الوطنيّة اللبنانية وشقيقاتها…

مقالات 21 أبريل 2008 0

منح الصديق النقيب رشيد درباس لقب بيدبا الفيلسوف الهندي، لسياسي لبناني في عقله الكثير من فضائل الصيغة اللبنانية وفي ضميره الأكثر من المسؤولية تجاه ابتكار وسائل حديثة سياسية لإنعاش هذه الصيغة. منحه اللقب بعد أن سمع منه ما جعله يقتنع بأن الجهد المطلوب لعودة العروبة الى أهلها يكفيه مقالان بقلم عروبي شمالي، فيهما من البلاغة ما يجيع من الجوع اللفظ ويشبع المعنى. المقال الاول فيه إفراط في التأكيد على عروبة جمهور الشهيد رفيق الحريري، مع اعتذار مبطّن لانجرافه مع التيار الهادر بلبنانيته طوال السنوات الثلاث الماضية التي تلت اغتيال الرئيس الحريري.
أما المقال الثاني فجاء ردا على ما كتبته منذ شهر بعنوان فلسطين دائما … ماذا عن لبنان؟ . تحفّظ النقيب درباس في رد نشرته السفير آنذاك، على إعطاء صفة اللبنانية العدائية لقوى الرابع عشر من آذار، باعتبار أن طبيعة التكوين السياسي والاجتماعي لفريق الموالاة ينفر من الرضوخ للتعميم، وان التزام هذا الفريق لهذه الصفة أتى تعبيرا عن عصبية المأزق الذي يعيشه لبنان، وفقدان الدولة لمقومات وجودها وممارسة مؤسساتها الدستورية دورها ولو تدريجياً.
وافترض في ردّه أنني قصدت أن أقول إن فريق الرابع عشر من آذار يحاول أن يلوي الحقائق الجغرافية والسياسية، وأن يقفز فوق هوية الارض والانتماء، ولكنه سيفشل في ذلك بحسب قوله.
أخيرا يرفض في ردّه ما سلمت به من أن التسوية الداخلية غير واردة ما لم يحل الأجل الاقليمي، لأنه يرى أن المشاريع الاقليمية لا تستطيع الانتصار في لبنان. وبالتالي على أهل الشرعية وفريق المشروع من اللبنانيين اللقاء على دولة تستطيع أن تؤلف بين التنمية والأمن والانتماء.
سافرت الى السعودية بعد نشر الرد في مهمة لم تكتمل فصولها بعد.
لم يكن بالإمكان آنذاك فصل الإقليمي عن المحلي، ولا الوطني عن العروبي، بصرف النظر عما اذا كان الاقليمي خصماً أو صديقاً، والوطني عدائياً أو متسامحاً.
***
قرأت في الصحف خلال الأيام القليلة الماضية العديد من الانباء عن ايران. أهمها ما جاء على لسان شيرين عبادي الناشطة الايرانية في قضايا حقوق الانسان، الحائزة جائزة نوبل للسلام في العام .2003
سخرت عبّادي في محاضرة ألقتها في احدى الجامعات الاميركية من السياسة الاميركية تجاه بلدها ايران، وتناولت بالاسم وزيرة الخارجية كوندليسا رايس بسخرية لاذعة، ولم يسلم من كلامها وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، رغم مغادرته موقعه الرسمي. الاهم أنها عبّرت بوطنية خالصة عن حق بلادها بمنشآت نووية سلمية تحقق خدمات أساسية في حياة المواطنين بكلفة متدنية. تجاوزت عبادي ما رددته في محاضراتها حول ما تتعرّض له الحريات العامة السياسية والاجتماعية في ايران من ظلم وتضييق واعتداء الى حد تجريم أهل الرأي ومنع الحكومة لمن لا يماشيها في سياستها من الترشح للانتخابات، مما يجعل من نتائجها محسومة سلفا للفاعلين في سياسة التضييق التي تتبعها الدولة. وتجاوزت ايضا موقفها من الأحكام الإسلامية التي تترجم في ايران الى ظلم ومنع وتعدٍ، وتستعملها الدولة برجالاتها الكبار سلاحا في وجه من يريد الاصلاح والاستقرار الاقتصادي لبلاد يعاني أكثر من ثلث سكانها مصاعب العيش تحت خط الفقر ، كما تقول عبادي
تجاوزت كل هذه الوقائع السيدة التي نالت أعلى جائزة دولية للسلام بسبب مواجهتها العلنية والصريحة لسياسة الدولة، وتحملّت وأهلها بسبب مواقفها هذه لسلسلة تهديدات بالقتل. تجاوزت كل هذه الوقائع وتناست التهديدات التي تأتيها في معظم الأحيان من رجال النظام لتضع خطاً واضحاً بين ما تقاتل النظام في سبيل تغييره، وبين موقفها من إجماع وطني إيراني على دولتهم بالوسائل النووية السلمية، باعتبار ان هذا الامر يحقق التقدم لبلادهم في العديد من المجالات العلمية والانسانية.
