النفي الرباعي 9 – سرقة عاطف بسيسو..

النفي الرباعي 03 أبريل 2006 0

أقمت في فترة الاجتياح في فندق “لوكافالييه” القريب من مبنى “النهار” مجاورا لوليد بك الذي جاءت به سيارات الموفد الأميركي فيليب حبيب من المختارة الى بيروت بتدخل من جوني عبدو.

نتبادل الأخبار مساءً، جنبلاط وأنا. تبعاً لمزاجه. هو متحرّك في الأيام العادية فكيف في الاجتياح؟ 

كنت أزور منزل أهل زوجتي حيث انتقلت لتبقى مع أشقائها ما دمت أغيب كل النهار من موعد الى آخر مراقبا لمدينتي تدمّر بفعل القصف الإسرائيلي. ذات يوم يمر هاني الحسن من المنطقة فيرى سيارتي. لا أجده إلا وهو يدق الباب داخلاً لمشاورتي في مسألة ملحة. المصادفة جعلت أبو عمار يمر في الشارع نفسه فأرسل من يستدعينا لحديث خاطف في سيارته. 

الى هنا والخبر عادي. ذهبت الى الفندق لأعلم مساءً ان سكان البناية التي تسكنها عائلة زوجتي إجتمعوا وقرّروا الطلب منها إبلاغي بعدم المجيء الى المبنى مرة أخرى. إذ ان زيارة قياديين فلسطينيين للمبنى تأتي بالقصف الإسرائيلي. 

هي لا تعترف حتى الآن بأنها خافت أكثر منهم. لكنها انتقلت الى الجنوب الآمن حيث لعائلتها منزل هناك. 

عدت عندها الى لعبة الغرام. اذ انها تضيء العيون والعقول أكثر من شعلة الحقيقة. الغرام هذه المرة مع ابنتي التي لم تكن قد بلغت السنتين من العمر. كتبت لها الرسالة الغرامية الأولى في حياتها. قلت لها إنني أشم رائحتها من البحر المواجه لمنزلنا في الروشة. أليس هو البحر نفسه الذي تلعب على رماله في الجنوب ؟ لم أحتمل شوقي إليها. قررت الذهاب لرؤيتها. اعترض جوني عبدو بشكل حاسم. لا مرور لي على الحواجز الإسرائيلية. ربما اعتقدوا ان لدي معلومات مفيدة لهم عن مواقع اقامة قيادات فلسطينية وخاصة ياسر عرفات. ألححت على الذهاب. فاقترح استعمالي لموكب الموفد الأميركي فيليب حبيب. وهكذا كان. ذهبت إليها. فرحت بها. لاعبتها. وضعت “تعبي” على طاولة والدتها. عدت الى بيروت وفي قلبي زاد رائحتها. 

بالصدفة كانت “لنهار العربي والدولي” قد حققت سبقا صحافيا استثنائيا بسبب هذه العلاقات. 

تعمّد جوني عبدو دعوتي الى الغداء في بداية العام 82 مع ضابط كبير من قوات الأمم المتحدة التي ترعى الحدود الجنوبية للبنان مع العدو الإسرائيلي. 

تباسط الضابط في الحديث بعد نقاش مستفيض عن موقف القيادة الفلسطينية من المطالب الإسرائيلية التي تنص على إبعاد السلاح الثقيل والمدفعية الى عمق 45 كلم من الحدود. 

أوضح الضابط الدولي بشكل قاطع ان الجيش الإسرائيلي سيقوم باجتياح لبنان ان لم يحقق هذا الطلب. 

شرح بالتفصيل الدقيق المخطط الإسرائيلي جغرافيا الى درجة لحصار بيروت من منطقة أعمدة الإذاعة اللبنانية في خلدة. افترض ان الجيش الإسرائيلي لن يدخل الى بيروت حتى بعد خروج القوات العسكرية لمنظمة التحرير. ولولا اغتيال الرئيس بشير الجميل لبقيت الخطة تستثني دخول العاصمة. 

خرجت من اللقاء مذهولا ومتسائلا. هل أنشر ما سمعت أم أتجاهله فيزول عني التوتر وأكتفي بالترقب. 

كان جبران التويني حاسما في ضرورة النشر. وحصل النشر تحت عنوان “هكذا ستجتاح إسرائيل لبنان” في شهر شباط فبراير من العام 82 قبل اربعة اشهر من حدوث الاجتياح. 

