا وشهيدا.
التاسعة صباحا أدخل قريطم الصغير الجميل. استقبال محبين يمينا ويسارا. الاّ أبو طارق رحم الله كلّ ذرّة تراب تحت رأسه استقبلني في كلّ الاتجاهات. بكاءً لا يتوقّف. تقبيلاً لا ينقطع. دعاءً الى السماء يصل مباشرةً من صراخه. مكتب أبي طارق يقع بين بابي قريطم. الأوّل من الطريق العام الى باحة المنزل. الثاني باب المنزل نفسه. كنت أسمّيه حاجز كاريتاس. يتلّقط بالداخل عابسا يجعله يضحك على آخر نكتة. يعرف خلالها مشكلته. يخزّنها في الذاكرة للضرورة اذا تطوّرت الأمور. يودّع الخارج بكلّ ما يجب من لياقة يشعر من كلماتٍ قليلة يسمعها أو يقولها ما اذا كانت الزيارة ناجحة أم لا.يطعم من لم يتناول فطوره بعد. قهوته دائمًا حاضرة. أخباره الضاحكة أيضا. يجمعها كلّها على بعض ليقدّمها للرئيس طبقا ليليا. يرافقني أبو طارق وهو يمسح دمعه الى الباب أفتحه. أدخل الى المنزل.
ذهولٌ وسلامات ومحبّة. يناديني الرئيس من مكتبه على يسارالمدخل. اقترب منه. تنفر دمعتان من عيوننا. نداريهما معا. أسلّم على الحاضرين. تمر دقائق قبل أن ينسحب الجميع لنبقى وحدنا. أعزيه بوالده. نتحدّث لدقائق عن “عمليّة” عودتي. بدا أنّه كان صعبا على كلينا أن يكمل الحديث. لماذا؟ لا أعلم ولم أرد أن أعلم في ذلك الوقت. كان عليه أن ينزل الى القاعة الكبرى حيث الناس تأتي للعزاء. قال لي تنزل معي. أجبت أنني أريد أن أقف مع الشباب في الخارج.
بالفعل وقفت مع الشباب أبو طارق وأخباره رحمه الله. عبد العرب بمحبّته الغاضبة هذه الأيام بسبب تسميته بالهندوسي لشدّة نحوله. وليد كبي منظّم العائلات البيروتية. الحاضر دائماً لأي خدمة. وغيرهم. ما هي الاّ دقائق حتى تجمّع الناس حولي من اصدقاء وزملاء وآخرين لا أعرفهم. وإذا بصبية تشقّ صفوفهم تريد السلام عليّ. الاقتصادية السابقة، الحلوة الدائمة، ريما كركي.وجدت أنّه لا بدّ من النزول الى القاعة الكبرى. رافقني الذهول أينما ذهبت.
الرئيس السابق الياس الهراوي يجلس الى يمين الرئيس الحريري معزيا. لا اقترب. لا أريد السلام عليه. بدأت “حساسية بيروت” تظهر عليَّ.اختارمكانًا الى جانب الدكتور نزيه الحريري. تقوم الناس من مقاعدها. يترك الحرس أماكنهم للسلام عليّ. أخرج من القاعة. كفى إحراجاً. أترك قريطم الى منزلي. لا يتوقّف الهاتف عن الرنين ولا الأصدقاء عن زيارتي. بدا الأمر كأنّه موقف سياسي أكثر مما هو واجب اجتماعي. أيّام قليلة. يتصل طه ميقاتي. رسالة جديدة. “شوعامل؟؟؟ راجع من فريضة الحج”. لا حول ولا قوة إلاّ بالله. أنتقل الى ضهور الشوير رغم البرد القارس. لا يكتمل أسبوعان على عودتي، رسالة جديدة. “قل له الشباب مش حاملينه. ليذهب ويعد كلّ فترة. لا ضرورة للاقامة الدائمة”. الرسالة من الأمن السوري.الشباب من الأمن اللبناني.