شيرين عبادي ليست وحدها في هذا الموقف من رموز الإصلاح أو من عتاة المعارضة الايرانية. ذهب الرئيس السابق محمد خاتمي في السنة الماضية الى الاسكندرية محاضرا في مكتبتها العامة عن الحوار بين الأديان. وكان واضحا لمن تتبع تصريحاته ومواقفه العلنية أن السيد الهادئ المبتسم دائما يخرج عن تحفّظه التاريخي ويقوم بتعبئة متراكمة يدعو فيها من هم على سياسته وطريقته أن يتصدوا للحكومة الايرانية ولرئيس الجمهورية أحمدي نجاد، باعتبار أن سياستهما تطبق على أنفاس الناس فتمنعهم من الموقف السياسي ما لم يكن متطابقا في السياسة مع رئيسها وحرسها الثوري. وفي السلوك ما لا يتماهى مع الاحكام غير القابلة للنقاش من رجال الدين المتزمتين. ذهب اليه صديق مصري مشترك يعمل في مجال الاستثمارات ويحرص على تنوّر عقله. ذهب اليه محاورا حيث كان يقيم اعتقادا منه بأنه سيسمع من خاتمي ما يرضيه عن سياسة الدولة الايرانية بأجهزتها القضائية والسياسية والادارية وخاصة الاقتصادية.
وجد رجل الاعمال المصري السيد خاتمي أكثر تفصيلا في الحديث عن معاناة الشعب الايراني حتى الحديث عن كلفة الانتشار الخارجي للاحلام الايرانية، وانه وإن كان متمهلا في حديثه بالعربية بحثا عن النص الدقيق لما يريد قوله، فإن السيد خاتمي لا يترك ملفا ايرانيا في حديثه إلا ويجد فيه من العيوب والنواقص ما يجعله في مقدمة الاعتراضيين. الى أن تطرّق الحديث الى المسألة النووية. عندها أظهر خاتمي وطنية خالصة في الدفاع عن حق بلاده بهذا السلاح السلمي، ليس من أجل التقدم العلمي والخدماتي، بل لأن لهذا السلاح قيمة معنوية لدى الشعب الايراني لا يجوز لأحد أن يتعرّض لهذا الحق ولا حتى ان يعترض على أكلافه. مهما كلّف ذلك من صمود وعض على جراح الحاجة الاقتصادية، ومهما تعرّضت ايران الى ضغوط دولية لردّها عن هذا الحلم.
مسؤول ايراني سابق حرص في حديثه معي في لبنان على قول ما لم أتوقّع أن أسمعه منه. في ولاية الفقيه قال ان هذا نص دستوري حرص الإمام الخميني على صياغته بدقة لا تجعل من ولاية الفقيه مستبدا ولا مجتهدا في غير الحق. فإذا بالولاية الدينية تصبح الآن ملكية مقنعة بعمّة رجل الدين. وأكثر ظلما وتعسفا من أي ملكية اخرى في المنطقة، كونها لا تحمل معها ولا في تصرفها أعرافاً وتقاليد نشأت مع السنوات الطويلة للملكيات الاخرى حسب تعبيره .
أضاف ان الشعب الايراني لا يملك حساسية قيادته تجاه العدو الاسرائيلي ، وان رفضه لكلفة هذا الالتزام السياسي غير المبرر شعبيا وصل الى حد لا بد من توقع نتائجه قريبا، اذ ان الشعب الايراني لم يعد مقتنعا بأن الشعارات السياسية تكفي لتحمّله ضغوط المجتمع الدولي عليه، مما جعل عدد فقرائه يزداد الى مستويات مخيفة. وهذا يتضمن حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين وكل حركة عسكرية عراقية تتولى ايران الإنفاق على جهادها من أموال يحتاج اليها الايرانيون لتنمية الداخل .
