النفي الرباعي 8 – الاستقلال الفلسطيني..

النفي الرباعي 27 مارس 2006 0

 

أحداث كثيرة ميّزت السنوات الخمس التي امضيتها في “النهار الفتاة”. في المسألة العامة كان الصراع الفلسطيني السوري في أعلى درجاته. كذلك المواجهة الاسرائيلية الفلسطينية التي انتهت بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إثر الاجتياح الاسرائيلي في العام 82.

في الصراع الاول تملك ابو عمار رحمه الله هاجس او بالاحرى قرار يريد إثباته يوميا وهو انه ليس هناك من تأثير سياسي سوري على قرارته تحت اي ظرف من الظروف ومهما كانت توجهات سياسة المرحوم الرئيس حافظ الأسد. وصل به الامر الى درجة اعتبار الميثاق العراقي السوري الذي عقد في بداية الثمانينيات انتقاصا من استقلاليته وهجوما على قراراته. 

لم يعد يقيم اعتباراً إلا للشك وعدم الثقة وهو امر لم يكن ثابتا ولا دائما لأي مراقب محايد. 

أمسك بالقرار الفلسطيني الى درجة انه طلب من “الفلسطينيين” ان يخرجوا من قاعة المؤتمرات في الاتحاد العمالي السوري المواجه لفندق الميريديان في دمشق، حيث كانت تعقد جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني في العام 79. فإذا بجميع من في القاعة من كل الفصائل الفلسطينية يخرجون واحداً تلو الآخر بمن فيهم المنضوين تحت لواء المنظمات الصديقة لسوريا. قال كلمته بطريقة جعلت كل من لا يخرج من القاعة ليس فلسطينيا، وقف ابو عمار في منتصف الدرج نزولاً حتى خرج آخر “فلسطيني”. واحد فقط بقي على مقعده مع سيجاره الشهير هو زهير محسن الذي قتل في مدينة نيس الفرنسية، امين عام منظمة الصاعقة الملتزمة للسياسة السورية في ذلك الحين. 

الحدث الثاني وصول الجيش الاسرائيلي الى تخوم بيروت. بقي ابو عمار رافضا الخروج او الاستنتاج السياسي الذي كان يمكن ان يسهل له البقاء لو أراد وهو مبادرة الرئيس الاميركي الاسبق رونالد ريغان، خرج فقط في اللحظة التي اعلن فيها اللبنانيون الحاضنين له ولثورته “لم نعد نستطيع تحمل الحصار”. 

الاخراج تولاه لبنانيا الرئيس صائب سلام من منزله، الذي اصبح مقراً دائما لاجتماعات القوى السياسية المعتدلة بالتضامن والتكافل مع الرئيس تقي الدين الصلح. 

الشيخ رفيق الحريري كان حاضرا ايضا في تلك الاجتماعات بالاتصال اليومي مع صائب بك وبإرساله له مبلغ عشرة ملايين ليرة لبنانية للاهتمام بمواجهة الجانب اللبناني من الاجتياح الاسرائيلي. أراد صائب بك اشراك تقي بك الاشراف والتوقيع على المدفوعات. على عادته هرب تقي بك من المسائل المالية ولكنه توسط لاعطاء مبلغ منها الى سياسي صديق له محتاج. 

علمت متأخراً أنّ الرئيس سلام سلّم الشيخ رفيق لائحة بالمدفوعات واعاد له ما تبقى. كانت الهجمة اكبر من اي قدرة مالية على ايقافها. 

الجانب الدولي من خروج المنظمة تولاه المبعوث الاميركي فيليب حبيب ذو الاصل اللبناني. أما الجانب العربي فتولّت السعودية كالعادة الاتصالات بالفرنسيين والاميركيين كلما تعرقلت عملية الخروج في فاصلة او نقطة او سطر. 

لم يكن ابو عمار ليترك العاهل السعودي، المرحوم الملك خالد ينام، إلا ويوقظه. مرة لفقدان المياه عن العاصمة اللبنانية. مرة اخرى لانقطاع الكهرباء. مرات ومرات في صياغة اتفاق الخروج. حتى قيل من باب التندّر ان ابو عمار قضى على ما تبقى من صحة المغفور له الملك خالد التي كانت ضعيفة في الاصل. 

شهدت مكاتب “النهار الفتاة” جزءا من محادثات الخروج الفلسطيني. إذ ربطتني صداقة بهاني الحسن القيادي والمفاوض السياسي عن منظمة التحرير مع الجانب اللبناني الممثل بالرئيس شفيق الوزان رحمه الله ووزير الخارجية آنذاك فؤاد بطرس ومدير المخابرات جوني عبدو الذي اطلق عليه محسن ابراهيم نجم الحركة الوطنية اللبنانية، لقب “المترجم” بين اللبنانيين والاميركيين. 

أجاد السفير عبدو لاحقا دوره كمترجم وكمفاوض. تعودت زيارته في منزله للغداء. مشاوراً. مناقشاً. مستمعاً. لاشهر قبل الاجتياح. لم انقطع عنه حتى خلال الاجتياح. الفرق انه خلال الاجتياح كانت سيارات المواكبة تأخذني من الخط الفاصل على كاليري سمعان الى منطقة اليرزة حيث اقام طيلة فترة خدمته في المخابرات. 

في العشرين من حزيران. مررت بالموكب الى الاشرفية لاصطحاب الزميل نديم زيادة المقيم في لندن هذه الايام. تابعنا طريقنا نحو المتحف فإذا بحاجز يسمى المشرفون عليه “التيوس” يوقفنا ويطلب من نديم ومني النزول من السيارة. لم امتثل بينما كان العسكري المسؤول عن الموكب لا اذكر رتبته يقنعهم جازما بأنه مسؤول عن ايصالنا الى القاطع الغربي من المتحف. 

