باريس 1 رد الجميل بالنسيان؟

الأخبار 30 أغسطس 2005 0

لكل امرىءٍ من دهره ما تعّودا. اصدقاء لا يتركون ذاكرته. أحبّاء جدد يدخلون إلى حياته. يتعب منها. يعتب فيها. ينفجر غضبا. يتحمس فرحا. يحاسب بعينيه. أو بدمعِه.
قبل أيام من ذهابي إلى باريس منفياً في أواخر العام 98. زرت الزميل الكبير طلال سلمان في مكتبه. حضر أبو شفاعة. شقيقه فيصل. روى طلال وهو يبدو متأكداً من حّدة ما يحدث لي، رواية عن فترة صعبة جداً أمضاها في السجن لاسباب سياسية في شبابه المبكّر. ثم أشار إلى حيث يجلس على مكتبه ناشرا لل”السفير”. فهمت منه خلاصة تقول إن النجاح هو الثأر.
أي ثأر آخر هو من نفسك وليس ثأراً من آخر أياً يكن هذا الآخر. في دمشق. في بيروت. في قريطم.
لا أقول إنني التزمت دائماً هذا المفهوم. حاولت قدر المستطاع. نجحت. فشلت. لا أعرف.لا زلت مصاباً من الماضي. بالتأكيد اعمل جاهداً للخروج نحو المستقبل. مّر ألاسوأ. بقي السيئ. هذا مقدور عليه.
النجاح هو العودة دون حقد مقيم. هذا أقصى ما استطعته.
سنوات النفي الثلاث أمست مقياساً موجعاً لمعارفي. خسرت الكثير من الاصدقاء. قاطعوا عائلتي. لم يدق الباب إلا القلة النادرة جداً من الاصدقاء. لا يبقى لك إلا الدائرة الاضيق. أهلك والقلة النادرة.
صبية وشاب وطفلة صغيرة يتعلمون في نفس المدرسة. تنتصر الكبيرة لشقيقها من تعرض زميل أو زميلة بمعلومات عن “جاسوسية” والدهما. ينتهي الأمر عند المسؤولة المعنية. ابن المشنوق “صالح” ضرب فلاناً من الاولاد. والد فلان ضابط يتحدث في منزله عن مفاجأة الموسم. نهاد المشنوق جاسوس. اشاعة غازي كنعان أوامر عندهم.
يذهب صالح مشكّواً عليه أو منه. مرة. مرتين. ثلاثا. ثم يقلبها مسخرة. إذا ما تحدث أحد أولاد المسؤولين يقول له “استفقنا صباحاً على مكالمة من رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو يسأل عن والدي. استغربت أنه لا يعلم بوجوده في باريس” يبتسم استهزاءً ويكمل طريقه نحو التخرج من الجامعة. ثم إلى واشنطن وبعدها للتدريب السياسي.
ألهمني الله انني جلست إليهما في بداية أزمتي. أخبرتهما بالتفصيل عن الأزمة وعن اثرها عليهما. استطاعا مبكّراً حمل الكذبة.
لم يتخليا عن كرامتهما وانتصارهما لي. تمرساً على يد والدتهما.
أحمل للست نفيسة كما يلفظ البيارتة اسم زوجتي. سليلة الأمة البيروتية السابقة للبنانية وللعروبة وللعلمنة.
أحمل لها فضلا وديْنا. الفضل نشأة أولاد ثلاثة بما قّدرها الله من علم وصبر. هم بيّضوا لها وجهها أكثر مما هو أبيض.
الديَن أنها حفظت روح عائلة لا تتأثر بالأزمات العامة. أما الخاصة فللحديث… لن أكمل تجنبا؟؟
في شبابي المبكر كنت استغرب مدح والد أو والدة لأولادهما. الآن عرفت السبب. لم أكن أبا.