أكثر من ذلك، استغرب المسؤول الايراني السابق بهدوء حماسة اللبنانيين والفلسطينيين لسياسة قد تحقق الشقاق أكثر مما تحقق الوفاق في المجتمعات العربية، وتكلّف الناس ما لا طاقة لهم عليه. قاطعته بالقول ان هذه السياسة وانتشارها خارج ايران ومواجهتها للمجتمع الدولي ليست سياسة الحكم القائم بل هي على أيامكم الطويلة في الحكم وقبلكم ايضا فماذا استجد حتى تتبنى هذا القدر من الاعتراض.
يجيب بهدوء وصوته يخفت، السياسة الاميركية ليست جديدة في المنطقة ولا مواجهتنا لها بأمر مستجّد ايضا. لكن كلفة الحصار زادت كثيرا عما كنا نتوقّعه، وأكلاف الانتشار لا تقل عبئا على الايرانيين. مما جعل الاستمرار في هذه السياسة إمعاناً في إفقار الايرانيين وليس مواجهة لسياسة أميركية واجهناها دائما وأقمنا لفترات متقطعة توازنا بين المواجهة واستقرار الداخل. ما يحدث الآن هو العكس. لقد استكثر القائد الجديد للحرس الثوري علينا صفة الاصلاحيين، فأطلق على نفسه ومن معه صفة المبدئيين لكي ينحصر التدريج في الأوصاف بين المبدئيين و المحافظين فيكون الجميع داخل الاطار السياسي الحكومي لا داخل إطار الدولة التي يفترض أنها تمثل الجميع وتعبّر عن مصلحة الشعب العليا والعامة .
الى هنا والكلام طبيعي على حدتّه من سياسي تهمّش دوره هو وجماعته وسياسته بعد سنوات طويلة من تجربة الحكم. يعبّر فيه عن رغبته في سياسة لم يكن ليتبناها لو أتيح له ولمن مثله المشاركة في الانتخابات النيابية الاخيرة، وصار بإمكانهم التعبير عن رأيهم داخل إطار المؤسسات بدلا من تشريدهم معنويا ونبذهم سياسيا.
وصل الحديث الى السياسة النووية الايرانية وأكلافها السياسية والمادية. تغيّرت عينا الرجل وارتفع صوته، بحيث صار مسموعا في دائرة تتجاوزني وإياه ليقول: هذا الامر خط أحمر بالنسبة للايرانيين، ليس بسبب الفوائد التي يمكن أن يحققها هذا المشروع للمجتمع الايراني، بل لان هذا شأن قومي يعيد لإيران الكثير من حقوقها المعنوية وقدرتها على النهوض كدولة كبرى من جديد. بصرف النظر عن الجوار العربي أو المفاوض الاوروبي أو الخصم الاميركي.
عبّر السياسي الايراني عن رأيه النووي بوطنية خالصة لا تردّد فيها ولا تمهّل، ولا حتى ترك هامشا في النقاش لمعارضة السياسة النووية الايرانية.
الخبر الاخير جاء من واشنطن، حيث قالت مسؤولة في وزارة الخارجية الاميركية إن محادثات غير رسمية جرت في السنوات الخمس الماضية بين مستشارين سياسيين وأكاديميين إيرانيين ومثلهم من الجانب الاميركي في عدد من عواصم العالم. لم توضح المسؤولة الاميركية ماذا حققت هذه المفاوضات. ورفض الجانب الايراني الرد على أسئلة حول هذه المفاوضات.
قد يأتي من يقول ان الوطنية النووية للناشطة الايرانية شيرين عبادي تنبع من تشبّعها بآلاف السنوات من التاريخ الايراني وبعراقة الحضارة الايرانية وبتألق علماء الفرس في المجالات العلمية واللغوية والفلكية.
وقد يضيف القائل بأن موقف السيد خاتمي وتجاوز المسؤول السابق الايراني لكل نصوص معارضته حين يأتي الحديث الى السياسة النووية الايرانية يأتيان من اجتهاد للإمام الخميني، يطلب فيه من مقلّديه أن يقدّموا مصلحة الدولة على العقيدة الدينية في حال تعارضهما، لأن الدولة من وجهة نظر التاريخ الديني الشيعي في حالة تمهيد لا تثبيت، باعتبار أن مهمة إقامة الدولة الأخيرة من اختصاص الإمام الغائب.
