الوعد العربي..

مقالات 19 مارس 2007 0

لم يكن تعبير المغامرات غير المحسوبة منتظرا من السعودية حين صدر عن مجلس وزرائها في شهر تموز من السنة الماضية والطائرات الإسرائيلية تقصف الأراضي اللبنانية. التعبير جاء رفضاً أو وصفاً لخطف حزب الله جنديين إسرائيليين.
التعبير لم يكن سعودياً لأن مراكز القرار في العالم وخاصة العربية منها لم تعتد الحدة في النص السياسي السعودي في كل المواضيع، فكيف في النزاع اللبناني الإسرائيلي العسكري في جنوب لبنان؟
للوهلة الأولى طلب سفراء سعوديون في عدد من الدول العربية عدم اعتماد النص رداً على استفسارات إعلامية. لأن السفراء أنفسهم لم يخطر في بالهم أن النار السعودية خرجت من تحت الرماد بعد سنوات طويلة من الصبر. فالمعروف أن السياسة الخارجية السعودية التي يرأسها الأمير سعود الفيصل منذ 32 سنة، تشبه وزيرها الذي من كثرة ترفعه السياسي تظنه من نبلاء القرون الماضية. هذا مع الملاحظة أن في النص السياسي للأمير سعود الفيصل حداثة ووضوحاً وتوجهاً مباشراً، ما يجعل من الغلاف الجميل أكثر ضرورة من أي غلاف لأي كلام آخر.
الدبلوماسية المقيمة في وجهه وفي كلماته تجعل المستمع الناظر إليه يتساءل أيهما يسبق الآخر دبلوماسيته أم طبيعته الإنسانية؟
لا ينتقص هذا من سهام حادة يقدمها لك على طبق من اللطافة الملكية، بعد طول صبر وطول تفكير.. ما صدر في تموز من السنة الماضية وتكرّر بعد ذلك لا يشبه أياً من الأوصاف السالفة الذكر، إذ تبيّن أن التعبير الأول في نهوض الحالة السياسية السعودية وهو النص المنسوب إلى مصدر سعودي مسؤول، لم يأت نتيجة تشاور سعودي يتسع لكل المعنيين بالملف اللبناني.
لم يغيّر هذا التفصيل من اتباع الحكومة السعودية الاتجاه السياسي نفسه لأسابيع قليلة قبل إعلانها الاستنفار العام في أجهزتها السياسية والدبلوماسية لمواجهة مرحلة ما بعد حرب تموز.
إذ ان التقديرات السياسية السعودية اعتبرت هذه الحرب مفصلاً مهماً في إعادة تشكيل المنطقة العربية سياسياً. وكان لا بد من أخذ كل التدابير اللازمة للإحاطة بنتائجها وامتداداتها. ليس لأن حزب الله حقق انتصاراً عسكرياً تشهد له الحكومة الإسرائيلية بكامل أعضائها، بل لاعتبار أن هذه الحرب جاءت نتيجة قرار غير عربي بينما تتحمل مسؤوليته ونتائجه الدول العربية جمعاء.
تعرف الإدارة السياسية السعودية أن قيادة حزب الله تسلمت تحذيرين دوليين، الأول من الرئيس الفرنسي جاك شيراك حمله النائب سعد الحريري والثاني من وزارة الخارجية الألمانية التي أبلغت قيادة الحزب مباشرة بالمخاطر المترتبة نتيجة القيام بأي عملية عسكرية من جنوب لبنان وخاصة الخطف منها. إذ كانت تجربة ما فعله الإسرائيليون في قطاع غزة بعد خطف حركة حماس جنديا إسرائيليا ماثلة أمام الجميع.
لم تنفع مع القيادة السعودية في الأسابيع الأولى التبريرات التي ترددت على لسان السيد حسن نصر الله بأن الحزب لم يقدّر أن نتائج خطف الجنديين ستكون بهذا الحجم من الرد الإسرائيلي.
علمت القيادة السعودية أن قراراً بالحرب يمكن اتخاذه في المنطقة العربية دون علمها ودون تقدير لما يمكن أن يرتبه عليها هذا القرار. وهذا أمر يعرّض الاستقرار العربي السياسي لمخاطر لا يجوز القبول بها تحت أي ظرف من الظروف.
