اليد الحارة..

مقالات 21 أغسطس 2006 0

حرص الزميل سلطان سليمان ان لا يترك لبنانيا، ينام من دون ان يرى صورته على التلفزيون. يخاطبه من اكثر اماكن القتال حرارة وصعوبة. “يفخّم” في لفظه على الطريقة البعلبكية. يتحمس لعمله كأنه ايمان.
ليس هو الوحيد الذي فعل ذلك. لكنه بالتأكيد أولهم في الابتكار إذ ان أشهر ما في رسائله ليست أخبار الحروب والقصف والخسائر. بل هي ما يتناوله في رسائله صوتا وصورة مع الأمهات والعجائز والمنسيين في بيوتهم.
لم يكن في عمله متطوعا في الصليب الأحمر او في الدفاع المدني فقط بل أكثر من ذلك: كان يحرص على أصول القرى التي يدخلها مع زميله سمير بيتموني عند اعلان وقف اطلاق.
لا يُخرٍج الحاجة من دون غطاء على رأسها. لا يحمل الجريحة إذا بدا من جسدها شيء. لا يترك لعجوز وحده ان يخرج من مخبئه من دون ان يكمل ثيابه وكأنه ذاهب الى مناسبة. ربما سلطان على حق: أليست الحياة مناسبة فرح؟ ستبقى الكثير من صور سلطان متفردة لا يجاريه فيها أحد. إذ لم يسبق لمراسل حربي ان ألبس حاجة فستانها الأسود فوق ثيابها البيضاء قبل اخراجها من منزلها.
بدا سلطان وكأنه متخصص في فساتين الحاجات وأغطية رؤوسهن.
واحدة منهن تغلبت علينا جميعا. حاجة رقيقة العود. نحيفة الصوت. تحفظ كل مفردات الرضا والمحبة في قاموس الأمهات. يا حبيبي. يا تقبرني. يا نسمتي. رضا الله عليك. محبة سيدنا محمد لك. صلاة القلوب تحميك.
تريه يدها وهي تروي قصتها في المقعد الخلفي لسيارته. “اقتلعت الشظية من كتف زوجي بعد اصابته. من لي غيره. امسك يدي. لا تزال حارة. بقينا يومين ندبدب على الطريق حتى وصلنا الى المستشفى”. حاجة في منتصف السبعينات تقتلع شظية بيدها من كتف رجلها ولا تزال تشعر بحرارة يدها؟
هذه حرارة قلبك يا حاجة. يا رقيقة العود. يا كبيرة الايمان. يا قديرة الفعل. يا قويّة الارادة. تروين قصتك وكأنها رواية كل صباح؟ انها رواية وطن يا صاحبة اليد الحارة.
لم تكن يدك يا حاجة هي اليد الحارة الوحيدة التي رأيتها في الأسبوع الماضي. اليد الثانية وجدتها في مصافحة حسين أيوب. أنت لا تعرفينه. لكنه افتقد حاجته في قريته “عيناتا” لمدة شهر. تصوري. شاب مهذب. منخفض الصوت. يعمل كل ليلة على أخبار البلاد والعباد. ينظر الى التلفزيون. تنطفئ عيناه عندما تظهر حاجة. أي غطاء رأس لسيدة مسنّة كان كافيا لوجع لا يظهره. لانطفاءة عينين لا يراها إلا من يعرفه جيدا.
هل تصدقين ان رجلا يضيّع والدته؟ هي عنيدة. لم تقبل ان تترك منزلها رغم كل المحاولات. في الوقف الأول لاطلاق النار ذهب هو الى هناك. لم يجدها لا بين الأحياء ولا بين الأموات.
اغلق على نفسه السؤال. لم نعد نسمع منه سؤالا. لم يعد يسمع منا جوابا. يذهب كل ليلة الى قريته بفكره ولا يعود. لا اعرف من علّمه ان يخفي كل هذه الجبال من الحنان في شخصه. لا اعرف من قال له انه لا يجوز له الانفجار. هل هناك التزام سياسي يخزّن الحنان. يمنع الانفجار؟
حين ذهب في المرة الثانية الى عيناتا. خرج الشهداء من تحت ردم الملجأ. كانت والدته هناك. عرفها من فستانها. روى لي كيف ان طفلة تمسك بيد أمها أخرجا سويا من تحت الردم. وذهب بعينيه بعيدا.
كان يريد القول ان يدي الأم والابنة الممسكتين ببعضهما البعض كانتا حارتين، مثل يده. لم يروِ لي ان والده استشهد في العام 1982 وهو يقاتل الإسرائيليين. بدا حسين يفضّل الشهادة على الرواية. الصمت على الكلام. بدا ان الشهادة التزمت عائلته. هو التزم الصمت. اعتبره البلاغة الكاملة. بعد الشهادة الشريفة لوالديه.