بينما يمكن تفسير المفاوضات السرية الاكاديمية الاميركية الايرانية لمدة خمس سنوات من باب الضرورة التي فيها تخفيف الضرر وليس من باب الرغبة التي يراد منها تحقيق الاماني.
رغم كل هذه التفسيرات المحتملة، لا يمكن اعتبار ما يرد على لسان المعارضين الايرانيين على اختلاف توجهاتهم ودرجة معارضتهم.. لا يمكن اعتبار موقفهم من السياسة النووية الايرانية إلا وطنية صرفة لا يهمها رأي الجار العربي ولا الشقيق المسلم ولا المفاوضين المقيمين في أرض الكفر.
***
في سوريا يمكن لك بسهولة أن تجد بين المعارضة من يريد إسقاط النظام لا إصلاح سياسته. وستجد لدى المواطنين السوريين روايات لا تنتهي عن ظلم النظام وحرمانه لشعبه من الحد الأدنى من الحريات العامة. ومؤلفات غير موثقة عن سياسة القيادة التي جعلت من سكان السهول السورية بحاجة الى القمح، والمقيمين الى جانب السدود بحاجة الى المياه. وغير ذلك من المظالم التقليدية في نظام أمني يضع الامن فوق كل اعتبار.
لكنك لن تجد مواطناً سورياً لا في المعارضة ولا بين جموع الناس من يقبل بالتخلي عن وطنيته في تحرير الارض المحتلة من العدو الاسرائيلي، إذ إن تحرير الجولان المحتل ليس هو نبع المشروعية الوطنية للنظام فقط، بل هو ايضا موئل الوطنية السورية ومهدها ولحدها ايضا.
تتفاوض القيادة السورية بشكل غير رسمي وغير معلن مع الحكومة الاسرائيلية، ممثلة بدبلوماسيين متقاعدين لمدة أربع سنوات. فلا تجد من يمعن في الاعتراض من السوريين على هذه المفاوضات باعتبار أنها قد تؤدي الى تحقيق الوطنية السورية المتمثلة بتحرير الارض.
تمعن القيادة السورية في التدخّل في السياسة اللبنانية، توتيرا مرات وتجميدا عند الضرورة. وتذهب في سياستها الفلسطينية الى حد دعم عناوين الانشقاق الفلسطيني الجغرافي والسياسي، اعتقادا منها أن هذا يساهم في الضغط على الادارة الاميركية للدخول في مفاوضات تحقق لسوريا تحرير أرضها وتعيد للدولة السورية بريق دورها الاقليمي.
يجمع السوريون على حقهم في عنوان التحرير لوطنيتهم، ويلتفون بجموعهم حول نظامهم حفظا لمسيرة العنوان الوطني أكثر مما هو إعجاب بالتقدم الذي حققه هذا النظام للشعب السوري في مختلف مجالات حياته.
يلتف السوريون بعاطفتهم حول نظامهم حين يسمعون لبنانيا أو عربيا أو مرجعا دوليا، يتعرض للسياسة السورية، باعتبار أن هذا التعرّض يطال الوطنية السورية العاملة على شق طرقات الشقاق أو الوفاق في سبيل عنوانهم الوطني.
يتجاوزون معارضتهم ما عدا قلة حين يتعلّق الأمر بتحرير الارض ووطنية الشعب. ويبدون استعدادا منقطع النظير للرد على القسوة بأقسى منها، لان قسوة الخصم ولو كان فردا تطال من الوطنية السورية وقسوة الدولة مبررة في مواجهة منطق الخصم الفرد، ما دامت تحمي مسيرة تحرير الارض.
مهما كان رأي المعارضة السورية أو اللبنانية لهذه السياسة الشعبية والرسمية السورية، فإنها تندرج تحت عنوان الوطنية السورية التي لا يحق لغير من في داخلها الاعتراض على سياسة تحمل الشعار، بصرف النظر عن سلامة الوسائل المستعملة.
