النفي الرباعي 19 – “الإخوان المسيحيون” في بعبدا..

النفي الرباعي 26 يونيو 2006 0

 

اختفى اللقاء الإسلامي. لم تعد هناك من اجتماعات ولا بيانات ولا مواقف. نجح السوريون وحلفاؤهم بفرط الصيغة التي لا تعترف الناس بشرعية خارج منطقها. لا تذهب ممن تبقى من اعضاء اللقاء صورة تقي الدين الصلح شهيدا منفيا يعود الى وطنه مسجّى الى مدفنه. 

سألني الكثيرون عن سبب اطلاقي تسمية الشهيد على تقي بك وصائب سلام في كتابات سابقة. أنا لا أرى كثيرا من الفرق بين سيارة مفخخة او رصاصة مباشرة لحكيم مثل الصلح او لشجاع مثل سلام وبين ابعادهما عن وطنهما لأشهر او لسنوات ومن ثم “السماح” بالعودة للوفاة في المنزل كما حدث مع صائب بك. 

أمضى صاحب القرنفلة الاستثنائية في صورته صائب سلام أكثر من خمس عشرة سنة ممنوعا من العودة الى عرينه في المصيطبة. 

دارت الأيام عليه في منفاه في جنيف المدينة السويسرية التي كان يعتبرها سلام سجنا كبيرا. عاد ليمضي الأشهر الأخيرة من حياته في العنوان الأشهر لزعيم اسلامي قبل قريطم مقرّ آل الحريري. 

لم يفرغ منزل صائب بك من الناس منذ لحظة عودته الى بيروت. كانوا يأتون لاستقباله باعتباره رمزا لنهضة افتقدوها. فوجدوا زعيمهم حاضر الذهن. لكنه عاد لتوديعهم قبل الرحلة الأخيرة من الدنيا. 

ما احتاج الصلح الى إذن بالعودة. لم يودّع أحدا رغم فترة منفاه القصيرة. غادر دنياه من باريس المدينة التي أحبها لكنه لم ينوِ أبدا فراق أهله وأصدقائه منها. 

أليست شهادة ان تكون في الثمانين من عمرك فيسمح لك بأن تعود لترقد في سرير عمرك وتغادر دنياك مثل صائب بك. 

أليست جريمة ان تُبعد عن وطنك ومنزلك وأهلك وأنت في العمر نفسه وتعود مسجى في تابوت فرنسي الى مدفنك البيروتي مثل تقي بك؟ 

رحم الله الاثنين حيث ذهبا. سيجدان رشيد عبد الحميد كرامي ورياض رضا الصلح. الأول شهيد سلاح الجو اللبناني بمتفجرة وضعت تحت مقعده في طائرة الهليكوبتر. اطمأن الى صفاء لبنانيته وهو القادم من طرابلس عاصمة الخير حيث زهر الليمون يعطّر أنفاس أهلها وتاريخ أسواقها الاسلامي يزيد في ايمانهم. فلم يجد القاتل لا في لبنانيته ولا في اسلام أهله ولا في رئاسته الحكومة حين اغتياله رادعا دون ادخاله في لائحة شهداء قذارة الحرب وجنون قادتها. والثاني قبل ذلك بكثير شهيد رصاصة في عمان. نزل من سيارته ليرى من أطلقها من كثرة اعتداده بنفسه وبما تحت طربوشه من عروبة لا تسمح لأحد بأن يطلق النار عليها في مدينة عربية. فإذا به يقع صريع قناعاته. 

بعد رفيق الحريري وليس هنا مجال الحديث عن شهادته التي حازها في عيد الحب من السنة الماضية متفوقا بحجم المتفجرات ومتزعما بحجم الحزن العام عليه بعده يصبح بامكانهم مجتمعين ان يعقدوا لقاء حكماء في دنياهم التي ذهبوا إليها. 

تتداخل الصورة في ذهني الآن وأنا أتذكر تلك المرحلة من الحياة. أدور حول نفسي تائها أحاول لملمة ما تبقى من ذكريات. أهرب من الواقع نحو استعادة ماضٍ. ألتقي من بقي من اعضاء اللقاء. الدكتور زكي مزبودي المهذّب. الهادئ. المحايد. المنفتح. لا يجد لمزاياه وجهة إلا بزيارات متكررة الى المفتي خالد في دار الافتاء. الدكتور جميل كبي تلميذ المقاصد المفتقد لصائب بك والساعي مثل زميله الى لفّة المفتي. 

