النفي الرباعي 4 – آخر الرؤساء المحترمين..

النفي الرباعي 27 فبراير 2006 0

 

مرت عليّ الأيام والاسابيع والاشهر طويلة في باريس. انتقل الى لندن بين فترة وأخرى لمناقشة ومتابعة الجهد الذي يبذله علي بلّوط لإصدار مجلته “الدستور” من لندن. تقوم زوجته ساميا بجهدها في التكريم. تقوم أكثر بإدارة المناقشة حول إصدار المجلة. فوق ذلك تشرف شخصياً على تصفية الأمور المالية لما تبقى في بيروت من أشخاص ومؤسسات حيث يمكن للحدّة في الحساب أن تتدخل في وسائل الحل. تقدر على كل ذلك وفوقه على نشأة أولادهما بأحسن مما يمكن للانكليز ان يرغبوا.

سجلت اسمي في لائحة العائدين الى بيروت في أول فرصة متاحة، بالتالي لا يحسب أحد حسابي في كرسي انكليزية لطاولة إيطالية في لندن. 

فجأة، بعد أشهر من منفى كثير النشاط لفتى في عشرينه من العمر، يأتيني اتصال من بيروت من صديق فلسطيني مسؤول يبلغني فيه إمكانية عودتي الى بيروت، إذ ان الجيش السوري عاد الى بيروت بتفاهم مع الفلسطينيين وبقرار من قمة عربية عقدت في القاهرة. 

وافق الرئيس الياس سركيس، رحمه الله، على ما سُمّي في حينه بقوات الردع العربية. الرئيس حافظ الأسد أبلغ القمة ان للدول العربية ان ترسل ما تستطيع من القوات الى لبنان وهو يتكفل بالعدد الباقي. بالطبع كانت المشاركة العربية شكلية والباقي كله من الجيش السوري. 

فاجأ الرئيس المصري أنور السادات العالم بزيارته الى القدس، فوجد الرئيسان حافظ الأسد وياسر عرفات أنهما ملزمان بالحفاظ على مواقعهما على الاراضي المحسوبة على الخريطة السياسية الأميركية أي لبنان. 

الأول أي السوري يصل وجوده الى جسر الاولي على مدخل مدينة صيدا ويبقى هناك حتى خروجه من لبنان في العام 2005. 

الثاني اي الفلسطيني ينتشر حيث يستطيع الوصول حتى خروجه من لبنان في العام 1982 إثر الاجتياح الاسرائيلي. 

للبنانيين المسلحين ان يختاروا على مَن يطلقون النار! 

الدولة وعلى قمتها الرئيس الأنزه والأعقل والأحكم في تاريخ لبنان، اي الياس سركيس، تحاول التقاط حصتها من الجميع. يتولى ذلك وزير الخارجية الاسبق والأبرز فؤاد بطرس ومدير المخابرات العسكرية والنجم السياسي لاحقاً السفير جوني عبدو. 

وجدت نفسي محمياً وسط هذا المثلث من القوى، ليس بسبب صداقاتي الفلسطينية فقط بل قبل ذلك بفضل قناعاتي اللبنانية التي وجدتها في الرئيس سركيس والوزير بطرس والسفير عبدو. 

اشتقت الى فندقي في الشارع المعتم من بيروت وأنا أمشي في المدينة المضاءة بأجمل ما يمكن الاضاءة أن تكون في الأعياد اي باريس. 

عدت الى بيروت بعد خمسة أشهر الى الفندق نفسه، الجناح نفسه، الوجوه نفسها، نكهة الحي الممتلئ ببيروتيته المختلطة. عروس الحي تمر يومياً مرات أمام مدخل الفندق. تنظر يميناً الى البهو كما يمشي العسكر في الاستعراضات ورؤوسهم تلتفت نحو منصة الرسميين. 