يقول الدكتور بيروز مجتهد زادة أستاذ العلوم السياسية في جامعة تربية المدرّس في طهران ورئيس مركز دراسات يوروسيفيك في لندن إن السعودية توصلت الى قناعة في السنوات الأخيرة بأنه لا بد من الوصول الى حل للنزاع العربي الإسرائيلي بطريقة معتدلة. تشاركها مصر والأردن في هذه السياسة. وقد وجدت أن الحرب الأخيرة في لبنان استطاعت إثارة المشاعر العربية والإسلامية بطريقة لا تناسب توجهها في نزاع المنطقة.
ليس بالضرورة أن يكون هذا التصور دقيقاً للخبير الإيراني المقيم في لندن. لكن الأكيد أن إيران وجدت الدور السياسي السعودي أمامها خلال أقل من ستة أشهر في مناطق النزاع الثلاث العراق، لبنان وفلسطين.
قرر العاهل السعودي أن ما ألزم به نفسه وإدارته من إحجام وهدوء ومراقبة ومتابعة لم يأت بالنتيجة التي انتظرها.
تجنب الملك عبد الله بداية الدور الأميركي العسكري والسياسي المجتاح للمنطقة العربية بعد هجوم الحادي عشر من أيلول في نيويورك، باعتبارها نبع الإرهاب. فكيف يمكن غير ذلك ومعظم المهاجمين للمقرات الأميركية شباب سعوديون؟ انتظر حتى هدوء الموجة وعودة بعض العقل الأميركي الى مكانه، لكي يأخذ دوره في الحوار.
جاءت الظروف الأمنية سواء في لبنان أو في العراق لكي تضع الإدارة الأميركية حيث أرادها الملك عبد الله أن تكون منذ البداية. وهو أن الإرهاب ليس تخصصا مذهبيا بل هو يأتي من كل المذاهب الإسلامية دون استثناء. حقق حزب الله في لبنان خدمة كبيرة لهذه الأفكار حين ظهر أن الصراع السني الشيعي بلغ أوجه في لبنان، بصرف النظر عن الحقائق حول هذا الموضوع.
عرف العاهل السعودي أن ما تعلمه وعاش عليه من طبائع البدو في الصحراء أي النخوة والحمية والفروسية والشهامة والكلمة الصادقة، ينقصه مؤسسات حديثة تحمي هذه المفاهيم.
أصدر قرارا بتشكيل لجنة سياسية عليا معنية بملفات النزاعات الدائرة في المنطقة، مؤلفة من الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية. الأمير مقرن بن عبد العزيز رئيس المخابرات العامة. الأمير بندر بن سلطان الأمين العام للجنة الأمن القومي. الوزراء غازي القصيبي وأياد المدني باعتبارهما مستشارين للملك وإبراهيم العساف وزير المالية. تجتمع هذه اللجنة بشكل شبه يومي في الديوان الملكي برئاسة وزير الخارجية ويجتمع إليها الملك عبد الله بعد جلسة مجلس الوزراء كل يوم اثنين.
هذا لا يمنع العاهل السعودي من الاتصال الدائم والملح والمستفسر عن رد على سؤال لم تتوفر معطياته بعد، بحسب قول عارفيه.
***
أصبحت هذه اللجنة خلية عمل دائمة في الشهر العاشر تقريبا من السنة الماضية. ماذا تحقق حتى الآن؟
أولاً: عادت الحياة الى المساعي السعودية في لبنان بعد سبات قصير لم يمنع في حينه السفير السعودي في بيروت من الاستمرار في اتصالاته مع كل الأطراف. واتخذ العاهل السعودي قراراً بأنه لا يجوز الاستمرار في الانقطاع عن قيادة حزب الله ما دام المسعى يقصد خير جميع اللبنانيين. فضلاً عن أنه من غير العملي إشعار قيادة الحزب بأنهم خارج المسعى السعودي.
وبالفعل قام وفد من قيادة الحزب بزيارة السعودية واجتمع الى الملك ووزير الخارجية بداية ثم انضم إليهم السفير السعودي في بيروت. عادت الصلة الى عهدها السابق بصرف النظر عن النتائج حينها.
يشهد لبنان اليوم الجلسات الأخيرة من حوار بين سعد الحريري والرئيس نبيه بري برعاية سعودية إيرانية. بعد أن أصبح سعد الحريري متوجاً برغبة سعودية واعتماد سياسي أكيد له، أن يجد ويصل الى ما يناسبه سياسيا مع الاعتراف بحقوق المعارضة في بعض النقاط.