لا يجدون في السياسة السورية في لبنان مجافاة للعروبة ولا في تشجيع الانقسام الفلسطيني إعاقة لعروبة فلسطين، ولا في السياسة السورية في العراق تخليا عن العروبة، ولا يرون في التحالف السوري الايراني مواجهة للعروبة،. ما دام كل هذا مبرراً وضروريا حفاظا على الوطنية السورية .
يقول أحد الخبراء في العلاقات اللبنانية السورية ان سوريا تعوّدت، أقلّه حتى قيام عهد حافظ الاسد في ,1970 أن تنفي ذاتها لتؤكد أنها خطوة على طريق وحدة أكبر. هكذا ألحّت، وهو غير مألوف في الدول، على تذويب نفسها مطالبة بوحدة اندماجية مع مصر، فتحوّلت الى إقليم في جمهورية متحدة، وحين انهارت الوحدة أسّست جمهورية عربية سورية أسمتها منذ وصول البعث الى السلطة في 63 قطراً ، وهو ما جعل سوريا تبدو أقرب الى وظيفة في خدمة العروبة المتخيلة منها الى بلد. فهي تصمد وتتصدى وتحبط وتواجه أكثر بكثير مما تتحدّث عن تعليمها وطبابتها واقتصادها وإنتاجها. وهي الى هذا لا تكف عن تنبيه الإخوة الصغار الى واجباتهم في حق أنفسهم من الفلسطينيين واللبنانيين أو الأردنيين. وبالمعنى هذا، فإن سوريا كلما تواضعت في تمثيلها الوطني تعالت في تمثيلها العقائدي القومي ، ما يجعلها ناطقا بلسان الكل والمطلق، قياسا بالآخرين الذين ينطقون بلسان الأجزاء. وهو سلوك انجرّت عنه دبلوماسية تجتمع فيها الغيرية اللفظية والأنانية الفعلية وتتكاملان .
في الجزائر ايضا تستيقظ الوطنية فقط حين تكون على الطاولة خريطة الصحراء المشتركة مع المغرب واسبانيا. فلا يتعجب الجزائريون من صرف مليارات الدولارات على التسليح لتأكيد وطنية حصتهم من الصحراء في مواجهة الشقيق المغربي. ولا ترتبك القيادة الجزائرية من الانسجام مع الموقف الاسباني المعتدي على المغرب. ولا تتورّع القيادة نفسها عن دعم حركات انفصالية داخل الصحراء دعما لوطنيتهم الصحراوية صغر حجمها أم كبر، جلّ شأنها أم صغر، حقق منها الشعب الجزائري فائدة أم دفع أثمانا باهظة لسلبيات العمل على استعادتها من المغرب.
***
إلا في لبنان. حين يأتي لبناني على ذكر وطنية يحاط بهالة من الاتهامات تجعله يتمهّل في تأكيدها دون أن يرفقها بصفات اخرى مثل العروبة والإسلام، ويحتار في تقديم أي من الصفات على الاخرى بحسب السامع ربما. لا يحلل المعترض على هذه الصفة ولا يحرّم ويتعامل مع وطنية الآخر باعتبارهما سلاحا هجوميا على عروبته أو على إسلامه.
حين أعلن جمهور رفيق الحريري وطنيته اللبنانية في تجمعه الأكبر في تشييع الشهيد ورفاقه اولا، ثم في تظاهرة الرابع عشر من آذار، جاءه الرد فورا بالتحية الى سوريا قائدا ونظاما وشعبا.
لم تأخذ المعارضة في حينها ولا في أي حين سخونة الدم المرمي على الارض فعليا وسياسيا، ولا وجدت في الوطنية اللبنانية المعلنة ولو جانبا من مفهوم مشترك يبنى عليه حين تبرد الرؤوس. بل استمرت في سياستها الرافضة لهذه الوطنية، باعتبارها جزءا من المشروع الاميركي الجديد الذي يسعى الى وطنيات بدلا من قومية جامعة.
لم يعد من فضل أو ميزة لأحد الحديث عن ارتكابات السياسة السورية في لبنان. لكن انتفاء الفضل لا يمنع طرح السؤال عن مدى سلامة العروبة في هذه السياسة في لبنان تاريخيا ولغاية الآن. وهل حققت هذه السياسة عروبة منفتحة تعددية متسامحة ديموقراطية في بلادها حتى تستطيع تصديرها الى خارجها.
