النفي الرباعي 5 – جمهورية رأس بيروت..

النفي الرباعي 03 مارس 2006 0

 

انتهى النفي الأول بقليل من الجروح وكثير من الإصابات غير الظاهرة. عوّدت نفسي على إخفاء الاصابات. شاب صغير في السن مثير للحسد لما يفترض الآخرون من قدرته على الفعل. فإذا به يتحمل اصاباته بفرح. لا يستطيع إصدار بيان عن وجعه. لن يصدقني احد. كنت دائما اكبر من عمري بعشر سنوات واكثر من قدرتي بعشر مرات. لم تكن هذه حقيقة بقدر ما هي اوهام الآخرين عني.

اكتفيت بقليل من كلمات التشجيع من اصدقاء قلّة. افتخرت ببعضها خاصة حين تأتي من صبايا حي العيش المشترك. كان حياً نموذجياً من دولة رأس بيروت المفعمة بالأناقة واللياقة والشكل الحسن. فيه المكتبة التي يصطبح مالكها وموظفته الحلوة كل يوم بالصحف وبآخر المنشورات الدولية كأنه خارج ما يقال عن حرب على خطوط التماس في بيروت. في الحي ايضا واحد من أرقى محلات الباتيسيري تأتي إليه الناس من كل حدب وصوب. المستشفى الصغير الاشهر في المدينة. الفندق. المقهى. البار. السوبرماركت. فرن الخبز. محطة البنزين. تستطيع ان تعيش فيه لوقت طويل قبل ان تفكر بالانتقال الى الشارع الآخر. فكيف إذا حرصت صبية في الحي على الاعتناء بك. تكرر على مسمعها بطولاتك الوهمية فتحرص عليك اكثر، الى ان يقع جسر الوهم بينك وبينها فتعود من حيث أتت. 

جلست احصي خسائري. اولا صاحبة العينين الزمرديتين التي اسميتها المرجة الخضراء. ثانيا عروس الحي التي ذهبت الى والدتها في اميركا لتكمل تعليمها. ثالثا فقدت عملي متحولا الى متسكع كثير الحضور، قليل الفعل.

فضلت المرجة الخضراء حياة باريس الآمنة. التزمت عروس الحي بالتعليمات القادمة من وراء البحار. فضّل اصحاب المؤسسات الاعلامية الحذر من انضمامي الى واحدة منها، بعضهم حذراً من الموقف السوري من كتاباتي، وآخرون هرباً من الصفة الفلسطينية لصداقاتي السياسية. 

الخسائر الثلاث لا تعوّض. الاولى والثانية تُفتديان بجائزة ترضية من صبايا الحي. الثالثة علاجها الصبر. فلا سنّي المبكرة ولا قنوات تفكيري، تشجعني على التنازل سياسياً عن صداقاتي أو حتى على الاهتمام بالحذر السوري من كتاباتي. 

مرت اشهر طويلة على هذا الحال، الى ان ارتأى مروان حمادة الزميل في ذلك الحين التدخل مع ادارة “النهار” لانضمامي الى أسرتها. لم يكن الامر سهلا مع “راهب” النهار فرنسوا عقل رغم صداقاتي المنتشرة في الصحيفة وعلى رأسها المعلّق الكبير ميشال ابو جودة، رحمه الله. 

من لا يعرف ديوان ميشال ابو جودة في الطابق السادس من مبنى “النهار” في شارع الحمراء تنقصه معرفة تاريخ الحركة السياسية العربية في لبنان والحركة السياسية اللبنانية في العالم العربي. كان للديوان المحدود المقاعد، دوامان: الاول قبل الظهر والثاني من الخامسة مساء حتى موعد العشاء الذي كان ميشال يتناوله وحيداً في الفندق الذي عاش فيه سنوات طويلة، اي الكارلتون. 

نادراً ما فرغت المقاعد قبل الظهر او بعده. كل الشؤون والشجون اللبنانية والعربية مطروحة على طاولة متواضعة في مكتب متواضع يجاوره فيه الرسام الناطق بالحقيقة كل يوم بيار صادق، الذي لا يزال على ضوئه شكلاً ومضموناً ورسماً. 