ثانياً: عادت الصلة بحركة حماس بعد طول انقطاع خلال موسم الحج حين قام رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية بأداء فريضة الحج والتقى عددا من المسؤولين السعوديين. أدى ذلك الى اتفاق مكة الذي حقق تشكيل الحكومة الفلسطينية بالتفاهم بين فتح و حماس بعد أسابيع من النزاع المسلح بين الطرفين في شوارع غزة وأشهر من المفاوضات السياسية دون نتيجة.
أول من أمس رفع الرئيس محمود عباس يد اسماعيل هنية في المجلس التشريعي الفلسطيني شاكراً المجلس ثقته الكبيرة.
ثالثاً: فتحت أبواب الحوار بين الرياض وطهران على قاعدة الاعتراض على ما أسماه الملك عبد الله بالتدخل الإيراني في شؤون الدول العربية. زار الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني السعودية مرات ومنها إلى دمشق، للإطلالة على الأزمة اللبنانية المسماة بالمحكمة ذات الطابع الدولي، لكنه ممثلاً لبلاده لم يوفق حتى الآن.
جاء الرئيس الإيراني أحمدي نجاد المكلف بملف التطرّف العلني وكاد على حسب قول مصادر عربية ان يدعم مبادرة السلام التي اقرت في القمة العربية في العام 2002 في بيروت والتي وضع نصها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله.
المهم ان المحادثات الإيرانية السعودية أثمرت تفاهماً عميقاً وجدياً على نبذ اسباب الفتنة بين المسلمين. وأكدت تفاهماً لم يعلن، على تشجيع الاطراف اللبنانية على التفاهم ضمن خطوط عريضة تقول بالأخذ ببعض مطالب المعارضة في المسألة الحكومية والنظر بعين الدقة الى تعديلات اقليمية على مشروع إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي.
بالفعل لا يمكن القول ان ايران قصّرت في هذه السياسة في الفترة الأخيرة. فهي تعلم، إن كانت تريد تغيير المفهوم السياسي لوجودها في لبنان، فعليها ان تشارك القيادة السورية في عقلها لا في عضلاتها.
قطع الأمير بندر شوطاً كبيراً في هذا الاتجاه خلال زيارته الى طهران ولقائه السيد علي خامنئي. حرصت السعودية قبل هذه الاجتماعات وبعدها أيضاً على تأكيد موقفها الرافض للعملية العسكرية الأميركية ضد إيران والمؤيد لنظام نووي سلمي في المنطقة كلها ولا يستثني إسرائيل على حد قول وزير الخارجية السعودي.
رابعاً: حققت السياسة السعودية حياداً روسياً في المواضيع السورية واللبنانية والإيرانية بعد الزيارة التي قام بها الرئيس فلاديمير بوتين الى السعودية.
سبق ذلك زيارة الأمير بندر الى موسكو لتحضير ملفات الزيارة التي اعتبرها الجانب الروسي تاريخية. وقابلها الجانب السعودي بما يؤكد اهميتها الاستثنائية.
الأمير بندر نفسه سيتابع هذا الملف بعد ان كلّفه الملك بملف شراء بلاده لما تحتاجه من السلاح الروسي.
***
خامساً: طلبت السعودية عقد القمة العربية الدورية في الرياض في نهاية الاسبوع المقبل بعد تخلّيها عن دورها في مكان انعقاد القمة في آخر اجتماع للقادة العرب عقد في الخرطوم.
عاد العاهل السعودي الى أساس الموضوع العربي أي الموضوع الفلسطيني والصراع مع إسرائيل. من هنا الطلب الإسرائيلي بتعديل مبادرة الملك عبد الله والاهتمام الأميركي بذلك. هذا مع العلم ان وزيرة الخارجية الأميركية أبدت احتجاجاً جدياً أمام ضيف لبناني، على الدور السعودي في فتح الباب أمام الاعتراف العربي والأوروبي التدريجي بالحكومة الفلسطينية.
في القاهرة حيث عقد مجلس وزراء خارجية الدول العربية اجتماعهم تمهيداً للقمة نفى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أي رغبة عربية ولو هزة او إعادة النظر في صياغة المبادرة العربية. وظهر الوزير التركي الضيف وكأنه صاحب المنزل.
