النفي الرباعي 10 – طربوش البك..

النفي الرباعي 10 أبريل 2006 0

 

تقرّبت من الرئيس تقي الدين الصلح في ديوان ميشال أبو جودة في “النهار”. كنت أعرفه قبلاً، لكن زمالة الديوان جعلتنا نتبادل الآراء بشكل شبه يومي. يدخل “تقي بك” بطربوشه الأحمر الجميل وعلى كتفيه “البرنس” المغربي أيام الشتاء. كان معروفا بطربوشه الأحمر القاني الأخير في المدينة. أضاف إليه “البرنس” المغربي الكحلي المفتوح الذي لا يلبسه غيره في لبنان.

يفرك بيديه. تقدح عيناه ابتسامة. الوحيد الذي يترك له ميشال كرسيه ليجلس عليها. يضرب بيده على الطاولة إيذانا ببدء مناقشة موضوع معين يكون قد قرره مسبقا وأتى الى “النهار” لمناقشته. 

كان “تقي بك” خارجا من أزمة صعبة في العام 1980. كلفه الرئيس الراحل الياس سركيس تشكيل الحكومة. بين ليلة وضحاها كان الأمين القطري للبعث السوري يرفض المشاركة فيها، فإذا بالحكومة المشتهاة تقع على الأرض. 

لم تترك هذه الأزمة عليه من أثر إلا لأيام. لم يستغرب الإصرار السوري على استبعاده، فهو من الاستقلاليين الذين لا دور لهم بوجود الأمن السوري في لبنان. 

كان يتصرف على أنه رئيس الحكومة الدائم، بهدوء وأناقة لا يستطيعهما غيرُه مهما حاول. فما ذهب اليوم سيأتي أحسن منه غدا. 

صرت لصيقه. لا يمر يوم من دون أن أراه. كان محادثا متنورا. يقرأ “لوموند” الفرنسية يوميا مهما كانت حالة المدينة الأمنية. 

لا يكفيه العالم العربي. يذهب الى العالم الإسلامي تفكيرا وهموما، وحين يفرغ منه يذهب الى العالم الأوسع. 

صرت أذهب كل يوم إليه كمن يذهب الى المدرسة. ينتهي الحديث عن الحكمة. ينتقل الى لبنان. يفرغ لبنان من المضمون، فيتحدث عن سوريا، ثم الى العراق، ودائما النهاية في مصر. 

لم أقابل في حياتي عربيا أو حتى مصريا يملك هذا التقدير والتأكيد على أن لا عرب ولا عروبة من دون مصر. ومهما حاول غيرها من الدول فالغير لن ينقذ نفسه ولن يأمن لنفسه. يفتش عن الظرف أينما وُجد. يحفظه. يُخرج من ذاكرته ما لديه من مخزون في الظرف فيبهر من يستمع إليه. 

محترم أينما ذهب، في القصور والدور. تلمع عيناه الزرقاوان كلما رأى جمالا، من امرأة، الى مبنى، إلى “كرافات”. 

ربطة عنقه لا يجاريها أحد، وهو يعلم ذلك. لا يهتم بأي من أغراضه بقدر اهتمامه ب”الكرافات”. بقيت أذهب الى مدرسته في العقل والحكمة لسنوات امتدت حتى وفاته في باريس في العام 1989 .

بقدر ما تعلمت منه، أخذت عليه ابتعاده عن المواجهة المباشرة مهما اشتدت الصعاب. يؤمن بالتراكم. يحمل في جيبه دائما إبرة يحفر فيها الجبل مهما كان حجمه، ومهما أخذ من أيام. 

لم تكن سنوات عمري تسمح بهذا القدر من الصبر، فأنجرف في السياسة كتابة. أتزوّد بحكمته وأحوّلها الى أداة هجوم. يصعب الحكم الآن أياً منا كان على حق. لكنه فعل ما فعله وأخذ من الدنيا ما يريد. أخذه ونام قرير العين مكتفيا بما منحه إياه الخالق على مختلف المستويات. 

يملك في ذهنه من التاريخ الحقيقي للبنان وللكثير من الدول العربية، ما جعله مرجعا. فإن تجاوزتَ ما عرفته منه تذهب الى الخطأ بالتأكيد. 