لا اعرف كيف جاءتني الحدة بدل الخوف. وصرخت بمسؤول الحاجز اننا سنتابع طريقنا ليفعل ما يريد، مبرزا صورة عدد من النهار العربي والدولي أظهر فيها الى جانب الشيخ بشير الجميل والشهيد جبران تويني وعدد من الزملاء في مقابلة اجريناها معه. 

نجحت الصورة في فتح الطريق. علم جوني بالأمر فوضع المسؤول عن الموكب في السجن لمخالفته التعليمات القائلة بعدم الوقوف على الحواجز المسلحة مهما كان السبب. 

حاول عبدو اقناع ابو عمار بسحب الاسلحة الثقيلة من الجنوب حتى عمق 40 كلم لمنع الاجتياح قبل حصوله بأسابيع. يرافق ذلك ارسال ألف وخمسمئة عسكري لبناني الى الحدود الدولية. لم يوافق ابو عمار بالطبع ساخراً. 

عاد عبدو الى المحاولة لاحقا بالقول انه كلما كان الخروج الفلسطيني سريعا كلما امكن ايقاف الاجتياح. ايضا لم يفلح في اقناع الزعيم الفلسطيني الى ان قرر هو في اللحظة الاخيرة تاريخ وطريقة الخروج من بيروت. 

في اللحظة الاولى للاجتياح كنت اتناول الغداء في منزل السفير عبدو في اليرزة، حيث تظهر مدينة كميل شمعون الرياضية فإذا بالطائرات الاسرائيلية تغير عليها. ارتبكت. اتصلت بزوجتي لابلغها أنني قادم الى المنزل وان لا ينشغل بالها من القصف إذ انه بعيد عن منزلنا، لم تكن قد سمعت شيئا من صوت القصف. إذ ان الاتصال جاء في الوقت الفاصل بين رؤيا العين من اليرزة وانتشار صدى الصوت في المنطقة الغربية من بيروت. 

المفارقة الثانية ان الغداء كان بحضور الرئيس الراحل شمعون الذي نظر الى الطائرات الاسرائيلية تغير على المدينة الرياضية وقال “فليدمروها ما دامت لم تعد لنا” وغادر المكان. 

اتفقنا جوني وأنا ان نرتب اجتماعا في اليوم التالي بين هاني الحسن والشيخ بشير الجميل. بالفعل اجتمعا قبل الغداء في منزل عبدو. اعاد الجميل صياغة الاقتراحات السابقة بالقول انه لا يضمن ولكنه سيحاول جاهداً وقف الاجتياح لو تعهدت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الالتزام بإدخال قواتها العسكرية الى ثكنات باشراف الجيش اللبناني. كما هو الحال في سوريا وغيرها من الدول العربية. قائلا ان لبنان لا يستطيع ان يكون اكثر عروبة في الموضوع الفلسطيني اكثر من سوريا وباقي الدول العربية. لم ننتقل الى طاولة الغداء. هاني اعتبر عرض الجميل جدير بالمناقشة الفورية مع ابو عمار على ان يعود بالجواب خلال الساعات المقبلة. 

بالطبع لم يعد هاني بالجواب لا بعد ساعات ولا بعد ايام على عرض الجميل. فانتقلت المفاوضات الى المرحلة الثانية وهي الخروج الفلسطيني من بيروت. 

جازف عبدو على كفالتي “وأنا المالك فقط لشبابي المبكّر المتهوّر”. جازف بالمجيء الى بيروت الغربية مرات للقاء الزعيم الفلسطيني. كنت ألاقيه في منطقة المتحف وتواكبنا سيارات مسلحة فلسطينية لنذهب الى حيث ابو عمار. مرة في منزل شفيق الحوت مدير مكتب المنظمة السابق في بيروت. ومرة في كاراج تحت الارض في منطقة المصيطبة، المفاجأة انه في مرة من المرات اخذتنا السيارات عشرات الامتار فقط لنجد ياسر عرفات ومعه هاني الحسن في مبنى المحكمة العسكرية. 

الهدف الحقيقي للاجتماعات هو اكتساب ابو عمار مزيد من الوقت لسبب يعرفه هو فقط. أما الظاهر من اسباب اللقاءات فهو تنظيم الخروج الفلسطيني بشروط وضمانات يريدها الزعيم الفلسطيني والتي تحققت بعد ذلك عن طريق البواخر الفرنسية من مرفأ بيروت. 

كان ابو عمار يظهر وداً صادقاً تجاه السفير عبدو. لكنه كان ايضا دائم التوجس من اقتراحاته حتى لو اخذ ببعضها وتبين انها سليمة المضمون والنتيجة. 

السبب؟ 

الوهج الذي كان يحيط بشخصية عبدو مثير للشبهة وجالب للاتهامات. ذكاؤه حاد. سريع الحركة. لا يتوقف عن التفكير والاستنتاج والتقرير. اقترابه من بشير الجميل جعله هدفا سهلا. 

وصلت الحدة لمواجهته حد اتهامه بالمشاركة في التخطيط للاجتياح الاسرائيلي. كنت اقول لابو عمار هو لن يفعل ذلك ليس من باب الوطنية بل احتراما لذكائه السياسي. يسمعني ولا يبتسم ويستمر في طلب مقابلته. تذكرت عندها ما يقوله الرئيس تقي الدين الصلح “ذكاء الانسان لا يحسب له دائما بل يحسب عليه في احيان كثيرة”.