الهاتف يرن على المكتب ليلة صدور العدد. السفير غسان تويني مندوب لبنان الدائم لدى الأمم المتحدة على الخط. صوته عال يتهمني وجبران بالجنون لنشر هذا الموضوع على الغلاف. أحاول تهدئته. لا يهدأ. أشرح له جدية المعلومات. لا يقتنع. التسوية الأخيرة اضافة معلومات غير دقيقة عن مواقع لبنانية وسورية ستضرب لزيادة نسبة الاجتهاد في الموضوع بدلا من الجزم. نزلت الى المطبعة لطلب إعادة طبع الملزمة التي تضم الموضوع بعد تعديله. لم يكن هذا سهلا على الاطلاق ولكنه حصل بعد انتظاري نائما على “رولويات” الورق الضخمة في المطبعة. اكتشفت بعد سنوات ان صورتي غافيا في المطبعة على الورق منشورة في كتاب “النهار”. 

كيف علم السفير تويني في نيويورك بموضوع الغلاف؟ حتى اليوم لا اعرف الجواب. 

السبق الآخر هو الأول وليس الثاني فتاريخه يعود الى ما قبل الاجتياح بكثير. 

اغتيل علي سلامة “أبو حسن” في منطقة الصنوبرة في بيروت بواسطة سيارة مفخخة أطاحت به وبموكبه. ذهب ضحية التنقّل بين زوجتيه. الأخيرة جورجينا رزق ملكة جمال الكون ووالدة ابنه علي التي تسكن في منطقة الصنوبرة. الأولى أم أولاده تقيم في ساقية الجنزير. وُضعت له السيارة بين المنزلين. كان أبو حسن من أقرب الناس الى أبو عمار. يتسلم مسؤولية أمنه واتصالاته بالسفارة الأميركية في بيروت. شاب بهي الطلعة يتغاوى بسلطته ويريد التعرّف الى ملذات الحياة في مدينة بيروت بهدوء القادر على التنقل في المحلات العامة برفقة “الملكة”. 

تولى التحقيق في جريمة الاغتيال الجهاز الأمني التابع لصلاح خلف “أبو اياد” الرجل الثاني في حركة “فتح” كما كان يسمى. 

سألت عن المعني بملف التحقيق. فاكتشفت انه صديق لي. ذهبت لزيارته وبدأت بسؤاله عن الجريمة. أجابني بما لديه من معلومات وهو يراجع ملف القضية أمامه. تلقى اتصالا من ابو اياد يستدعيه للقائه. خرج على عجل. وجدت نفسي أحمل ملف التحقيق بكل “بساطة” وأخرج من مكتبه. 

لم استوعب ماذا فعلت بل فرحت به. راجعت الملف. وجدت صورة لجواز سفر سيدة انكليزية تقيم في شقة مطلة على خط سير أبو حسن سلامة منذ أشهر هي التي تولت تنظيم العملية وتنفيذها بالتعاون مع مجموعة مختلطة لبنانية وأجنبية. ذهبت الى مجلس التحرير بعد الظهر. أطلعتهم على ما لدي. لم أعط أهمية لحضور كلوفيس مقصود مندوب الجامعة العربية السابق في الأمم المتحدة. 

حمل السفير المقصود النبأ كما هو معه أبو أياد. 

بدأت سيارات أبو أياد واتصالاته تلاحقني الى الأمكنة التي يحتمل وجودي فيها. 

ماذا أفعل؟ الى أين أذهب؟ لن يفيد الاعتذار. الموضوع أصبح في المطبعة. 

بقيت أدور في شوارع بيروت حتى منتصف الليل. تذكرت صديقا لا أنساه ما حييت. العقل الأمني الصامت لأبو اياد. عاطف بسيسو. 

ينتمي عاطف الى عائلة عريقة وميسورة في غزة. درس في الجامعة الأميركية في بيروت ولم يعد منذ ذلك الحين الى أهله. جاءتني مرة والدته تطلب مني إقناعه بالعودة معها الى غزة مقابل ان تعطيه مليون دولار نقدا غير حصته من ارث والده. طبعا لم يقنعه لا المال ولا رجاء والدته. قليل الكلام. طلعته وسيمة. أنيق برصانة. أوروبي الهوى والعمل. لا تجده إلا متنقلا بين عاصمة وأخرى. قيل انه قام بدور أساسي في عملية “ميونيخ” الموجهة ضد الفريق الإسرائيلي المشارك في الاولمبياد. الشهيد الأخير خارج فلسطين المحتلة قبل توقيع اتفاق أوسلو بأيام. اغتيل على مدخل فندق انتركونتننتال في باريس وهو ينزل من سيارته القادم بها من ألمانيا. 