تسكنه قوميته العربية الى درجة اعتباره كل الدول العربية له مسكناً، بعواصمها، وشوارعها، وشعرائها، وأدبائها… من صنعاء حتى القاهرة. 

يعتبر نفسه معنيا بما يحدث في كل دولة عربية كأنها منزله. يحزن لحزنها. يفرح لفرحها. يغتني بثروتها التي لا يطالها منه شيء. 

نصّب نفسه مسؤولا عن إقناع المسيحيين اللبنانيين بالعروبة. كان يقول مازحاً ” لقد صنعنا من لبنان حوض سباحة صغيراً يتدرب فيه المسيحيون قبل أن نأخذهم الى البحر العربي الكبير”.

كان يتألم بشدة من السياسة السورية في لبنان. يعتبرها حافزا لخروج اللبنانيين من العروبة بدلا من تشجيعهم عليها. لم يفهم، ولا مرة، عداوة القيادة السورية له. هو لا يُخفي خلافه معهم على سياستهم في لبنان، لكنه يحرّم على نفسه وعلى الآخرين التآمر على سوريا من لبنان مهما كانت الأسباب والمبررات. هو الوحيد الذي رفض التوقيع من بين القادة المسلمين المجتمعين في منزل المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد في عرمون، على عريضة تعارض الدخول السوري الى لبنان في العام 1976. لم يقبل على نفسه أن يرفض دورا عربيا في لبنان، حتى لو كان هذا الدور عسكرياً وقادماً من دمشق حيث لا دالة له فيها. 

لم يشفع له هذا في أن يُحسن علاقته بدمشق حيث تمركز القرار اللبناني. يدور على أصدقائه القلائل في بيروت، ويذهب مساء مع زوجته الى منزل واحد من أبناء شقيقته الذين يفرحون لمجيئه كما العرس. 

الجزء الروائي في حياته هو “الخانم”. 

الخانم، لقب زوجته السيدة فدوى البرازي القادمة من حماه، وفي رأسها القدرة والقرار الصارم والذوق واللطافة المتأصلة في كل حركة من حركاتها. 

في المرة الأولى التي دخلت فيها غرفة نوم “البك” لعيادته من وعكة بسيطة، ذُهلت من صورة على الحائط حسبتها للممثلة الألمانية رومي شنايدر. سألته متعجبا، فضحك واستدعى الخانم ليعيد سؤالي عليها فتضحك مع التماعة عينين مشعتين: “هذه صورتي. تريدني أن أعمل في السينما. تأخرتَ كثيرا يا أستاذ”. 

الخانم لا تنادي زوجها غير بلقبه، “البك”. وهو يبادلها المناداة ب”الخانم”. 

يتعاملان كأنهما قادمان من قصة أسطورية لا علاقة لها بالعصر الحديث. رأيته مرة في مطار بيروت ولا أعتقد أنني سأرى غيره يفعل ذلك يرافق الخانم الى مقعدها في الطائرة ويجلس إلى جانبها لدقائق قليلة ثم ينزل من الطائرة. ولولا قليل من المبالغة لكان بقي في المطار الى حين موعد الإقلاع. 

السيدة حادة، ذكية، منظمة، قديرة. تحب العمل في الزراعة حيث لها بستان في شمال لبنان. تفرح بوصف الموسم أياً كان نوعه. 

كذلك تفعل في السياسة. تراقب كل الأحداث. تسمع كل الأحاديث. لا تتحدث في الشأن العام إلا إذا فرغ منزلها من الزوار ولم يبق غير أهل البيت، وأنا منهم. 

كنت أندهش من دقة ملاحظتها السياسية، فيضحك “البك”، فقد خففت عنه ضرورة المديح ل”الخانم”. 

صديقاتها قلائل. تعرف منهن كل أخبار المدينة الاجتماعية فلمَ الإكثار من الصديقات؟ قيل الكثير عن ثروتها. الحقيقة أنها “سيدة التدبير” لا أكثر ولا أقل، إذ كان بين “البك” والمال عداوة عمرها قرون، سببها تحدّره من عائلة تبيع أملاكها لتعمل في السياسة، ولا تجيد عملاً آخر.