النفي الرباعي 11 – تقارير البزري؟؟

النفي الرباعي 18 أبريل 2006 0

 

لا تقتصر المتعة مع تقي بك على حكمته وعقله السياسي. بل إن الرحلة معه إلى باريس لا تعوّض. فهو يعرفها منذ الأربعينات حين كانت قلّة نادرة من اللبنانيين تعرف العاصمة الفرنسية. المحلات التي تعوّد عليها. كرسيه اليومية في مقهاه. يستبدل الطربوش بقبعة أشبه بالتي كان يلبسها الرئيس حافظ الأسد.

بدأ “البك” حياته أستاذا في اللاييك حيث كان أستاذاً لأمير عباس هويدا ثم زميلاً له في التعليم والذي أصبح في ما بعد رئيسا لوزراء إيران. فزاره “البك” في العام 73 حين كان رئيسا للحكومة فالتقى اثنان رئيسا حكومة لبلادهما. ترك تقي بك التعليم ليعمل في دائرة الإعلام اللبنانية التي كان مقرّها في السرايا الكبيرة حيث كان يداوم رئيسا الجمهورية والحكومة. 

رافق ابن عمه رياض في حركته السياسية وأصبح واحدا من مجموعة أطلق عليها رفاق رياض منها النقيب زهير عسيران، أمدّ الله بعمره، ونصري المعلوف ومحمد شقير، رحمهما الله. 

أشرف على كتابة البيان الوزاري الأول لحكومة الاستقلال. ثم بدأ يسبب صداعا سياسيا لرئيس الحكومة إبن عمه من كثرة انتشار الأقاويل حول حركته السياسية المستقلة. 

استبعد الى القاهرة حيث عيّن وزيرا مفوّضا في سفارة لبنان. وهو منصب شرف يعطى لغير الموظفين من كبار الشخصيات السياسية. وجد نفسه في صحنه كما يقول المثل الفرنسي. صارت زياراته يومية الى الصحف التي يترأسها عمالقة الصحافة العربية في ذلك الحين من محمد التابعي الى الأخوين علي ومصطفى أمين وغيرهم. شبك علاقة مع المستشار الاعلامي للملك فاروق كريم تابت فأصبح مصدرا منتشرا للأخبار في العاصمة المصرية. 

سنوات قليلة ويعود إلى بيروت. قتل الزعيم رياض الصلح في الأردن. أخرج إبرته وبدأ بحفر الجبل. صار زائرا يوميا للواء فؤاد شهاب وزير الدفاع قائد الجيش. يتشاوران في السياسة باعتبار ما سيكون عليه الأمير اللواء الرئيس فؤاد شهاب. 

ترشّح الى الانتخابات عن المقعد السُنّي في بعلبك مدعوماً من الشهابيين، فنجح. ثم تسلم وزارة الداخلية في منتصف الستينات. تجري انتخابات فرعية في جبيل معقل ريمون إده المعادي للشهابية، فإذا بالوزير الصلح يحرص شخصيا على نزاهة الانتخابات ويحمي ريمون إده من تدخل “المكتب الثاني”. نجح إده فاكتشف الشهابيون أن البك “صلحي” وليس شهابيا. 

عاد الى منزله فرحا بأنه حقق انتخابات نزيهة للمرة الاولى في تاريخ لبنان. فهو بثقافته الفرنسية وحداثة عقله وديموقراطيته المختبئة في طيات جبينه لا يقبل على نفسه في موقع المسؤولية غير أن يفعل ما فعله. 

جلس في منزله لسنوات والكل ينادونه منذ سنوات بدولة الرئيس حتى حان الوقت مع الرئيس سليمان فرنجية في العام 1973 فشكّل حكومة “كل لبنان” مشركا فيها كل القوى السياسية المتعارضة في الخارج. وقعت حرب تشرين فإذا به فخورا يذهب يوميا الى غرفة عمليات الجيش مطّلعاً على تقدم القوات المصرية والسورية. متصلا بالرئيس أنور السادات مشجعا له ومنتصرا به. ذات صباح جاءه وزير الصحة المرحوم الدكتور نزيه البزري يبلغه ان اتصالا جاءه من دمشق يطلبون فيه إنزال معدات طبية وأدوية في مرفأ بيروت. 

