النفي الرباعي 20 – اللغة تشكر أمير المياه..

النفي الرباعي 03 يوليو 2007 0

 

فاجأني تحسين خياط بأنه يحتفظ بالرسالة التي كتبها تقي بك وبجواب الشيخ زايد بن سلطان رئيس دولة الامارات رحمهما الله.

قرأ تقي بك في الصحف ان الشيخ زايد تبرّع لإعادة بناء سد مأرب في اليمن، وهو السد الذي يقال إن قبائل العرب توزعت منه على الدول العربية، كما تسمّى الآن، وذلك بعد انهياره وغياب الخير منه ومن حوله زراعة ومنازل ومعابد في العام 400 قبل الميلاد. وهو اليوم مرفق سياحي مهم تقع بالقرب منه آثار قديمة وجميلة لمعابد يمنية لإله الشمس وإله القمر وعليها كتابات سبأية رائعة. 

قرر تقي بك التشاور مع تحسين في كتابة رسالة الى الشيخ زايد يبارك له بهذا التبرع في العام 1987 

بدأ الكتابة ولم ينهها إلا بعد أسابيع على عادته، سلّمها لتحسين الذي ذهب إلى ابو ظبي مسلما اياها الى أحمد خليفة السويدي، الوزير وكبير المثقفين في حينه. جاء الجواب بعد شهرين. كان واضحاً ان كلاهما حرصا على الكتابة حفراً. كتب تقي بك: 

أخي صاحب السمو أطال الله بقاءه، 

تحيات مباركة ابعث بها اليك لتعبر عن مشاعر الود العميق الذي اكنه لك، والمنزلة العالية التي لك في نفسي ولا تزيدها الايام الا علواً. 

وبعد، فلقد كان بدء معرفتي حبك للماء والخضرة والزراعة يوم تشرّفت بتمثيل لبنان في عيد جلوسك في 6 آب (اغسطس عام 1969). وأُتيح لي اثناء تلك الرحلة ان ازور مدينة العين واشاهد فيها آثار يدك، وقد حولتها واحة ظليلة بل جعلتها جنة غناء وسط دنيا مترامية الاطراف من الرمال والصحراء. 

ثم لمست حبك مرة اخرى للماء والخضراء وشغفك بالزراعة يوم زرتك في ابو ظبي سنة 1973 وكنت يومئذ رئيساً للوزراء وعرضت عليك مشروع “الليطاني” فلبّيتني دون تردد وخصصت لبنان بمبلغ يحقق ذلك المشروع. لم يتسلّمه لبنان بسبب ظروف الحرب. ذلك المشروع الخطير الذي لو تمّ لكان في ميزان القوى بمثابة انتصار كبير على إسرائيل الطامعة في مياهه. ولكن لا بدّ من يوم تنتهي فيه الحرب ويعود المشروع ينفذ بمؤازرتكم، إن شاء الله. 

ثم جاء سد مأرب الجديد، الشاهد الثالث على ذلك الإدراك الرفيع لأهمية الزراعة وتأثير المياه وحسن استعمالها في حياة الشعوب وتقدّم الامم. 

كثيرون مثلي الذين لم يهزهم عمل عمراني، كما فعل احياء سد مأرب، لكثرة ما حفل به من المعاني. هنالك مشاريع ماء وري كثيرة وسدود وبحيرات كبيرة وصغيرة أنشئت في عالمنا العربي حديثاً. ولكن ما من مشروع له من المعاني ما حفل به سد مأرب الجديد. قد يكون ثمة أكبر منه وأهم من الناحية الاقتصادية. ولكن ليس بينها واحد كسد مأرب هو إحياء تراث وبعث مجد وتجديد حضارة. فهو يذكّر بماضي شعب بلغ القمة بل أعلى القمم في الحضارة وتبوأ اعلى الذرى في الرقي والبحبوحة ورغد العيش والرفاه، وهو صرح له في التاريخ شهرة الاهرام وبابل وايوان كسرى، والبتراء، وعجائب الدنيا السبع. واقترن اسمه بسليمان وبلقيس وورد ذكره في القرآن الكريم. 

ودارت على سد مأرب، وعلى سبأ، دائرة الزمن الاولى فوقعت بشعبه الواقعة وحلت به الكارثة وانهارت مع السد حضارته ودمرت حياته وانقلبت اليمن السعيدة الى يمن تعيسة بائسة. وبات عمرانه وجنّتاه اثراً بعد عين. 

واذا الزمن، بعد ألوف السنين يدور دورته الثانية فيبعث سد مأرب من العدم وتتدفق منه المياه فتخضوضر الارض وتتلألأ الصحراء بالمزارع والجنائن والازهار والثمار بفضل الشيخ زايد. 