الوحيدان اللذان لم يستسلماهما ناظم القادري وطلال المرعبي. الأول لعمق ايمانه بما يفعل. والثاني لدماء الشباب تجري في عروقه. التقيهما سويا او منفردين في منزل القادري. صارت لنا جلسة شبه يومية نتداول فيها الأمور ونقفز لنجلس في حمى لفّة المفتي من جديد. 

يهدّئُ المفتي خالد رحمه الله من روعنا واصرارنا وبحثنا عن اشتباك سياسي. فنعود للاجتماع لنفتش عن عنوان جديد لقفزة جديدة. هذا في المساء. أما صباحا فإن الزيارة الى مكتب تحسين خياط واجبة. 

مكتبه البسيط الذي لم يتحسّن بعد رغم اتساع مبانيه وأعماله الى المجالات التي لا أعرف لها تعدادا، أصبح ورقات من كتاب تاريخ لم يؤلف بعد عن تقي الدين الصلح. 

أروي له حكاية الرسالة الأولى عن العملية الأولى التي قام بها المقاوم الأول في بيروت للعدو الإسرائيلي المحتل في العام 1982 .

جاء معن بشور العروبي الدائم البعثي السابق الناشط كأنه في العشرين من العمر. المحب لعروبته الى درجة القدرة على القيام بعملية تجميل لمكوّناتها يوميا. يستيقظ في الصباح ليكلّف نفسه بمهمة الاندفاع نحو عنوان عروبي مصاب بالصداع ولا يتورع حين يرى الاصابة تتفاقم ان يجري عملية جراحية رغم عدم تخصصه في ذلك. حين يعجز يستنجد برفيق دربه وعمره وسياسته وممثل تنظيمهم في السلطة الرسمية الوزير والنائب السابق بشارة مرهج. لا تغيّر أطباع الثاني وسلوكه الوزارة او النيابة. إذ هو اعتمد الهدوء حالا وعلاجا لكل الحالات. يوزع حبوب الصبر ورسائل التوازن. لكن احتياطه لا يكفي ماكينة متحركة دائما بحجم معن بشور. 

يأتي معن بشور الى منزل تقي الدين الصلح. يجتمع به على انفراد. يسلمه رسالة من المقاوم الأول الذي قرر ان الصلح هو الشخص المؤهل لتسلّمها والاحتفاظ بسريتها. 

يفرح الصلح كالطفل الصغير. لقد رأى الاحتلال الإسرائيلي في مدينته. لكن الله مّن عليه بأن يحيا ليعرف ان واحدا من أهله يقاوم الاحتلال بالرصاص. مر وقت طويل على تسلّمه الرسالة قبل ان يبلغني البك بمضمونها. أذكّر تحسين بروايته هو مع المقاومة والتي يتجنبها حفاظا على ودّه مع جاره في دوحة الحص الدكتور الحص. 

مع قرب انتهاء الاجتياح الإسرائيلي وانسحاب إسرائيل الى المناطق الحدودية. قرر تحسين وشقيقه عدنان التبرع بمبلغ مليوني ليرة لبنانية تكون نواة لصندوق هدفه الاهتمام بإعالة عائلات الشهداء من جراء الاحتلال. 

تحسين يتعجّل في الطرح وانا اشتد حماسا والبك يفرح بهدوء. يرى زرعه ينبت في تحسين. عروبة حادة وصافية وقراءة لقيمة المال الذي جناه من عمله مختلفة عن المتداول. 

انتهى الاحتفال الاجتماع بتسمية الرئيس سليم الحص مسؤولا عن الصندوق إذ انه قادر على فتح الباب أمام المزيد من التبرعات وعضوية نصري المعلوف والرئيس حسين الحسيني على ما أذكر وآخرين. 

تعهّد تحسين بترتيب الاجتماع مع الحص. أيام ويأتي تحسين برفقة الدكتور سليم الحص الى منزل تقي بك. نجتمع. الرئيسان الحص والصلح وتحسين وأنا. يشرح الصلح للحص الفكرة ورغبة تحسين وعدنان بالتبرع للصندوق المزمع انشاؤه. 