كيف يمكن لعروبة من يختلف معها ويطالب بالحوار، ويأتيه الرد دائما بالاتهام بالتآمر لصالح سياسة أميركية فاشلة ليس لمجنون أن يربط سياسته بنتائجها فكيف بعاقل.
اختار سعد الحريري عنوانه السياسي الثابت لبنان اولا ، فسمع من المعارضة اللبنانية ومن غيرهم في سوريا من الكلام والهجوم، مفترضين أنه سيرّده عن وطنيته.
صحيح أن الزعيم الشاب ابتكر الشعار واعتمده، الا أنه بهذه السياسة عبّر عن جمهور أوسع بكثير من طائفته، وأصلب بمراحل من عصبية والده السياسية قبل استشهاده.
إن سوريا تعتمد في سياستها ميزان مصالحها وعنوانها الوطني مهما كلّف ذلك من أعباء يتحملها السوريين وغيرهم أيضاً. فلماذا استغراب رغبة اللبنانيين الجامحة والمنتشرة في وطنيتهم غير المعادية للعروبة ولكن بمفهوم حديث يأخذ في عين الاعتبار الحاجة الى الاستقرار في نظام ديموقراطي ترعاه دولة، لا سياسة أحزاب أياً كان هدفها ومهما كانت قداسة قضيتها. وليس للعروبة المعتمدة هذه الأيام أن تحقق تقدما في مجتمعات منقسمة حول عناوينها الوطنية، فكيف بلبنان الذي يحقق مجتمعه من الانقسام أرقاما قياسية ومتجددة كلما هدأ البال الداخلي.
***
عاد الحوار السياسي في الأسبوع الماضي الى ما يشبهه من شهر شباط (فبراير) في العام 2005 ، حين كانت المفردات الوطنية اللبنانية تنتشر عالية الصوت بين جمهور هو الأكبر في لبنان ولو غاب بعضه عن التظاهر. بينما رأى بعض المعارضة أن هذا الوقت هو الوحيد المناسب لمبايعة القيادة السورية.
يطرح حزب الله قضية الضباط الاربعة الموقوفين على ذمة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس الحريري، باعتبارها قضية سياسية. ويعتبرون إعلان الموالاة عن ضرورة استمرار توقيف الضباط اتهاماً سياسياً ولغة ثأرية وتصفية حسابات سياسية، ثم يطالبون الموالاة بالتقدم الى الرأي العام بالأدلة الاتهامية التي يستمر اعتقال الضباط على أساسها.
يستدرج هذا الرأي إعادة تحديد الأولويات في النقاش حول هذا الموضوع، باعتباره جزءا أساسيا من الوطنية اللبنانية الحديثة.
يسري الالتباس نفسه على حالة المقاومة اللبنانية لإسرائيل وخاصة ما نالها من تشويه لهدفها وصورتها في ظروف العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006 .
إذا كنا متفقين على وطنية قضية رفيق الحريري، يصبح محقاً طرح الأسئلة آلآتية:
أولا: لم يتوجه الحزب الى القضاء بمطالبه التي لا يفهم منها إلا اعتبار الموقوفين من خطه السياسي، وبالتالي فإن احتمال إدانتهم لاحقا ولو احتمال إدانة بعضهم على الاقل يحمّل الحزب جزءا من هذه الإدانة. وهو لا يريدها بالتأكيد.
ثانيا: ليس واضحا لي على الاقل ما الحكمة من فتح هذا الملف على أبواب صدور القرار الظني في قضية الاغتيال، وبعد إعلان الامين العام للامم المتحدة تشكيل المحكمة وإتمام إجراءاتها الادارية، فمن انتظر سنوات يستطيع أن ينتظر أشهرا لكي يتحقق مما يدعو اليه.