هي صبية صغيرة ممتلئة زهواً بجمالها وانتصاب قامتها المتناسقة تمشي استدارة. تلتصق ساقها بالأخرى في كل خطوة. لا يكفيها الحي لغزل عينيها الملونتين. لا تعرف اي لون فيهما الأقوى الأخضر ام الأزرق. خبراء الألوان يعرفون اسما لهذا المزيج، أنا لا أعرفه، يكفيني أنني أراه وأتفاهم معه. 

لا تبتعد عروس الحي في مشوارها عن دائرة صغيرة، إذ ان جدّيها القادمَين من قرية من آخر الحدود الجنوبية للبنان لا يسمحان لها بالابتعاد عن حي التعايش اللبناني بفضل وجود مركز للحزب القومي على طرف الشارع. 

لم تجد العروس الجريئة حتى الجنون غيري “عاطلاً عن العمل” للاهتمام بلون عينيها. حين تحادثنا لدقائق اكتشف كلانا ان كلاً منا مشروع قديم للآخر تأخر تنفيذه حتى المحادثة الأولى. 

بعدها لم يعد من الضرورة تحديد المواعيد إذ إنها دائمة. صغيران يلعبان لعبة إشعال حطب علاقتهما يومياً. 

توقظني يومياً في الصباح المتأخر، تنزل الى الغداء المتأخر أكثر، تتأكد من الدخول المتأخر جداً إلى غرفتي. 

لم أكن أعلم أن جدها يجلس ليلياً على شرفة منزله يدخن نارجيلته الممتلئة والوالعة من الفحم والقهر. أنا من غير طائفته. حفيدته مسؤوليته في غياب والديها، وهي تفقد حاسة السمع عندما يكون الحديث متعلقاً بي. تكمل تمردها، يستضيف الجد أصغر أصحاب الفندق نديماً مسائياً، يلاحظ عليه رغبة في عروس الحي، يشجّعه عليها، يتجرّأ عليها ذات مساء وهي في بهو الفندق تنتظر نزولي. يقرأ عليها سطراً في الأخلاق الطائفية إذ إنه من طائفتها نفسها. أصل اليها، فأجدها تبكي. وجدت نفسي اندفع نحو الشريك في الفندق، الطويل، العريض، الثري. 

كان جالساً، فصرخت فيه أن يقف، وضعت يدي على خصري، اعتقد أنني سأسحب مسدساً. وقف وهو يتأتئ بكلمات غير مفهومة. كانت الصفعة الأولى على وجهه وتهديدي له بأنني سأجعل مياه البحر تصعد الى السماء لو ألقى عليها السلام. 

غادرت الفندق للعشاء، وقعت في مشكل أكبر، أصبحت بطلها!! حاولت أن أقنعها أنني لست الشجاع الذي تعتقده بل إن الآخر هو الخائف من قوى عسكرية وهمية تنتظر أوامري للتحرك. 

“تجلس إليك، تجلس بقربك، تجلس فيك، تضع قلمها في شعرها المنتشر مثل شجرة افريقية، تضحك هي من منظرها، أنت لا تتجرأ، تومئ لك بألا تخاف، فهي على طبيعة الخالق، ترمي عليك دلعها، تمسك أنت بطرفه، تأخذ منك ما أبقته لك من نبض، فتعطيها لهفتك كلها، تستمع إلى نبضها فتجده كله لك”. 

ما الذي أتى بهذه الأسطر الى هنا؟ الجارحة الجريحة، القاتلة القتيلة. كيف لها أن تضع أشهراً من التناقضات حجراً على السنوات. ألا تفرّق بين مَن تحت الحجر ومَن يقف عليه. ما بال قلمي يذهب الى حيث لا يجوز ان يكون؟ كم مرة يريد أن يثبت أنه ما اعتاد انسياباً إلا عنها؟ 

أُسرع في العودة الى عروس الحي، ليس لجمالها فقط بل للضوء الذي في تاريخها. صارت تلازمني ليلاً نهاراً، إلى أن نجح جدها في إنقاذ “طائفتها”. أرسلها الى أميركا حيث والدتها لإكمال دراستها. 

لا زالت على تناسقها حتى اليوم، زادت خفّة دمها، باقي المعلومات يدخل في دائرة الحظر.