لقد تابعت اخبار المشروع في مختلف وسائل النشر فوجدت انه لم يعطَ حقه الكامل. لانه أُعطي حجمه المادي والفني. وغاب حجمه الثقافي ومعناه الحضاري والتاريخي. هذا مع العلم ان كل انجاز حضاري، وحربنا مع اسرائيل حرب حضارية، هي بمثابة معركة رابحة ضد إسرائيل وكل اعدائنا، وانتصار عسكري ضخم يستحق صاحبه التخليد اكثر مما يستحقه قادة الحروب. كان بعض هؤلاء القادة يفاخر بأنه حيث تطأ سنابك خيله الارض لا يعود ينبت العشب. ولكن كم هو اجمل واشرف وانساني اكثر ان يفاخر الرجل بأن الارض حيث تمر يده تتفجّر ماء وظلاً وجنى. 

إنك بهذا العمل الجليل، لم تحسن إلى اهل المنطقة المستفيدة من هذا المشروع وحدهم، ولا الى شعب اليمن الشقيق دون سواه، بل انها خدمة كبيرة احسنت بها الى العرب جميعاً وأسديتها الى امتنا بأسرها، اذ قدمت للعالم نموذجا رفيعا على انفاق الثروة العربية في أنفع وجوه البر والخير، وافضل مشاريع الانماء والعمران، مكذباً بذلك مزاعم الاعداء وادعاءاتهم الخبيثة التي تعمل دون كلل على تشويه صورتنا، متهمة إيانا بإنفاق ثرواتنا في أشنع سبل الشهوات والملذات وتبديدها بأبشع اشكال السفه والتبذير، تثبت بذلك اننا امة جاهلة قاصرة، واننا قوم متخلفون، 

فتقبل مني، أعزك الله، باسم كل عربي مخلص حريص على ان يقدر للمحسن إحسانه ويعترف بالفضل لذويه، أصدق عبارات التهنئة وأعمق مشاعر الامتنان. داعياً المولى أن يُديم على سموك نعمة الصحة والعافية مقرونة بالرفاه والهناء، وان يوفق جهودك لما فيه اوسع الازدهار والتقدم لابوظبي وشعب الامارات العزيز، ويؤيدك في كل ما تبذل من اجل عزة العرب ونصرة الاسلام. 

تقي الدين الصلح 

أما الشيخ زايد فجاء في رسالته ما يلي: 

دولة تقي الدين الصلح المحترم 

تحية طيبة وبعد، 

كان لرسالتكم الكريمة التي تحمل عمق مشاعر الود واصدقها، ونبل الروح العربية الصافية واصالتها، الوقع والأثر الكبيران على نفوسنا. واننا اذ نبادلكم نفس المشاعر، نسأل الله العلي القدير ان ينقذ لبنان من هذه المحنة التي يمر بها ليعود كما كان جنة حرية وسلام. ونحن نؤمن بأن رجال لبنان من امثالكم ممن امتحنتهم الحياة فوجدتهم في الشدائد اصلب عوداً، وفي الظلمات أبعد رؤية وعلى الرزايا أصبر من الصبر. إن مثل هؤلاء الرجال لا بدّ وأن يُعيدوا إلى لبنان وجهه المشرق الجميل ودوره العربي الأصيل، ويعيدوا إلى أبنائه السعادة والبهجة. فالكوارث تُشحذ همم الرجال وتعمّق تجربتهم في الحياة. فما من أمة من الامم إلا ومرت عبر تاريخها بأفراح وأتراح وانتصارات وانكسارات وازدهار وكوارث كان بعضها بفعل الإنسان وكان بعضها الآخر بفعل الطبيعة مثلما تمرّ القارات بفترات خصب وفترات جفاف، ولكن ما خاب رجاء مؤمن فالمؤمنون لا يقنطون من رحمة الله وهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا “ربنا الله ونعم الوكيل”. 

فالخير كل الخير في رجال آمنوا بالله وبأوطانهم وأمتهم ووهبوا لها انفسهم وعقولهم وعملوا على رفعتها وعزتها، فما فت في عضدهم كرب ولا وهنت عزائمهم امام الشدائد وكان ايمانهم اكبر من الرزايا، اولئك تعقد عليهم الآمال وتبنى الاوطان. 

نرجو من الله العلي القدير ان يوحد صفوف امتنا العربية ويشد من ازرها لتكون كالبنيان المرصوص يساند بعضه بعضا. وليكون العرب عوناً لاخوانهم في لبنان وفلسطين وفي كل الارض العربية. ويحدونا الامل انه ما دام في عالمنا العربي أمثالكم من الرجال يُرجى منهم كل الخير فالفرج، إن شاء الله، قريب وسوف يحظى لبنان وشعبه باليسر والسعادة والتقدم. 

وفقنا الله، جميعاً، لما فيه خير ورفاهية امتنا العربية والاسلامية. 

وتقبلوا خالص تحياتنا. 

زايد بن سلطان آل نهيان 

عاد تحسين بجواب الشيخ زايد. قبل أن يلتقي بتقي بك عرض للرئيس السيد حسين الحسيني نصي الرسالتين. أجابه الرئيس الحسيني: “الآن فهمت تأخرهما في الكتابة وفي الإجابة. إذ إن مثل هذه النصوص يحتاج إلى سهر الليالي”.

انتهت حكاية النفي برباعية هاتفها ووجعها. جاء دور “بيروت في الاول وفي الآخرة” بحسنات من البك والأمير أيضاً. أهلها من اللبنانيين والعرب. إلى اللقاء.