يرتبك الرئيس الحص ويبدأ بالاسئلة. ما هي مواصفات الشهداء المنوي مساعدة عائلاتهم. ماذا لو وقع حائط على مواطن وتوفي. هل يعتبر هذا شهيدا؟ متى يبدأ استحقاق المساعدة؟ اجتياح 82؟ قبل؟ بعد؟ 

جاءه الجواب بأن إدارة الصندوق تقرر إطار العمل. المهم إنشاء هذا الصندوق وفتح باب التبرعات ولكل حالة علاج. 

ازداد تردد الحص. وذهب في اتجاه آخر لاسئلته. ما هو موقف الإدارة الأميركية من مثل هذا الصندوق؟ هل سيعتبرونه دعما للإرهاب؟ كيف نبرر لهم ما نفعل؟ كيف نحدّد أعداد ووضع الفلسطينيين؟ 

انفعلت عندها في حين لم يفعل الإثنان. تحسين بسبب جيرته والبك بسبب طبعه. قلت للدكتور الحص أين الإرهاب في اعانة عائلات شهداء. الصندوق يعين أهلهم بعد استشهادهم ولا يدعو أحدا للذهاب الى الشهادة متسلحا بمعونة إنسانية بسيطة مهما بلغت. للفلسطينيين قيادة مسؤولة عن اوضاعهم ومؤسسات دولية كذلك. نحن معنيون بالجانب اللبناني فقط ومن زاوية إنسانية بحتة لا علاقة لها بتوجّه الإدارة الأميركية او الإدارة اللبنانية حتى. لماذا الارتباك في قرار معني بأطفال أصبحوا أيتاما او بأهل لم يبق لهم معيل؟ 

أخذ البك الحديث عني. شعر بأن الحوار يذهب في اتجاه لا يشجّعه هو. اقترح على الدكتور الحص بهدوء ان يأخذ وقته ويراجع نفسه في الموضوع ثم نعود للاجتماع. 

غادر الرئيس الحص منزل الصلح برفقة تحسين. البك وأنا نودعهما على رأس الدرج. أتمتم لوحدي متسائلا عن مناخ “الشجاعة” الذي أحاط بالحديث. 

لا يزال تحسين يذكّرني بالدم يصعد الى وجهي وشفتيّ المرتجفتين وهو يضحك بعد ان أطالبه بفوائد المليوني ليرة “حوالى سبعمائة ألف دولار في ذلك الحين”. 

الرواية الثانية المعبّرة كانت في انتخابات الرئاسة في العام 82 . الشيخ بشير الجميل المرشح الأوحد وتقي بك معارض بشدة لهذا الترشيح. يقف الى جانب صائب بك في المصيطبة حيث كانت تدار قدر الامكان معارضة انتخاب الابن الأصغر لمؤسس حزب الكتائب اللبنانية الشيخ بيار الجميل. وضع الرئيس الصلح نظرية لمعارضته انتخاب الشيخ بشير رغم صلته الحميمة بالعقيد جوني عبدو مدير المخابرات ومدبّر الحملة الرئاسية للشيخ بشير. أفصح عنها خلال غداء جمعه بالزعيم البقاعي الكاثوليكي جوزف سكاف. 

قال له أنت تعلم ان تنظيم الاخوان المسلمين منتشر وفعّال في العديد من الدول العربية وعلى رأسها مصر. هل سمعت يوما بالاخوان يحكمون بلدا عربيا؟ يأتيه الجواب بالنفي. يكمل حديثه تساؤلا: كيف تريدون منا ان نقبل بحاكم من “الاخوان المسيحيين” في لبنان؟ هذا سينعكس عليكم قبل ان ينعكس علينا. هو ملزم بالاعتراف بالمسلمين. لكنه سيلغي كل الزعامات المسيحية التي لا يراها مناسبة لاستمرار حكمه. وسيضع قواعد جديدة من التوازن الداخلي تؤدي بالبلد الى الهلاك. 

انتهى الغداء بسفر سكاف من لبنان الى فرنسا هربا من الزامه بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية. لكنه فيما بعد عاد الى بيروت بسبب الضغوط التي مورست عليه وانتخب الجميل. 

يضحك تحسين أكثر مع لازمة كلامه الدائمة “إي”. ولكنك نسيت سد مأرب؟ أجيبه. كيف يمكن ان أقنع أحدا بأن سد مأرب في اليمن كان من اهتمامات تقي بك؟