النفي الرباعي 12 – الاعتدال قائداً..

النفي الرباعي 25 أبريل 2006 0

 

أعود الى اللقاء الإسلامي. بدا اللقاء في خطواته الأولى متعثرا غير محدد الهوية والاتجاه. في الشكل كان للوزراء والنواب العاملين حق الانتساب إليه فضلا عن رؤساء الوزارات السابقين. لكنه أصبح بعد جلساته الأولى همّا حقيقيا لرئيس الحكومة الذي يشغل السرايا في ذلك الحين من شفيق الوزان رحمه الله الى الدكتور سليم الحص مبتكر القوة الثالثة هذه الأيام بعد وعود متكررة منه باعتزال العمل السياسي والتفرغ للعمل الوطني. 

كان واضحا لرئيس الحكومة “العامل” ان هناك هيئة عليا مدنية سياسية دينية تشرف على حركته دون ان تقترب منه او تسميه. إذ وضع تقي بك قاعدة للبيانات الصادرة عن اللقاء الاسلامي اسبوعيا ان لا تسمي الاشخاص بأسمائهم أيا تكن مسؤولياتهم. ورغم كل محاولات التحريض التي كنت أمارسها شفاهة وكتابة بقيت هذه القاعدة سارية المفعول حتى توقف اللقاء عن الاجتماع بسبب الاغتيالات والهجرة التي أنعم الله بها على بعض قياديي اللقاء. 

أشهر قليلة وبدا ان سياسة التراكم هي الطريقة الأصح للبناء السليم. فإذا باللقاء الإسلامي يتحول الى منبر سياسي عربي الأول من نوعه والأكثر تأثيرا وانتشارا في أوساط اعتدال أهل السنة. وصار المرجعية الوحيدة التي يعود إليها الوطنيون اللبنانيون في كل أمر يريدون إجابة عنه. 

الاندماج الذي تحقق بين إبرة حفر الجبل وحكمة تقي بك وبين عِمّة المفتي خالد الصلبة المقاتلة، أسس لحركة سياسية تتجاوز الحدود اللبنانية أولا الى دمشق ومن ثم الى باقي العواصم العربية المقررة التي رأت في هذه المجموعة السياسية ونصها الوطني المتماسك نواة لحركة استقلالية لبنانية أوسع من أهل السنّة. 

في ذاكرة أهل المدينة صورتان عن المفتي خالد تجعلانه المرشح الأبرز لزعامتهم الفارغة المقعد في ذلك الحين. 

الصورة الأولى تعود الى صدام شرس بين المفتي خالد والرئيس صائب سلام. تجمهرت حول المفتي في أوائل السبعينيات كل القوى السياسية المعادية لصائب بك وقرروا بزعامته خوض معركة انتخابات مجلس أمناء جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية المعقل الأول لزعامة صائب بك. 

لم يكن من المألوف لقاض شرعي انتخب منذ سنوات قليلة مفتيا للجمهورية ان يتصدى لانتزاع جمعية المقاصد من آل سلام. لكنه فعل وبالصوت العالي والسلاح الظاهر من مجموعة السياسيين المخاصمين لصائب بك وجمهورهم. كاد الانقلاب ان ينجح لولا ان تدخل وزير الداخلية كمال جنبلاط في الليلة الأخيرة التي سبقت الانتخابات وقرر نصرة المنزل “العريق” لآل سلام، لأن العراقة تتضامن بعضها مع بعض. فأمسك صائب بك بالمقاصد مجددا. 

لم يكن هناك تفسير واضح لتصرف كمال بك. إذ ان العداوة السياسية بين سيد المصيطبة وسيد المختارة كانت مشتعلة لسنوات. كمال بك يمتد بنفوذه الى بيروت وصائب بك لا يقبل تدخلا من البيارتة غيره فكيف للقادم من عرينه في الجبل؟ 

التفسير الوحيد المنطقي في ذلك الحين ان وزير الداخلية اعتبر محاولة المفتي خالد ومجموعته السياسية حركة مدعومة من المكتب الثاني أي المخابرات باللغة الحديثة، وان كمال بك أراد اعلان رفضه الصارم لتدخل الأجهزة في انتخابات جمعية تعليمية سياسية مثل المقاصد. 

الصورة الثانية “للمفدي” على حد تعبير البيارتة جاءت من الملعب البلدي حيث دعا الى صلاة العيد في الشهر السابع من العام .1983 وقف لابسا ثيابه الصيفية البيضاء وأمامه آلاف المصلين مؤكدا ثوابت أهل المدينة أولها وأهمها رفض الأمن الذاتي وإعادة بناء الجيش. وضع دستور جديد للبلاد. تحقيق المساواة في الحقوق والواجبات بين اللبنانيين. وتساءل: لقد كان لهذا النظام وجهه الطائفي فتداخلت السياسة بالدين فلا الساسة أرضوا الله ولا رجال الدين أرضوا الناس. عنوان <السفير> في ذلك اليوم. خالد: أية فئة لا يمكن أن تبني لبنان على صورتها. 

