النفي الرباعي 2 – إعتصام عينيها..

النفي الرباعي 13 فبراير 2006 0

 

لم تنته القراءة تمتمة مباركة إلا وكنت أقف أمام ضابط آخر أقل رتبة. يصرخ في جندي من مجموعته أن يأخذني الى الغرفة رقم أربعة حيث كنت سابقاً. 

استيقظت فجأة لأجد أنني أجريت هذه المراجعة وأنا نائم جالساً ورأسي الى الحائط في غرفة الاعتقال. نظرت حولي فإذا بالرفاق كما تركتهم بالأمس إلا واحد. سألت عنه قالوا لي إنه ذهب إلى التحقيق. 

جلست أنتظر دوري. حرّكت نفسي قليلاً في الغرفة، يأخذونني للتحقيق، ليس عندي أسرار أخفيها. سأقول ما عندي وليحدث ما يحدث. 

لم يحدث ذلك حتى الظهر. حين أتوا لنا ببعض الخبز والبطاطا المسلوقة. لم يطلبوا أوراقي أو ساعتي أو حتى بعض المال الذي أحمله في جيبي. 

جاء المساء. عاد المعتقل من التحقيق. كان واضحاً أنهم لم يتركوا جزءاً ظاهراً من جسمه دون ضرب شديد إنما ليس إلى حد التشويه. فهو مقاتل فلسطيني وحسابه في دمشق وليس في لبنان. 

عاد إليّ القلق مرة أخرى. هل يتركونني وحالي حتى يحين وقت “الإرسال” إلى دمشق؟ 

حاولت أن أنام دون جدوى. كانت صورة والدتي تلبسني. ماذا حدث لها؟ كيف تعاملت مع الخبر؟ هل استطاعوا تهدئة روعها؟ 

مرّت الليلة الثانية أصعب من الأولى. أحاول التواصل مع رفاق الغرفة فلا أستطيع. تأخذني الأفكار ولا تعود بي. 

النهار يمرّ على حاله. معتقل آخر يذهب إلى التحقيق. يعود عند المغرب أقل تضرراً من معتقل الأمس. الواحدة بعد منتصف الليلة الثالثة. يفتح باب الزنزانة. يستيقظ الجميع رعباً. يدخل العنصر الأمني الذي رافقني من الحاجز الى المعتقل. يطلب مني أن آتي معه. مرة أخرى تدور الأسئلة والصور والذكريات. أمشي بمحاذاته. لا يوجه لي أية كلمة. إذا بنا نذهب إلى حيث أوقفوا سيارتي. أعطاني مفاتيحها وقال لي”اتكل على الله”. 

لم أنبس ببنت شفة. صعدت الى سيارتي وأدرتها فإذا بكل الأزرار التي تصل إليها اليد تعمل. خزان البنزين فارغ. أسرعت فيها وبدأت على الطريق إطفاء الأزرار وإعادتها الى طبيعتها. استعملها أحدهم بالتأكيد أو كلهم دون دراية بكيفية عملها. ذهبت باتجاه منطقة الجناح بهدوء تجنباً لحاجز من الجهة الأخرى يسيء فهم وصولي في هذه الساعة المتأخرة من الليل ومن خلدة تحديدا. 

وصلت إلى الفندق حيث أعيش في الساعة الثانية من بعد منتصف الليل تماماً. أوقفت سيارتي. نزلت منها. رآني أحدهم. أخبر رفيقه. بدأ إطلاق نار لم يهدأ حتى الساعة الرابعة فرحاً بالإفراج عن “المعتقل” في السادس عشر من حزيران 1976. 

زملاء وأصدقاء يتجمعون في بهو الفندق لاستقبالي. الزميل الكاتب مروان نجار ينظر إليّ ليقول كأنك آت من فندق آخر وليس من السجن. لا تبدو على “أناقتك” علائم الأيام الثلاثة. ضحكت وإياه فإذا به يكتب مقالا في الصفحة الأخيرة من “الدستور” عن مظهر عودتي من المعتقل. 

أين المرجة الخضراء؟ 

على الرصيف، منذ أن عادت من خلدة. وهي تأتي ليلاً لتجلس على رصيف الفندق بكل “أرستقراطيتها”. تعتبر نفسها مسؤولة عن اقتراح الغداء في الجبل. تأتي ليلاً. ترفض الدخول الى الفندق ما دمت لست فيه. تجلس على الرصيف لساعات، تتسقط الأخبار من هدى زميلة الرحلة. أسرعت إليها. احتضنتها من تحت يديها وأصعدتها الى غرفتي. كانت تتمتم بكلمات لا أفهمها. أضحك معها فلا تستجيب. كأنها مصابة بصدمة عودتي بعد أن اعتقدت أنني لن أعود. 

اتصلت بأهلي لطمأنتهم. بدأ الشباب بالتوافد الى جناحي للسلام عليّ. امتلأ المكان. انفردت بي جانباً لتقول سأذهب الى منزلي. لن أنام قبل أن تأتي. أريدك وحدك. لا أتحمل هذه الضجة حولك بعد ما حدث. 

الخامسة صباحاً، ذهبت إليها. مكوّمة على كرسيها على شرفة منزلها تحاكي البحر عبوساً، عندها خلعت كل أقنعتها. بكت وجعاً وليس غضباً. أحبت هوساً وليس التصاقاً. صارت تفتش فيّ عن كل التفاصيل. أرادت أن تعوّض “سنوات المسؤولية” التي أحست بها خلال الأيام الثلاثة لاعتقالي. 

أحاول التخفيف عنها فلا أستطيع. أمسك بحبل مجاراتها فلا أنجح. استسلمت حيث يحلو الاستسلام. 

ظهر اليوم التالي صدر القرار. “المرجة الخضراء” لم تعد تستطيع تحمّل الحياة في بيروت. قررت الذهاب الى باريس حيث أقاربها. تريدني أن أذهب معها الى حيث الأمان يجعلها أكثر زهواً وجمالا. 

لم تتركني أخرج إلا بعد أن وعدتها بالتفكير في الأمر. خرجت من منزلها. اعتبرت السفر نزوة جاءتها تحت ضغط الاعتقال. تتخلى عنها بعد وقت من الحياة الطبيعية. ذهبت الى منزل أهلي. عواطف جياشة تتقاطع مع نصائح بالتروي والهدوء. 

روى لي والدي رحمه الله أنه اتصل بالوزير آنذاك مالك سلام المعروف بقربه من القيادة السورية لسببين الأول أنه صهر آل كرامي وهو منحاز لزوجته شقيقة الرئيس الشهيد رشيد كرامي والثاني أنه يريد أن يتميز عن شقيقه صائب بك كبير أهل السنة في ذلك الحين. 

وعد مالك بك والدي خيراً. ثم عاود الاتصال بعد ساعات ليسأل هل أنني نفس الكاتب لغلاف العدد الأخير من مجلة “الدستور”. عندما جاءه الجواب بنعم، قال لوالدي كيف تريدني أن أتوسط له. قراءة المقال مشكلة كبيرة لهم فكيف بكاتبه. “أعتذر. لا أستطيع التدخل”. 

أعود إلى الفندق لأجد زميلة الاعتقال هدى المر تنتظرني لتشرح لي “بعجقتها” الأيام الثلاثة الأخيرة بعد عودتها من حاجز خلدة.