ذهبت إليه في منزله في فردان. وجدته صاحيا. قلت له ببساطة سرقت الملف. الموضوع في الطباعة. أبو اياد ومندوبوه يفتشون عني. 

ما زلت أذكر ضحكته الشجاعة وهو ممدّد بطوله الفارع على الكنبة. اتصل بأبو اياد لم يجده على السمع. ترك له خبرا بأنه هو الذي أعطاني ملف التحقيق في اغتيال أبو حسن سلامة. ودّعته. ذهبت الى النوم. لا يغيب عن بالي منذ ذلك اليوم. ولا أسامح السفير مقصود أيضا. 

لم تؤثر سرقة الملف ونشر مضمونه على علاقتي بأبو اياد. إذ ما ان التقيته بعد عشرة ايام حتى عادت العلاقات الى مجراها الطبيعي بيني وبينه. كانت تربطني به علاقة حميمة جدا. حتى ظن الكثيرون انني من فريق عمله بما في ذلك بعض الفلسطينيين. ألتقيه مرة في الاسبوع على الاقل. يضعني في اجواء التطورات السياسية وكأنني واحد من مجموعته. يأتمنني على أسرار وأحداث لم يكن لغيره ان يعرفها مجتمعة وينكبّ على تحليلها. كشف لي عن محاولة اغتيال الرئيس حافظ الأسد في العام 1980 بعد عودته من لقاء معه. حين نشرت النبأ ارتبكت وسائل الاعلام الاجنبية في التعامل معه إذ إنه كان مفاجأة كبيرة. 

جمع ابو اياد في شخصيته غموض الأمني الكبير. الحضور الفاعل تنظيميا في الساحة الفلسطينية. داخل حركة “فتح” وفي غيرها من التنظيمات الفلسطينية. القدرة على التحليل السياسي الدقيق. تجنّب الظهور قدر الإمكان. جعل من شخصيته لغزا صعب التفكيك. 

ارتبك غلاة المتطرفين الفلسطينيين في التعامل معه. يصغون إليه باعتباره واحدا منهم. عمل على فكفكة الكثير من تنظيماتهم بهدوء وصبر. استحق لقب الرجل الثاني في حركة “فتح” الذي لازمه حتى اغتياله في تونس. طيبة قلبه عن قرب تجعلك تستغرب ما تعرفه عنه من مسؤوليات أمنية وعمليات كبيرة بعضها انتحاري. 

استغللت طيبة قلبه مرة مرغما. أب يعمل على باب “النهار” جنّدت امرأة ابنه في لندن للعمل مع المخابرات الإسرائيلية. كُشف أمره فاعترف وأتى بالاجهزة التي يستعملها من منطقة الاوزاعي حيث كان يخبئها. لم يترك والده أحدا من السياسيين الذين “يزورون” النهار مساءً إلا ويخبره قصة ابنه مستنجداً. بعضهم يحاول ولا يقدر ومعظمهم يتهرب بسبب طبيعة التهمة. أما أنا فالمراجعة تلاحقني يومياً دون كلل ولا ملل. 

إذا نسي هو فسيدة الطابق التاسع ساميا شامي لا تتركني دون وعد بالتدخل. 

قلت في نفسي إن المراجعة العادية لن تأتي بنتيجة. فلا بد من سيناريو يحرج أبو اياد المسؤول عن التحقيق ويجعله يتجاوب. ذهبت إليه ظهرا. وجدته مرتاح الوجه والمزاج. بادرته بالسؤال هل تعلم أنني تزوجت؟ أجابني طبعا. لكنك تعلم انني لا استطيع الحضور. ألم يصلك الورد؟ أجبته وصل الورد لكن هذا لا يكفي. لم تصلني الهدية. بدا عليه الإحراج. حقّك علي. اؤمر يا سيدي. قلت: لا تتراجع مهما طلبت. لن أتراجع، قال ممسكا بفنجان القهوة في يده، تجرأت عندها بعرض موضوع الشاب مقترحا تحويله الى المحكمة العسكرية اللبنانية او الافراج عنه هدية زواجي. 

لم يضحك. استهول الأمر. قال: ولكنه معترف ولو بدور بدائي. أجبت إذاً فإلى المحكمة العسكرية. 

مرّت الدقائق ثقيلة الى ان رفع الهاتف طالباً من المسؤول عن التحقيق الافراج عن الشاب وتسليمي اياه إذ إنه صغير السن وغرّر به. 

لا أعرف أين صار هذا الشاب الصغير بعد 25 سنة من العمر ووفاة والده. لكن بالتأكيد لا يزال ضميري يؤنبني حتى اليوم من استغلال طيبة قلب “أبو اياد” رحمه الله.