لم يكن الكلام هو الأهم في صلاة العيد. بل احتشاد آلاف الناس. ينظرون إليه في جبّته البيضاء. يستمعون الى كلماته بانبهار. مهللين له كلما تحرك يمينا او يسارا. كان المنظر مهيبا. لا يذهب من ذاكرتي الى اليوم. إذ ان التجمع مدني بالكامل. الصلاة تحفز على الانضباط. الكلام يصعد نحو السماء ليصل الى البيوت وأهلها فضلا عن وسائل الاعلام المحدودة التي تنقل الحدث مباشرة. 

أعتُبرت هذه الصلاة المعلم الأول من معالم إعلان عصيان مدني على وجود الميليشيات المسلحة العابثة بالمدينة وأهلها. 

هاتان الصورتا من تاريخ المفتي خالد كانتا كافيتين لاعتبار الجالس في سدّة رئاسة اللقاء الإسلامي زعامة سياسية يحسب لها الجميع ألف حساب وحساب. 

صرت عضوا سريا في اللقاء بتشجيع من المفتي خالد ورضا تقي بك. ربما الأكثر حركة. ليس بسبب السن فقط بل لحماسة مني غير مذهبية. فالشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله والرئيس حسين الحسيني كانا يجتمعان الى قادة اللقاء الإسلامي أكثر من اجتماعهما بعضهما ببعض. 

يتشاورون ويقررون ويعقدون جلسات علنية مشتركة ويتبادلون النصوص. الرئيس الحسيني أصدر من دار الفتوى نصّه الشهير بأن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه. لم يكن تقي بك حاضرا بسبب سفره إلا انه شكر الله على غيابه إذ ان عروبته المبدئية الثابتة لم تكن لتجعله يقبل التخلي عن الوحدة العربية “المنتظرة” مقابل نهائية لبنان كوطن. 

اخترت او وجدت نفسي أخطط وأنسّق مع اثنين من اعضاء اللقاء طلال المرعبي أصغرهم سنا عاملا على غسل نفسه من الغبار السوري الذي غطى ثيابه في شبابه المبكر “الطائش”. فإذا به يصبح من أكثر اعضاء اللقاء توازنا وجهدا وعملا وحضورا. 

الثاني الشهيد ناظم القادري. هذا العجوز الذي لا يترك السيجارة تقع من فمه إلا على السجادة. المحامي أبو زياد يعطيك الانطباع عن بساطة مطالبه ورغباته السياسية. فإذا به يستقبل في كل غرفة من منزله واحداً من اتجاهات سياسية مختلفة. قادم من البيرة في البقاع الغربي حيث أصر حتى اليوم الأخير من حياته المتعبة على ان يبدو كواحد منهم. لم تنجح المدينة في إصابته بأشكالها. لكنه نجح في ان يجعل المدينة مرتعا لحركته السياسية الجدية المجهولة دائما من باقي اعضاء اللقاء ما عداي وطلال المرعبي. كان له مطلب واحد معلن يزايد به على السوريين إذ انه خريج حقوق جامعة دمشق. مطلبه الدائم ان يكون مواطناً سورياً من الدرجة الأولى وليس لبنانياً من الدرجة الثانية على طريقة الأمن السوري في التصنيف. 

هذه كانت وسيلة تعبيره عن الاعتراض على السياسة السورية في لبنان. آخر الشهداء قبيل انعقاد مؤتمر الطائف في العام .1989 أتى من باريس الى بيروت رغم إلحاحي على عكس ذلك. لكنه ببساطة أراد ان يرى طبيب أسنانه المعتاد على مشاكله. فإذا به قتيل الصباح على باب دكان حلاّقه في شارع فردان والبعيد عشرات الأمتار عن منزله. 

ما زالت “مسكنته” غير الحقيقية ماثلة في ذهني وسيجارته وحركة يديه المعبّرة مع فتحة عينيه عما يغلي في صدره من ظلم وقهر. 

لم ينسه أهله في البيرة. بقيت صورته معلّقة على جدران منازلهم سنوات طوالاً. الى ان وضعوا بجانبها صورة زياد المحامي الوسيم، ولده الذي كان طفلا يوم اغتيل والده. 

وسامة زياد واعدة كما محاماته. رغم اعتراض الصبايا على “إنفته” المبالغ بها. 

الفضل، كل الفضل، في ان صورة زياد وضعت الى جانب صورة والده الشهيد في منازل أهله ومحازبيه، هو للسيدة أم زياد التي لم تترك بابا إلا طرقته ولا جهدا إلا فعلته ولا جرأة إلا أقدمت عليها لكي تتأكد ان نجلها الوحيد وصل الى حيث كان يريده والده ان يصل. بهذا تكون ثأرت لإغتيال ناظم بك ولمحبيه أيضا.