في باريس الشيء نفسه. رفيق دائم أو اثنان يحملان معك وجعك بصبر المُحب. آخرون من زائري باريس تلقاهم على الغداء أو العشاء وتُخفي ألمك. أصدقاء حميمون لسنوات طويلة يأتون إلى باريس. ينزلون في نفس الفندق الذي تعيش فيه. لا يسألون عنك. يخافون من مراقبة “الامن” السوري! للخطوط الداخلية “للفندق الباريسي”.
لا تفهمهم. تنفجر غضباً إلى أن يأتي الهاتف الدواء. عماد الدين أديب يمرر الحكمة والعقل في خطوط الهاتف. حين لا تنفع يحمل نفسه (ليس من السهل حملها) وزوجته القديرة إلى باريس. زادها الحجاب نورا. يبقيا أياما. ينهي العلاج. يعود إلى القاهرة. أذهب أنا إليه أقلّ شكوى وأكثر مودّة.
لم تكن هذه مكالمته الأولى ولا محاولته الأخيرة. كان اول من حدثني بعد وصولي إلى باريس. قرأ لي الصفحة الاولى من كتاب “وصايا القهر”: لا تحقد. لا تنفعل. اقبل الناس كما هم. لا يخيب أملك بأحد خاصة الاصدقاء. اعتمد القضاء والقدر وسيلة للحياة. هم يخسرون وأنت تربح.
بقي على عادته قولاً وفعلاً حتى عدت إلى بيروت. افتعل لي مهمة تحقق دخلاً سنويا. افتعل لنفسه ولي مشروع حلم. تلفزيون عربي إخباري مركزه بيروت. المهم أمضيت سنتين في تفاصيل المهمة وخطوط الحلم.
يقال عند الفرنسيين ان الجميل الكبير لا يرد عليه إلا بالنسيان. ما رأي “العمدة” عماد؟
تفتش الفرص عن عوني الكعكي لتحمله إلى باريس مرّات ومرّات. زوجته تشجعه. العاطفة للاطمئنان إلى نهاد، وشراء الثياب مهمة. مي لا تترك شيئاً في قلبها. لا تتهيب رجلا او امرأة أو موقفا. تقبلها كما هي تكسبها صديقة صادقة. لا تفعل؟ اسأل عوني ماذا يحصل له لو رفض.
يقف في وسط شارع الشانزليزيه يقول لك: للمرة الأولى في حياتي رصيدي في البنك يحمل مالا. خذه كله. خذ ما تريد منه. كيف تجيبه؟ درس في 14 مدرسة نسي كل ما تعلمه إلا الوفاء. يعترض. يقول هذه العادة إرث من الوالد وليست من صفوف المدارس.
الرفيق اليومي أسعد حيدر. يحمل أكثر من طاقته على الاحتمال. يقدم اكثر من قدرته. بك في باريس. الرفيق المختفي عند اول امرأة سامي كليب.
كفيلتي المادية والمعنوية والاجتماعية لينا سوبرة “الطنط”. ثلاثون سنة من الصداقة. لم تكفها أشغالها حتى جاءها هذا الاستحقاق. تحملك مع المسعفين الى المستشفى. تطمئن. يدها أمن وبركة.
صديق مصري يأتيك لابساً قبعة الكاوبوي تحميه من البرد والشتاء ويحمل شنطة فلوس كما في الافلام المصرية. “كنت في براغ، علمت بما حصل معك. جئتك بهذه الشنطة تعينك. منزل مع طباخ. سيارة مع سائق. بانتظارك في القاهرة. تعال ولا تحمل هم شيء”.
تفرح كثيرا. لم تكن تنتظر من شفيق جبر ان يحمل عبء صداقتك الى هذا الحد. لا تأخذ الشنطة. تحفظ له العرفان. تخبر صديقكما المشترك منصور الطرزي. يستغرب دون تعليق!
آخر لبناني يأتيك حاملاً كيس سندويشات مليئا بالفرنكات الفرنسية قبل صدور اليورو. يقسم بأغلظ الأيمان أنه يستطيع الاستغناء عن هذا المبلغ. تشكره. لا يتركني الرئيس الحريري احتاج الى شيء إلا محبتك. أعرفه جيداً وأقدره لكنه ليس ملزما بما فعل.