كل اجهزة المخابرات المعنية بالمواضيع المطروحة للبحث تأتي الى الديوان إنما ليس بلباسها الرسمي بل بثياب تتغير ألوانها من مخبر الى آخر. 

كل السياسيين دون استثناء يعرفون كراسي الديوان: زوّار المدينة. مقاتلوها. مدنيوها. مفكروها. دبلوماسيوها. كلهم يريدون قراءة مقالته ليلة صدورها. يرون فيها اشارة السير السياسية للمنطقة، او على الاقل هذا ما يوحي به ميشال لسامعيه. 

لم تكن شخصيته المهذبة بترفع واللائقة، توحي بأن هذا الكاتب خاض حربين في وجه اشرس نظامين في المنطقة: الاولى في وجه فؤاد شهاب الامير اللواء، حاكم البلاد والعباد بذراع المخابرات اللبنانية. وانتهت بضربة موس على وجهه في ساحة الشهداء. بقيت علامتها على وجهه حتى اليوم الاخير من حياته. لم تمنعه هذه العلامة الساكنة في وجهه والتي يلمسها بيده اليمنى بينما ينحت باليسرى كلماته على الورق قبل وصول ضيوف الديوان، لم تمنعه من خوض معركة اخرى في بداية الحرب اللبنانية على النظام السوري، ما استوجب خطفه على ايدي الاجهزة السورية. تدخل كمال جنبلاط فذهب الى الرئيس حافظ الأسد مباشرة مطالبا باسترداده فوراً. بالفعل سلمه الأمن السوري على الحدود الى انطوان دحداح، المدير العام للأمن العام في عهد الرئيس سليمان فرنجية والسفير والكاتب بعد ذلك. 

لم يترك ميشال لغيره ان يضع عنوان عدد اليوم التالي من “النهار”، فكتبه بخط يده “جنبلاط يسترد ابو جودة من فم الأسد”، رغم ان اتفاق الافراج عنه ينص على لفلفة الموضوع. 

جعل ميشال ابو جودة من نفسه ومن الطابق السادس اسطورة يفرح غسان تويني حين يمر لمشاركته الحوار مع الجالسين في الديوان. 

قيل الكثير من الحكايات والروايات والأسرار التي كان ميشال يختلي بصاحبها في مكتب بيار صادق. لكن الاكيد ان في رأس ميشال ابو جودة الصغير دماغاً استطاع متابعة قوى التغيير في لبنان والعالم العربي بشفافية ناطقة صباح كل يوم من اعداد “النهار”. لم يكن “الانترنت” قد غزا العالم لكنه كان يتصرف على ان مقاله يُقرأ في كل العواصم العربية. 

كثير من كبار الصحافيين اللبنانيين اليوم الذين كانوا يصعدون سلّم مهنيتهم كانوا يسعدون بأن يجلسوا الى كرسي ميشال ابو جودة لينص عليهم مقاله اليومي. 

منذ ثلاثين سنة وقف ميشال ابو جودة في الصباح الباكر على رصيف “الهورس شو”، المقهى التاريخي في شارع الحمراء، ليقول وهو ينظر الى بلاطة الرصيف المربعة: لا حل للاشتباك اللبناني السوري إلا بلبننة سوريا. اقتصاد حر. ديموقراطية سياسية. حرية عامة. 

هذا كان قبل اغتيال “ضمير” قصير صاحب الابتسامة الساحرة الذي يكتب بالسكين و”الأباتي” جبران تويني صاحب الصرخة الشعبية الدائمة، بكثير. لم تتحقق نبوءة ميشال ابو جودة في حياته. لكن الكثير من اللبنانيين الآن يرون نظرته نفسها. 

أخيراً نجح مروان حمادة بالتضامن والتكافل مع ميشال ابو جودة بضمي الى أسرة “النهار” الفتاة، اي “النهار العربي والدولي” الاسبوعية، لا “النهار” الأم اليومية.