لم تترك السعودية لعلاقاتها المتوترة مع سوريا ان تظهر في البيان الختامي، مع العلم انه لو ارادت لفعلت. بل أكد البيان على آلتضامن العربي الكامل مع سوريا والوقوف معها في مواجهة الاعتداءات وأدان العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
حتى الآن أقدمت سوريا على نصف خطوة في الكلام الذي قاله نائب الرئيس السوري فاروق الشرع في القاهرة بعد لقائه الرئيس المصري. ربما لاعتبار الانصاف هي التعبير الاوضح عن المرحلة. مع العلم ان جمهور الشرع في القاهرة والرياض لا يشجّع النصف على الاكتمال. فكيف للرئيس بشار الأسد إذا ذهب الى الرياض ان يكون أقل تعاوناً من الرئيس الإيراني؟ خاصة بعد ان تبنى اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض أيضاً ما جاء في اجتماع القاهرة وأضاف عليه استنكار ما يشهده الشارع اللبناني من مظاهر من شأنها زعزعة الأمن والاستقرار.
سادساً: عقد وزراء خارجية سبع دول إسلامية اجتماعاً في العاصمة الباكستانية بدعوة من الرئيس مشرّف.
تقول مجلة الإيكونوميست ان السعودية تقيم حلفاً عسكرياً مع باكستان. الدولة النووية الواقعة على الحدود الإيرانية والتي صدف أنها جربت صواريخ طويلة المدى في الفترة الأخيرة. حضر الاجتماع وزراء كل من تركيا، ماليزيا، اندونيسيا، مصر، السعودية، الأردن والوزير المضيف طبعاً.
ليس أساسياً احتساب عدد سكان هذه الدول بقدر ما يعبر اجتماعها عن قرار سياسي بوقف الامتداد الإيراني حبياً وليس عن طريق المواجهة.
تضيف الايكونوميست ان السعودية تستطيع تشجيع الحركات الانقسامية السنية في بلوشستان وكزرخستان داخل إيران. ولو اضطر الأمر فان المملكة مع دول الخليج تستطيع اغراق السوق بالنفط لضرب الاقتصاد الإيراني. خاصة بعد ان طورت السعودية انتاجها الى حد يسهّل استغناء السوق العالمي عن النفط الإيراني.
غير ان شيئاً من هذا لن يحدث فالعاهل السعودي مقدم راغباً في علاقات سلمية مع إيران تحفظ لها دولتها وتخلّص دول الآخرين من امتدادتها. ولا يبدو ان الجانب الإيراني بعيد عن هذا التصور.
لذلك صدر البيان عن اجتماع إسلام أباد بالاعراب عن القلق العميق للتصعيد الخطير بشأن برنامج إيران النووي. ودعوة كل الدول بالعمل على تحقيق هذه الغاية. الرئيس مشرّف صديق الشهيد رفيق الحريري ووريثه السياسي سعد أيضاً أكد على عقد قمة للدول السبع في مكة في الشهر المقبل لمتابعة المناقشات.
سابعاً: فجأة صار بالامكان عقد اجتماع سياسي في بغداد بعد سنوات ثلاث من الانفراد الأميركي الفاشل بطبيعة الحال.
بدا مؤتمر بغداد الذي حضرته سوريا وإيران والولايات المتحدة وروسيا وتركيا والسعودية، وكأنه بدعوة من الملك عبد الله وليس من الحكومة العراقية كما هو الحال. لذلك دارت الاساطير حول الحوار السوري الأميركي من جهة والإيراني الأميركي من جهة أخرى.
كلاهما أي سوريا وإيران اعتبرتا ما حدث مكسباً سياسياً لهما بصرف النظر عن النتائج الفعلية. الاساطير هنا اختصاص الأمير بندر الذي لا يمكن القول ان كل هذه التطورات يمكن ان تحدث من دون الاتصال المباشر القائم بينه وبين ستيفان هادلي مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي، حقق هذا الاتصال جزءاً من تقرير بيكر هاملتون الداعي الى التفاوض مع دمشق وطهران. لكن الاجتماع بحد ذاته حقق أكثر من ذلك. أعطى القيادتين السورية والإيرانية فكرة عن القدرة السياسية للسعودية على فتح أبواب مغلقة منذ سنوات.
استطاع الملك عبد الله ان يحقق كل هذه الوقائع خلال ستة أشهر. لبس ثياب العرضة رقصة فرح المقاتلين السعوديين بالعودة من الحرب، وأدى مع اشقائه ومعاونيه الرقصة. ليس استعداداً للحرب بل فرحاً بالسلام السياسي الذي يعمل عليه.