النائب السابق محمود طبو.
نتقابل صدفة على الطريق. دولة عصام فارس. لا تلازمه صفة كالشهامة. تبدأ معه رحلة من الرعاية والاهتمام. لا يكون في باريس الا ونتغدى او نتعشى سويا.
عروض دعم مادي لا تتوقف. اشكره وأكتفي بشهامته ومحبته. لم اعرفه جيداً من قبل. التقيته مرات محدودة. اقترحت عليه ان لا يبتعد عن الرئيس الحريري رحمه الله. اعتبر الاقتراح إنقاذاً له من الذهاب بعيداً في مواجهة الحريري. يقول ان ما طلب منه اكثر بكثير مما فعل. ترك التمثيل النيابي. ارثوذكسي كبير في اعتداله. صادق في عروبته. فاعل في حركته.
من لم يحترق من اقترابه من مشروع الرئيس إميل لحود؟
ايلي سكاف يتصل في اللحظة التي يحط فيها في باريس. نلتقي. يخبرني عما فعله بحقه اللواء غازي كنعان: إهانات شخصية. تشهير علني. فرض مرشحين عليه. تسمية وزراء منطقته وطائفته مستثنياً إياه.
يتحدث عن الرئيس الحريري بمحبة. يقول لا يتعب نفسه، لا يريدونه مهما فعل “يساعدني كثيراً ولا اعتمد الا عليه. لكنه لا يستطيع وقفهم عند حدهم”
ميشال سكاف ابن عمه ليس احسن حالا.
تأتيك رسالة من بيروت. صديق شجاع يخبرك عن التطورات وهو المطلع. يطمئنك في أسطر ويحّذرك في اسطر اخرى.
غازي العريضي يأتيك شخصيا. تسرق من وقته ساعات وتتركه لعائلته بعد ذلك.
خير الله خير الله. يحمل عصبيته معه من لندن. يقطع النفق الى باريس كمن يقطع الشارع كلما انطلق القطار. يعدك وينتظر غيره أن يفي بالوعد: يريدك في بيروت أكثر مما تريد. ارهق طه ميقاتي باتصالاته.
يدق جرس الهاتف ليلة الميلاد. أهل لك تعودت وتعّودوا ان تمضي الليلة معهم لسنوات. يكلمونك فرداً فردا. شيخ الشباب عادل مرهج. زوجته سلوى يتسع صدرها وبيتها لكل الضيوف. بشارة مرهج النزاهة الهادئة الصادقة. نزيه نجم خبير تسمية الرخام. عّمتي رولا. هلهول. فادي. الحلوة ميراي. يداها تنقّطان فناً. عيناها تشرقطان شراسة. ام عادل والدة الجميع. جميل ابو الهمم.
يحتفلون في بيروت او ضهور الشوير. يريدونك معهم.
تدخل الى المستشفى لوجع طارئ وحاد. يرن الهاتف. الرئيس ميشال المر على الخط. يطمئن عليك ويؤكد استعداده لأي شيء تريده لإتمام العلاج.
لم يفاجئني. تعودت على نخوته ورجولته. شجاعته تتجاوز الحسابات.
غيره ممن عليهم زيارتك لم يتصلوا وهم في باريس. لماذا؟ لا اعرف. هناك الوحدة الحقيقية. يسأل عنك القلة القليلة من الاصدقاء. ويختفي الباقون. لا انت تعلم لماذا ولا كرامتك تسمح لك بالسؤال.
مروان خياط والحاجة الصغيرة هدى. لا يتركان يوماً دون السؤال عن العائلة. تدمع عينا مروان حين اطمئن عليه هاتفياً.
توفيق سلطان. فؤاد شبقلو. جيلان جبر. تقاتل من اجلك في كل العواصم. جورج سمعان. غسان شربل. عبد الوهاب بدرخان. يزورون باريس يطمئنون عليك ويذهبون. سمير منصور وزوجته لبنى. يطلب سمير بك كوكا كولا بعد العشاء الباريسي. تقول له مديرة المطعم، آتيك بها لأسباب صحية!!