كانت له عادة رافقته حتى وفاته. هي جس النبض قبل القرار. توجس من موقف الرئيس فرنجية المحتمل فطلب من الوزير البزري الذهاب إلى رئيس الجمهورية والتشاور معه حتى وصوله الى القصر الجمهوري. 

هكذا حصل. وافق الرئيس فرنجية فوراً مع علمه بالمحاذير فلبنان دولة محايدة. وصل الرئيس الصلح. علم بموافقته فارتاح. 

وصل الخبر الى دمشق بصياغة تقول أنّ فرنجية وافق بينما رفض الصلح دعم سوريا. بقيت هذه الصياغة للخبر ترافقه طوال سنوات لقائه بالمسؤولين السوريين. 

عاد إلى منزله هذه المرة وهو يحمل اللقب الذي أراده منذ أن كان شاباً. بقي على هدوئه في منزله معاصرا للحرب وللسياسة وللقصف إنما ايضا بهدوء. 

كلّف بتشكيل الحكومة في العام .80 حال السوريون دونه والقدرة على التشكيل. 

كان اليوم الأقسى في حياته في تلك الأيام هو الاجتياح الاسرائيلي وخروج الفلسطينيين من لبنان. دمعت عيناه وهو يودع الزعيم ياسر عرفات معتبرا ما حدث خسارة كبيرة للعرب قبل الفلسطينيين وقبل اللبنانيين. 

بقي حتى اللحظة الأخيرة رافضا لانتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية رغم صداقته بالرئيس الياس سركيس ومدير المخابرات جوني عبدو. قال لجوزف سكاف على غداء جمعهما. هل تعلم أن الاخوان المسلمين أقوياء في مصر وغيرها من الدول العربية. أجابه البك البقاعي نعم أعلم ذلك. أعاد السؤال بشكل آخر. هل سمعت بإخوان مسلمين يحكمون بلدا عربيا. طبعا لا. لماذا تريدون منا أن نسمح بمجيء واحد من “الاخوان المسيحيين” رئيسا للبنان. هذا تشجيع للتطرف في لبنان وفي غير لبنان. 

نتيجة الغداء كانت أن سكاف حزم حقائبه وذهب الى باريس. قبل ان “عاد ” بمختلف وسائل الضغط لإكمال نصاب جلسة مجلس النواب. غير أن هذا لم يشفع له لدى القيادة السورية. إذ بمجرد عودته الى لبنان بدأت الحساسيات السورية تظهر عليه وعلى حركته السياسية في البقاع مقرّ زعامته. صدر القرار بمصادرة أملاك جوزف سكاف لعدم تعاونه مع الأمن السوري. جاء العميد غازي كنعان برفقة إيلي الفرزلي وخليل الهراوي الى منزل تقي بك لإقناعه بدعم انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية قبل نهاية عهد أمين الجميل. ضحك البك فهو على صداقة وطيدة ومعرفة عميقة بأطباع فرنجية. وعد العميد كنعان خيرا. فإذا “بالخانم” تطل من جناحها لتنادي العميد المغادر للمنزل وتقول له: غداً اذا اختلفتم معه لا تقولوا نحن أتينا به. أنتم من أراده رئيسا للجمهورية. 

استغل البك الفرصة وقال له هل تعرف المثل الذي يقول خذوا أسرارهم من صغارهم. تفاخر البك دائما انه صحافي عامل. شارك في إصدار صحيفة مع أشقائه. لذلك كانت متعته الدائمة هي زياراته الدورية للصحف مساء طوال الاسبوع. يناقش ويحلل ويحرر. إلى ان كان السادس من شباط في العام 84 حين اجتاحت الميليشيات المتحالفة مع سوريا المدينة لإخراج الجيش منها اعتراضا على سياسة أمين الجميل. طفح الكيل به.