تبدأ حالات سفر لا تنتهي. سنة. سنتان. ثلاث سنوات.توقّفت الرسائل. توقّفت أنا عن السفر.قررت الاقامة سياسيا. اي الاتصال واللقاء بكلّ الجهات. حافظت على صراحتي. لم أتنازل عن كرامتي.حاولت جاهدا تخفيف حساسية الرئيس الحريري ومحيطه من حركتي. نجحت مرات. فشلت مرات أكثر. لكلّ لعبة قواعد أعرفها جيّدًا. لكن لن أجلس في منزلي أعد الأيام. شرحت ذلك مرارا دون نتيجة تذكر. لم أتعوّد التجاهل. لن أتعوّده الآن وقد صرت أكثر حضورا سياسيا. أو كما سمّاني ” فخامته” جان عبيد صاحب الرأي.عاتبني كبير أحبه على حركتي. قلت له أنا مثل المرأة الجميلة التي يريد جميع الرجال دعوتها لتناول العشاء. لكن لا يريد أحد منهم أن يتزوّجها.هذا لا يقبلني تحسبا للرئيس الحريري.وذاك لا يأتمنني لأنه يعرف أنني لن أغدر بتاريخي مع الرئيس الحريري.العمل معه مشكلة. العمل مع غيره مشكلة اكبر. من هذا الذي يليق به جهدك بعد الرئيس الحريري؟ما هي نصيحتك؟ لا تقل لي أن أعود الى عدّ الأيام.انقلب الكبيرعلى ظهره من الضحك. كذلك الرئيس الحريري حين أخبرته رواية المرأة الجميلة. المهمّ انني تجاوزت مطبّات كثيرة في عنوان سياسي كبير لحياتي. رفيق الحريري. لا أبحث عن خلاص منه. زادت المطبات الى حد انني لم اعد اهتم بتجاوزها.
كتبت حلقات ثلاثاً عن منفى باريس. اثنتين عن القاهرة. حلقتين من بيروت. هي ليست مذكرات. بل أحداث تبدو الآن بسيطة، لطيفة.عكس ما كانت عليه في وقتها. الهدف منها الاعتراف بالفضل والخير لأهله. نجحت في كتابتها دون حقد.البعض يعتقد ان الوصولية والانتهازية هي السبيل الوحيد لوصول الانسان الى مبتغاه، جاها، مالا، نفوذا.عرفت كثيراً منهم. لا أنكر ان بعضهم حقق مبتغاه.حديقة الوصول الى الرئيس الحريري بكل ما يعني كبيرة. مداخلها متعدّدة. لا بد ان يكون لهؤلاء طريق يسهّل وصولهم. لم اسمع صوت احد من هؤلاء في سنوات المنفى إلا غدراً أو تجاهلاً. لا يهم. طالما أنني فضّلت مختاراً طريق الخير وفضله. وجدت كثيرين من اهله. ليس للوصول الى حديقة الرئيس بل لإيصال الشهيد الحريري مع ما يحمله من خير وفضل الى ذاكرة الناس.
كثرت الأضرحة التي شهدها لبنان في سنة لا يعرف أحد متى تنتهي. آخرها إصابة ضحكة مي شدياق التي تملأ الشاشة والذاكرة. لو سئلت مي بعد أسابيع من الآن ماذا تنوي أن تفعل لأجابت بالتأكيد: أعود لأقاتل بما بقي لي من قوة لكي لا ينجح أحد في تحويل لبنان الى دولة جنازات. ولن ينجح. أنا حاولت مبكراً جداً. الحمد لله اقتصرت الاصابات على النفس.سأكمل الطريق نحو الحرية. لكن ليس من قريطم الصغير الجميل. بل من الضريح. هناك بدأت رواية الحرية. لم تنته بعد.
استذكرت دعاءً أجيب به عن أسئلتي: اللهم، لقد وهبت لك من ظلمني، فاستوهبني من ظلمته.
نهاد…