النفي الرباعي 7 – بيّي الياس..

النفي الرباعي 20 مارس 2006 0

 

النهار العربي والدولي تصدر اسبوعياً. يشرف عليها “بيي” الياس. تتعب فيها مجموعة من الشباب: راشد فايد؛ عبد الوهاب بدرخان؛ وديع الحلو، رحمه الله؛ عبد الهادي محفوظ؛ علي حمادة؛ وغيرهم ممن لا تسعفني ذاكرتي بأسمائهم.

المحترفان الشابان عبد الوهاب بدرخان وراشد فايد. عبد الوهاب صاحب نص من الدرجة الاولى. يأتي محتداً الى المكتب ويخرج منه اكثر حدة. لا يهم ان يعرف الآخرون السبب. يكفي ان يعرفه هو. مبدع في عنوان الغلاف. يختار الصورة بعناية العارف القادر. حاضر للمعارك السياسية في اي وقت قبل ان ينقل غرفة عملياته وأطباعه للعمل في “الحياة” في لندن. 

راشد يقسم وقته بين إتقان عمله. دراسة أناقته. تدبيج كتاب استقالته من العمل، على حد اتهام ساطع نور الدين، صديقه وزميله. يهوى التنقل بين بيروت وقبرص وباريس، الى ان انتهى فرنسياً مع عائلته التي نشأت إثر صدور قرار من الصبية السمراء فاديا الشرقاوي بوضع يدها عليه. 

عاد الى بيروت منذ سنوات ليقع في وادي سوليدير بناء على اقتراحي. استبدل راشد وادي الذهب ووادي الفضة ووادي البرونز والوادي الصيداوي العميق. استبدلها بوادي الورق الأبيض الذي كتب عليه استقالته مرغماً. ثم انتقل الى “جانبي الموجع” في المكتب الاعلامي للرئيس الشهيد رفيق الحريري فناله من الوجع جانب. هنا قسّم وقته بين العمل والأناقة. الاستقالة تولاها عنه هذه المرة الأمن السوري الذي اصر على اغلاق المكتب والاطباق على انفاس من فيه. في هذا كنت أنا “الرائد”، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. 

تُسجَّل لراشد محبته العبوسة لاصدقائه وحرصه الدائم والاكيد على كرامته الشخصية والمهنية في كل الظروف، خاصة الصعبة منها. 

علي بك الصغير الذي تدرج ليصبح علي بك الكبير من دون مساعدة شقيقه مروان حمادة، عمل بجدية ونهم لتدريب نفسه وتطويرها الى ان استحق لقب البك الكبير. ما وصل إليه مهنيا ليس اقصى طموحه بانتظار الوقت المناسب.

هذا لم يمنع من الاستنجاد بالعماد فكتور خوري، قائد الجيش في ذلك الزمان، بناء على طلب والده محمد علي بك، الدبلوماسي حتى آخر لحظة من حياته، رحمه الله. 

كان علي بك قد غاب لساعات طويلة في البحر على حسكة مستأجرة من السان جورج، المسبح العريق. طارت هليكوبتر عسكرية للبحث عنه لتجده غارقاً في “بحر الغرام” من دون ان يعنيه ما إذا كانت الشمس قد غابت ام لا. لم يقتنع معي بكتابة مقالة عن الغارق بين الغرام “البري” والغرام “البحري”. 

إلى يساره يقف المرحوم وديع الحلو المستقيم الرأي في ارثوذكسيته وفي حزبيته. يدافع عن سوريا الكبرى بحدة وتأكيد وصمت في معظم الاحيان. كان يُشعرنا دائما بأنه يدور في رحى القضايا الكبرى. لا وقت عنده لتفاصيلنا. تنقّل في مجالات العمل لكنه بقي دائما على احترامه لصمته. 

“آية الله” عبد الهادي محفوظ، وهو اللقب الذي اسميه به حتى الآن، رغم رئاسته للمجلس الوطني للاعلام، استحق لقبه من كثرة حماسته للثورة الايرانية في بدايتها. 

هواية عبد الهادي هي الحديث الهامس. اذ انه ما ان ينتقل الى الجانب المهم في حديثه حتى يعتمد الهمس. يحدث هذا مع صديق او مع سياسي كبير. يريد دائما ان يكون الحديث بين اثنين لا ثالث لهما. هذا لا يعني انه يتناول الغائب بسوء. أبداً. لكن الطبع يغلب التطبع. 

يمثل في عقله مشروعاً انقلابياً على التقليد السياسي. احتار طويلا في تنفيذ هذا المشروع ووسائل تحقيقه، وعاد ليدور حول التقليديين من دون ان يلتزم بهم. يشعر بأوجاع الآخرين دائما، وتظهر على وجهه علامات التأثر بسرعة. لذلك تجده منكفئا على نفسه معظم الاحيان هربا من الاوجاع. 

أخذت قلبَه منذ تلك الايام طفلةٌ صغيرة. تزوره في المكتب بانتظام حتى اصبحت زوجته وأم اولاده ومحامية رصينة ومحترفة ايضا. استطاع “آية الله” هنا ان يحقق جزءا من ثورته، اذ ان لمياء من غير طائفته وعرقه ومنطقته، وان كانت من ألوانه. 

