النفي الرباعي 3 – الفضل للرباعي..

النفي الرباعي 20 فبراير 2006 0

 

هدى تروي ما عندها بأسرع من القدرة على الفهم. فكيف بالدقة؟

المهم حسب رواية زميلة الغداء أن الخطوة الاولى التي قامت بها هي إبلاغ السيد حسين الحسيني الصديق الدائم منذ تلك الأيام. القيمة الدائمة والجدّية في الحياة السياسية اللبنانية. كان يقيم في عرمون والجغرافيا تساعده على التدخل لتقارب المواقع بين منزله ومكان الاعتقال. 

لم يوفّر السيد حسين جهداً في الاتصال بمن يعرفه من القيادة السورية. وجد التجاوب مع مسعاه أقل ما يطمئنه. في الليلة نفسها زاره الإمام موسى الصدر “رد الله غربته” في منزله فلم يتردد بالطلب إليه التدخل في المسألة. 

يقال والعهدة على الراوي إن الإمام الصدر قام شخصياً بزيارة القائد العسكري السوري للمنطقة فأنهى بذلك أي احتمال بالتعرّض تحقيقاً او تساؤلاً أو إهانة من النوع الذي كنت أراه على زملائي في غرفة المعتقل. فعل ذلك بانتظار أن يستصدر أمراً بالإفراج عني من دمشق حيث صدر أمر الاعتقال. 

وعد الإمام الصدر السيد حسين بفعل ذلك في أول زيارة خلال أيام قليلة الى دمشق. 

وأنا اسمع رواية هدى ابتسمت متذكراً أن لي شفاعة في منزل السيّد حسين لا ترد. السيدة أم علي صاحبة بوابة البيت المفتوح لزوجها. تفرح بضيوفه وكأنهم من أهل البيت. 

أكملت هدى. تذكرت صديقك السوري كمال مطر. أرسلت له خبراً مع صديق لي الى دمشق. 

إلى هنا تنتهي رواية هدى. ينادونني للرد على اتصال هاتفي. فإذا بكمال مطر على الهاتف يهنئني بالسلامة، ويعدني بلقاء قريب في بيروت. 

السؤال الاول الذي وجهته إليه كان عن الهاتف الرباعي. ضحك حتى ارتعدت أشرطة الهاتف. هو يفعل ذلك دائماً. كثير الاندفاع. كثير المحبة. “لاذقاني” أصلي. تسكنه العروبة. يقسم بصليب أرثوذكسيته كما يقسم بعروبته. كلاهما يتساويان عنده. 

“الرباعي هو الذي أفرج عنك. إنه الهاتف الداخلي بين قادة القطعات العسكرية وبين كبار المسؤولين”. أكمل كمال “علمت باعتقالك متأخرا ذهبت إلى رئيس الأركان حكمت الشهابي في غرفة العمليات في وزارة الدفاع. لم اتركه إلا وهو يعطي امر الافراج عنك بنفسه بحضوري”. 

لم استغرب ذلك من كمال. فهو لا يترك عملاً يؤدّيه إلا ويكون الطرف الآخر قد امتلأ بضجيج محبته فينفذ ما يطلبه “أبو عمر” وهو لقب كمال بين أصدقائه. 

بدأ كمال حياته حزبياً. أكملها صحافياً. استقر صناعياً. فعل كل ذلك باندفاع العاشق دون أن ينتقص ذلك من حصة أم عمر عشقه الدائم وصيدلانية اللياقة المطلقة. 

هدأت الدنيا في عينيّ. عدت الى “الشغب” الدائم كتابة. علي بلوط في لندن. يزور بيروت خطفا مع زوجته ساميا. لا تتركه ينفرد بالخطر في بيروت. تشرف على إدارة المجلة كما تفعل في حياتهما. 

النجاح هنا نسبي. إذ ان ازدهار “الشغب” كتابة يتوقف. 

يدخل الجيش السوري مجددا الى بيروت باتفاقات سياسية لبنانية وفلسطينية. “تزور” عناصر الأمن السوري مكاتب المجلة وغيرها من المطبوعات السياسية المعارضة تكسر هنا مكتبا. تحرق أرشيفاً هناك. 

أصمد في الفندق. تلحّ “المرجه الخضراء” عليّ بالسفر الى باريس. أرافقها الى المطار فقط. تعدني بالجنّة لو لحقت بها. 

ثلاثة أشهر من الأوهام. حصار. إشاعات. أقاويل. المطار مغلق. لا أجازف بالسفر من مطار دمشق. لم اجد نفسي إلا في صيدا اركب باخرة نقل صغيرة. شكلها ينبئ بالغرق من النظرة الاولى. 

الاتجاه الى قبرص حيث السفر الآمن. طرّاد اسرائيلي يعترض طريقنا في عرض البحر. يسأل قبطان “باخرتنا” ما اذا كان معه عسكريون فلسطينيون. يجيبه قبطاننا الصيداوي نفياً. نتابع الطريق. نصل الى قبرص في آخر النهار يملأنا البحر تعباً. 

من قبرص الى باريس. حيث ينتظرني صديقان. وضّاح فارس يلبس نظارات من دون زجاج تأكيداً لغرابته. يملك منزلاً باريسياً ولكنه يقيم في فندق “الفندق” في شارع الفنون الجميلة من الحي اللاتيني في باريس. لا لشيء إلا للمزيد من الغرابة. 

الآخر خير الله خير الله يفرح لخروجي من بيروت بكلمات متقطعة. ليس بالضرورة ان أدركها كلها. 

غرابتان مترافقتان تأتيان بمغادر لبيروت الى فندق الذوق الخاص في باريس. صاحبه يتباهى بقرط ألماسي كبير في أذنه. مطعمه تخترقه شجرة عملاقة. جذوعها في الأرض وفروعها تخترق سقف المطعم. لكل غرفة من الفندق ذوق خاص. لا تشبه الواحدة منها الاخرى. 

الاتصال الاول “بالمرجة الخضراء”. أردت مفاجأتها. بدت فرحة إنما بحذر الاستقرار. تخيلتها خائفة على أمانها الباريسي. هذا قدري. الأخريات يقررن نهاري وليلي. بعضهن حياتي ايضا. 

احتفال اللقاء الأول بعد غياب. كثير من العواطف والقليل من الكلام. لم تتوقف الاحتفالات لأيام. بعدها جاء دور الكلام. صدق ظنّي. قالت لي. لا اريد ان أُحرم منك مرة اخرى. لا زلت حتى اليوم ارتجف مما حدث امامي على حاجز خلدة. تبقى في باريس أنا لك. تعود الى بيروت تشطبني من حياتك. لا أقوى على المغامرة التي تعيشها. مهما كانت قضيتك فهي ليست أغلى من أمانّي معك. 

هدّأت من روعها. قلت لها إنني خرجت من بيروت بسبب تهديدات لي غير مؤكدة ولا أعرف متى سأعود. التطورات السياسية هي التي تقرر موعد عودتي فلماذا استباق الامور؟ 

لم تقتنع. ازدادت رقّة. لبست أجمل ما عندها للعشاء. أضاءت على أحلى ما فيها. تطوّعت كما لا تفعل إلا امرأة تحبّ. 

استفقنا صباحاً. أقرأ الصحيفة وأتحدث عن بيروت. كان الصباح الأخير لنا سوياً. أنا أذهب إلى بيروت كل يوم صباحاً بعقلي وهي المقيمة الدائمة في باريس. 

الفضل “للهاتف الرباعي”…