نديم المنلا يطمئن من بيروت وفي باريس كلما مر فيها مع علي جابر.
فواز النابلسي العديل الإلزامي يبدي نخوة لغير المال. يسأل عنك دائما. كان جده ينزل الى عمله في عربة خيل مطّهمة وبين قدميه أفغاني يمسك بالاركيلة حتى لا تهتز. هو مصرفي كبير يستصعب الحديث عن المال فكيف باستعماله؟
حماته الحاضرة دائماً في الايام الصعبة. ساميا نحاس. شقيقها سامي يخبرك حين تتغدى معه في باريس عن مشاغله الكثيرة ثم ينتبه الى ضرورة ارشادات السلامة. الهدوء. شقيقهما رفيق بك في بيروت لا يقّصر اهتماما.
عارف العبد. يمتلك شجاعة الوفاء رغم العقاب. يستصغر الآخرين. ينسحب يقول انا صحافي مهني. من يريد احترافي، اهلاً وسهلاً به. يرفض عرضا يقبله غيره. لا يتخلى عن كرامته ولا عن وفائه ولا قرابته. لا يتوقف عن الاطمئنان.
جليلة بائعة الساعات. تعرفك ولا تعرف عنك. تقرأ اسمك في مجلة انكليزية يصدرها تونسي. تأتي لك بالمجلة. تقول لك أدعو لك بالصبر كلما ركعت على سجادة الصلاة. تشعر بأن كلامها لقاح ضد الاكتئاب.
مولانا الدكتور رضوان السيد. يأتي إلى باريس يجاورك في الفندق. يعالجك بالعقلانية. يترك الدين جانبا. يشهد على موقعة بين الرئيس الحريري وبيني لا ينساها. يتذكرها كلما عاد الحديث الى الوراء. يلومه اللواء غازي كنعان لاحقاً على تورطه في الدفاع عني. يشفع له انه فعل هذا عن وفاء وليس عن اقتناع. النص لكنعان.
هراتش. الشاب؟ الارمني الذي يهتم بأمور الرئيس الحريري وعائلته وضيوفه ومطارهم وفندقهم. كل اسرار الرئيس الباريسية قبل الرئاسة عنده. كذلك اولاده. كل مصاريف الايام والمكاتب والبيوت الفرنسية بين يديه.
وثق به الرئيس الحريري الى حد مسؤوليته عن العائلة.
تمرن بين العام 82 والعام 92 على سلسلة ضيوف لبنانيين لا تنتهي. ارتاح قليلاً بعد تشكيل الرئيس الحريري لأولى حكوماته العام 92. يتلقى تعليمات حادة بشأني. حادة بعدم لياقتها ومنطقها. لا يستطيع الا ان ينفذ. يجتهد في صلاحياته.
يوسعها قليلا. يتذكر انه تلقى تعليمات من المقيم لسنوات طويلة. وأن من في وجهه صادق واحتمال صديق. يستعمل رشاقته في لعبته المفضلة. الباسكتبول. ينفذ بدقة. بلياقة ومرونة. كيف؟ ينبغي ان تكون ارمنياً كي تعرف.
مهما تذكرت ستسقط اسماء. تشعر بالتقصير. الآن انت مطوق بهذه العلاقات. لا تستطيع منها فكاكا.
مطوّق؟
نعم. تأخذ جهداً ووقتاً حتى تتعود على الخروج الى الناس الآخرين. لست متأكداً من النجاح. لا تشعر بالدفء الا مع طوق باريس والقاهرة. تخسر كثيرا. تربح اكثر. صحيح. كل هذا لا يرضيك. من يريد ان يخسر اصدقاءه؟ سنوات طويلة من العمر مّرت حتى وجدتهم. تفرقوا سدى. تغلب عليهم الهاجس الامني. تشعر بأنك اقدر على الاحتفاظ بالجديد منهم وأضعف تجاه خسارة القدامى. تسامح لكن لا تنسى.
نهاد…