ثالثا: التعامل في مسألة اغتيال الرئيس الحريري ببساطة الخصومة السياسية يستفزّ ويستنفر مجموعة كبيرة من القوى السياسية والدينية والمذهبية ايضا. لا مبرر منطقي لاستنفارها. فهذه مسألة قضائية شارفت على نهاياتها، فلماذا لا نصبر قليلا بعد أن انتظرنا طويلا، ونتعامل مع هذه القضية بمسؤولية وطنية وأخلاقية دون تبرئة ولا إدانة سياسية كما جاء في بيان سعد الحريري. ام ان ميزان الانقسام الوطني الذي اعتمد في العام 2005 لا يزال على خطئه؟
رابعا: أما كان أفضل لقيادة الحزب المعلنة إسرائيل عدواً اولا وأخيرا أن تصدر بيانا تدين فيه زيارة وزيرة الخارجية الاسرائيلية الى الامبراطورية القطرية ، فتكون بذلك التزمت شعاراتها وأكّدت على ما جاء في إدانة مرجعيّتها الايرانية لهذه الزيارة، فيكفّر الحزب بذلك عن صورة الامير القطري يتجوّل في الضاحية الجنوبية لبيروت محاطا بالتقدير والاكبار لكرمه في ترميم بعض ما دمّرته اسرائيل التي استقبل وزيرة خارجيتها في الاسبوع الماضي، وتكون ايضا وضعت على الطاولة نصا سياسيا تجد الوطنية اللبنانية فيه نفسها. ام ان الضرورات في العلاقات تبيح المحظورات للحزب فقط دون غيره من القوى السياسية؟
خامسا: مهما كان الكلام عن ضغط السياسة على القضاء في قضية الاغتيال، فإن القضاة المعنيين بهذا الملف، وعلى رأسهم مدعي عام التمييز سعيد ميرزا، يحققون إجماعا لبنانيا على نزاهتهم القانونية والشخصية، ولا يمكن اتهامهم باتخاذ قرار التوقيف افتراء وتعسفا فقط لا غير.
هذا لا يعني أن الحكومة ورئيسها أصابا في الرد على المرجع الدولي في جنيف المعترض على استمرار توقيف الضباط، فهذا الامر مهمة القضاء ووزير العدل وليس وزارة سياسية مختلف على تمثيلها الوطني الشامل.
يقول مصدر نيابي في المعارضة إن حزب الله اعتمد تاريخياً في مسألة توقيف الضباط الأربعة مطالبة القضاء بتقديم الأدلة الاتهامية الى محامي الموقوفين لتبرير استمرار توقيفهم أو الإفراج عنهم ما لم يحصل ذلك. هذه هي المرة الأولى التي نتوجه فيها الى الموالاة لأننا أردنا أن نرد على بيان النائب سعد الحريري الذي لا يحق له اعتبار التعرض الى توقيف الضباط الأربعة، بمثابة التعرض لاغتيال الرئيس الحريري. نحن نعتبر أنفسنا مسؤولين إنسانياً وأخلاقياً وقانونياً عن جلاء الحقيقة في هذا الملف. لسنا أول من تحدث ولن نكون آخر من يتابع. سبق للبطريرك صفير أن طالب بجلاء الحقيقة في ملف توقيف الضباط، فلماذا لم يرد عليه الحريري حينها بالاتهامات التي وجهها حين طالبنا بإنهاء هذا الملف.
ماذا لو تبيّن لاحقاً أن أحدهم أو أكثر مدان في القرار الظني لرئيس لجنة التحقيق؟
لقد قال السيد نصر الله مرة إنه سيضع كتفه إلى جانب آل الحريري لو تبيّن أن سوريا مسؤولة عن اغتيال الرئيس الحريري. فكيف بإدانة مواطن أو أكثر. نحن نريد جلاء هذا الملف اتهاماً موثقاً أو إفراجاً سريعاً.
عودة الى الوطنية اللبنانية . ليس في الإمكان ولا المطلوب إحداث إجماع عليها بل الاحتكام الى نصوص مشتركة تفتح الباب أمام حوار داخلي حين يحين وقته.
يصف حازم صاغية لبنان بأنه، منذ أن ولد، نرجسي يباهي بنفسه، وقد يكون أكثر الشعوب تردادا لإعجابه بذاته من قبل شعرائه ومغنيه ورموزه حتى الفلوكلورية منها. يكاد لبنان في نظر ايديولوجيته غاية قائمة بذاتها. ولأنه صغير وضعيف، نراه يمتنع عن وعظ جيرانه ما خص واجباتهم تجاه أنفسهم. يقف طموحه عند مطالبتهم بالعزوف عن التدخّل في شؤونه .
***
بعد كل هذه الوقائع عن الوطنية اللبنانية وشقيقاتها بين العرب والمسلمين، هل من المستغرب على اللبنانيين أن يكون لديهم وطنية عدائية ولو حماية لنشوئها؟