ما هي إلا اشهر حتى يأتي جبران من باريس كالعاصفة. يريد تغيير كل شيء: المجلة والمحيط والوطن. لا يكفيه ما في جيبه، ولا ما في عقله، ولا ما في صبره، لتحقيق كل ما يريد. كان دائم المحاولة، كأنه ولد مع الثورة. اطلقت عليه لقب “الأباتي” في تلك الايام للفت نظره الى انه ليس كل من حوله “مستقيمي الرأي” مثله. يضحك ويتابع هجومه لتصحيح الوضع المسيحي. 

رحم الله كل نسمة من عاصفته التي استمرت حتى لحظة اغتياله. 

بين مبنى النهار “الفتاة” ومبنى الأم يداوم ادمون صعب في الطابق الاول من مكاتب مخصصة لاصدار مجلة “ريدرز دايجست” الشهيرة باللغة العربية تحت اسم “المختار”. 

لم تكن تهمني المجلة بقدر ما لفت نظري ادمون. إذ ان اصدار مجلة من هذا النوع يحتاج الى دقة شديدة. ليس في ترجمة المواضيع فقط، بل في الجزء المحلي الذي يكتب في بيروت. كل هذا يحتاج الى سحر في الاسلوب يطابق ما هو مكتوب بالانكليزية إن لم يتفوق عليها. فضلا عن ذلك يمنع منعا باتاً حدوث اي خطأ مطبعي او لغوي او غيرهما من الاخطاء المتعارف على حدوثها في الصحافة العربية لأي سبب من الاسباب. 

كل هذا يقوم به ادمون بنجاح ودقة وعبوس يقترب من جبين قائد ثكنة عسكرية يسودها النظام والانضباط. 

كنت آخذ مقالة اعتقد انني “ابدعت” فيها بعد صدورها، الى ادمون اطلب تعليقه على: اللغة؛ الاسلوب؛ التماسك في النص؛ علني استفيد من دقته. 

يقول ادمون رأيه، عابساً. يتهرب من قول الحقيقة “الجارحة”، إنما بلطف. اعود الى مكتبي واستنكف عن سوال ادمون، رئيس تحرير “النهار” الآن، وكاتب المقال كل يوم جمعة يذكّر فيه السياسيين بماضيهم وينذر مستقبلهم بعبوسه. لا اعرف ما إذا كنت قطعت امتحاني المهني معه مؤخراً. لكنني اكتشفت انه زحلاوي. فكيف لمن اتى من عروس البقاع، حيث إلهة الخمر على مدخلها، ان لا يكون سكيراً، ضاحكاً، شاتماً، عاشقاً، مضيافاً، محباً للغرباء؟ الجواب عند امون صعب وليس عندي. 

وجدت نفسي مستقراً، منتشراً، مشاغباً، قادراً، فرحاً، الى ان تأكد القدر. 

كان القدر ينتظرني منذ سنتين حين خرجت من فندقي الاول لالتقي صبايا ثلاثاً. اعرف واحدة منهن، تعرفني الى صديقتيها فإذا بإحداهن عائدة من باريس حيث كانت تقيم واشتهت قطعة حلوى من المحل الشهير في شارع العيش المشترك. صرت أنا مشتهياً للحديث عن باريس وشوارعها. بدأ الحديث ولم ينته بعد. 

صبية هادئة، نازلة من سلالة الأمة البيروتية العظيمة كما يعتقد البيارتة أنفسهم. قابضة على نفسها وعلى اشقائها في منزلهم بعد غياب والديها. كلما افتقدها اجدها في المنزل في حي بيروتي قديم مليء بالخير والطيبة. لا اعرف كيف وجدت نفسي وسط هذه العائلة المستقرة الهادئة. حين انتبهت كان قد فات الاوان. اخبرتها بأن ارتباطها بي رسميا سيعكر هدوء الحي وليس منزلهم فقط. اكدت لها ان في عملي اخطارا كثيرة لا تنسجم ونمط حياتها. قلت لها انها ستندم لو اصرت على رغبتها. اشتكى كبار أهلها من سلوكي النسائي المنتشر في المدينة. 

لم ترتدع إلا وأنا مخطوف من الفندق الى منزل الزوجية في الروشة اطالب بمزايا الخدمات الفندقية اليومية. 

الآن احصل بالكاد على الخدمات المنزلية. إذ انقسم الجهد الى اربعة: ثريا وصالح وديما اولادنا وأنا. لم نعد في الروشة حيث أرى المنزل كلما عدت بالطائرة الى بيروت. 

أهل زوجتي لفّوها بالقطن كي لا يصيبها الغبار. فإذا بها تعيش وسط العواصف التي أنذرتُها منها منذ البداية: تهديد؛ نفي؛ صعود؛ هبوط. 

تأخذ قرارها بالندم كل عشر سنوات. غالبا ما تُقنع نفسها بأنها على حق. ولكن من قال ان الحق هو الجواب النهائي والاكيد عن الاسئلة؟ 

الستّ نفيسة تمسك بالحاجة الكبيرة. من هناك تأتي التعليمات وعليّ أنا التنفيذ. 

التنفيذ يُقصد به ضبط عقال تصرفاتي حتى لو كانت راكدة لا تتحرك. 

ما زلت واقفاً في محطة القدر. لم اجلس منذ عشرات السنين. احاول معانداً اعادة انتاج نفسي بعد كل سقطة كبيرة، وما اكثر السقطات السياسية. هل تعرفين عنوانا آخر غير محطة القدر أنتظر فيه؟