الموسيقار

مقالات 30 ديسمبر 2013 0

تمهّلت بالكتابة عن محمد شطح شهيداً، بانتظار أن تهدأ أمطار “الاعتدال” النازلة على اسمه وشخصه كأنها حقيقته الوحيدة.
فالاعتدال في المفهوم اللبناني هو قدرة الشخص حامل هذه الصفة على الاقلال من قول الحق، وتغليف القول -حين يقال- باللطيف من الكلام موحياً انه أكثر قدرة على التنازل من غيره.
الاعتدال هنا ليس سلوكاً لفظياً فقط، هو مسار حياة شخصية وأسلوب تعامل مع الآخرين، شجّعت عليه الأديان باعتباره خط الوسط بين المتضادات والمتقابلات. 
بهذا المعنى لم يكن محمد شطح معتدلاً. 
هو رجل مبدئي صاحب قضية، يستعمل كل الاساليب والمفردات لإيصال قضيته حيث يجب ان تصل. يضعها على طاولة التشريح الذهني ويأخذها في الاتجاه الذي يناسب قدرة الآخر المستمع على الفهم. وفوق ذلك ذهنه حاضر للذهاب في كل الاتجاهات. لا يفرّق بين عربي وأعجمي إلا بقدر التزامه بلبنان الواحد السيّد الحرّ المستقلّ.
الاعتدال بالنسبة إلى محمد شطح هو الانتماء الى الوطن. من يملك هذا الحس الوطني هو حكماً معتدل. الاعتدال تفصيل هنا. محمد كان وطنياً لا يهوى الخلاف بقدر ما يتمسّك بالاختلاف. حريته سلاحه. الحوار ذخيرته.
لم يكن محمد شطح الوحيد بيننا صاحب قضية لبنانية، لكنه بالتأكيد كان الأقدر على اضاءة شمعة جديدة لفكرة مضيئة اذا ما شعر بأن شمعة الفكرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو مهما بلغ ترتيبها العددي، قد هدأت نارها وكادت ان تنطفئ.
لم يكن محمد وحده صاحب المعرفة سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً. بالتأكيد هناك آخرون نعرفهم أو لا نعرفهم. الأهم هو توقّد قدرته في البحث عن لمعة من خارج صندوق طبقتنا السياسية الذي يغرف منه الجميع مبادراتهم وآراءهم. 
هو مبتدع حلول ومبدع في تعميمها. حلوله أبعد من السياسة بمعناها اليومي. حلوله أشبه بفك رموز، أو اجتياز امتحان كُثُر يسقطون فيه، قبل خوضه حتى. 
لم يكن محمد وحده الباحث اليومي في مواقع الدراسات الدولية وعناوين الصحف العالمية وأبرز ما فيها من مقالات تؤشّر للقادم من سياسات الدول المقرّرة لمصيرنا. غيره يفعل ذلك بالشكل. أما الإمساك بتلابيب هذه المؤشرات فهو اختصاصه العميق. يخبّئ لنا مفاجأة أو أكثر في كل مرة نلتقي. نناقشه. بعضنا بحدّة وشدّة، وخاصة مع “مولانا” رضوان السيد. يصمت محمد مبتسماً أو يضحك عالياً، ويقول – دون أن يقول- سيأتي الوقت الذي تعرفون فيه -وبأسرع مما تتوقعون – أن ما أشرت اليه هو الأساس وما تتحدّثون عنه هو تفاصيل. 
ثم يكمل مشواره. يرسم بهدوء ومهارة خريطة حركته على القوى السياسية اللبنانية زارعاً فكرة هنا. مرطّباً لخلاف هناك. يضع حجراً لبنانياً فوق حجر آخر صابراً على عمارته السياسية حتى تكتمل.يستعين على إكمال عمارته اللبنانية بسفراء الدول المقرّرة في العالم.يخوض معهم يومياً نقاشات لا تنتهي بحيوية لا تنضب. يبدأ حديثه الى يمين عقولهم ثم ينتقل الى يسارها، ولا يترك واحدهم الا اذا تأكّد من انه زرع في رأسه بذرة لبنانية. وللحديث صلة ولو طال ساعات.
سياسي. دبلوماسي. اقتصادي. ولع بالتقنيات الحديثة للتواصل الاجتماعي. قدرة على معرفة العنوان الأفضل للمكان الأفضل من المطبخ الذي تختاره والحجز للعشاء لليلة في عاصمة اوروبية، بمفتاح من هاتفه. كل هذا معروف عنه ومتداول.
أما الجانب الآخر من شخصه فهو ما يخفيه محمد من أرهف ما في عمقه الإنساني.
المفاجأة هي في موسوعته الموسيقية التي يحملها معه في أحد مفاتيح هاتفه النقّال أينما ذهب. يأخذ من أم كلثوم الشجن، ليسحره في كل ما يفعل، محمد، الموسيقار الذي يلحّن عذوبته على طريقته. فيأخذك معه، كما تفعل به أم كلثوم كل ليلة. عاشق الموسيقى، يشهرها علينا سلاحاً. وكأنه يمارس دبلوماسيته، أو محاولات إقناعنا بلحن. 
الموسيقار السياسي محمد شطح ترك مكتبته الموسيقية مرغماً. حبيبته ستبقى حبيسة هاتفه. لكن موسيقاه اللبنانية سترتفع عالياً في أرجاء الوطن. أعلى بكثير من صوت الانفجار الذي أودى بحياته. 
كيف سأستمع الى أم كلثوم بعد اليوم؟ سأستمع وأستمتع وأندفع أكثر. مقاوماً. ساعياً للتحرير. كما فعل صديقي الموسيقار.