المعتَصمان..

مقالات 08 يناير 2007 0

سيسجل تاريخ الأزمات اللبنانية المتتالية منذ سنتين حتى الآن يوم الثلاثاء في السادس والعشرين من شهر كانون الأول ديسمبر الماضي على أنه يوم التوتر لقوى الرابع عشر من آذار بصفهم الأول قليل العدد.
الأول كابده القلق لم يستطع منه فرارا. لم يجد الراحة في الجلوس ولا في التنقل بين مكاتبه ولم يصل الى إغفاءة العين سبيلا. حتى أن السفير الأميركي جيفري فيلتمان استنجد بأصدقائه ضاحكاً، لدعم صمود الأول وطمأنته أن ما يقلقه غير متوفر حيث يتوقع. خاف الأول أن تكون السياسة السعودية دارت دورتها واستقرت حيث لا يريد لها الاستقرار.
رغم خبرته في الإدارة السعودية أو بسبب ما اختزنه من معرفة لم يستطع ضبط اضطرابه ولا كتم شوقه الشديد الى معرفة ما دار في الحديث بين وفد حزب الله والعاهل السعودي في القصر الملكي في جدة.
قبل سنة بالضبط عرف مرارة الالتفاف على السياسة السعودية المبادرة الى احتواء الوضع السياسي المتفجر في لبنان. ومنذ أشهر قليلة عالج توجسه من احتمال مبادرة سعودية رآها في غير صالح سياسته، فإذا بها أنباء في الصحف لا حقائق وراءها.
***
الثاني ساكن في قصر القلق. مقيم في حضن التوتر. مخصصاً سنوات عمره وأيامه للهجوم السياسي باعتباره الدواء الأكيد لكل ما يرى فيه خطراً مميتاً.
لم يسأل. لم يقلق. لم يتوقع. بادر الى تحقيق الحد الأعلى من العنف السياسي تجاه سوريا وإيران و حزب الله . غير عابئ بما يمكن أن يعرفه بعد أيام من محضر اطمئنان لمحادثات جدة.
اعتبر المحضر الشفهي الذي سمعه في اليوم التالي للقاء السعودي مع حزب الله ليس دقيقاً وبالتالي فلا بد من وضع نفسه خارج إطار احتمال اتفاق لم يحصل. لم يكن هذا وحده مبرر حرق حطام السفن إذ لم يبق هناك سفن بينه وبين خصوماته السياسية في الحزب وسوريا وإيران. لكن النبأ عن اللقاء المحيّر في طبيعته والمفاجئ في حصوله زاد من قدرته على إشعال مزيد من الحطب في محرقته على مسؤوليته الشخصية دون إلزام لأحد فيها.
***
كيف لمن في بيروت أن يعلم بلقاء على درجة عالية من السرية يحصل في الوقت نفسه في جدة؟
الجواب يمكن أن يكون بسيطاً. فقد حطت طائرة خاصة تابعة للديوان الملكي السعودي في مطار بيروت يوم الثلاثاء في السادس والعشرين من الشهر الماضي لتقل الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام ل حزب الله والنائب والوزير المستقيل محمد فنيش الى السعودية في زيارة استمرت لساعات قليلة وعادت الطائرة نفسها ليلاً بهما الى بيروت.
ما لم يعلن ليس الزيارة فقط التي أشرف عليها رئيس المخابرات السعودية الأمير مقرن بن عبد العزيز. بل أن هناك جانباً أمنياً سبق الجانب السياسي منها وعجّل في حصولها، وأن التنسيق بين الحزب والمملكة أمنياً جار منذ الأسابيع السابقة لموسم الحج الذي حصل في الأيام الأخيرة من العام الماضي.
أما ما أعلنه الأمير سعود الفيصل في باريس، فهو ان الدعوة تمت بناء على طلب من الحزب وموافقة من المملكة.
وفي جميع الحالات فإن المخابرات السعودية قد كشفت مخططاً لافتعال أحداث شغب وربما أكثر من ذلك في موسم الحج من قبل مجموعة عربية تضم لبنانيين.
أحد أفراد هذه المجموعة على اتصال ببعض أصدقاء الحزب، والاتصال هنا صفة دون الصلة وبالتأكيد بعيدة عن المسؤولية أو المشاركة فيها.
كان للتنسيق الأمني بين الأجهزة السعودية والحزب دور هام في تعطيل عمل هذه المجموعة. وتم اعتقال من استطاعت الأجهزة إليه وصولا. لذلك أصدر السيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب رسالة الى المسلمين في موسم الحج دعاهم فيه الى اعتماد الشعائر الدينية دون غيرها من الأفكار أثناء تأديتهم لفريضة الحج.
لم يكن هذا التقليد أي الرسالة السنوية متبعاً في السابق لدى السيد نصر الله، لكن القرار بالرسالة هذه السنة جاء بالتنسيق مع الديوان الملكي السعودي تسهيلاً لبعثة الحزب الى الحج ومنعاً لتفسير متحمس من واحد أو أكثر من الحجاج.
***
كان واضحاً منذ الاجتماع الأول لموفد الحزب مع الأميرين سعود الفيصل ومقرن بن عبد العزيز أن الجانب الأمني أعطى مفعوله فلم يعد من الضروري العودة إليه. وأن ممثلي المملكة يؤكدان على أن سياسة الدولة السعودية في لبنان لا تتبنى وجهة نظر طرف دون الآخر وأن ما يهم السعودية فعلا هو استقرار الأوضاع في البلد الذي يحبه السعوديون جميعاً.
حين جاء موعد اللقاء مع الملك عبد الله تبيّن أن هناك بنداً جديداً من الاهتمام السياسي، إذ أن النصف الأول من اللقاء الملكي تم بحضور الأميرين سعود الفيصل ومقرن بن عبد العزيز إفساحا في المجال أمام موفدي الحزب للتحدث براحة عن تصورهما السياسي وفي غياب السفير السعودي في بيروت الذي تناوله دون تسمية السيد نصر الله في خطابه الأخير.
لم يكن السفير عبد العزيز خوجة الملقب بالمعالي بعد ترقيته، على علم بزيارة الضيفين اللبنانيين. بل كان في بلده ساعياً الى أداء فريضة الحج. فاستدعاه الملك وطلب منه حضور الجزء الثاني من المقابلة مع وفد الحزب.
حين دخل السفير خوجة الى قاعة الاجتماع حرص العاهل السعودي على جلوسه في موقع متقدم قريب منه يلي وزير الخارجية مباشرة، وقدمه بالقول سفيرنا الذي تعرفونه. عزيزنا. ممثل سياستنا في لبنان .
***
هناك الكثير من الروايات حول الحوار الذي دار في الاجتماع وعناوينه الكثيرة. لكن يمكن اختصارها على الشكل التالي:
أولاً: تؤكد السعودية على علاقتها مع كل اللبنانيين ومن كل الطوائف(سنّة وشيعة ودروز وموارنة وكاثوليك وأرثوذكس) وهي تضع كل ثقلها من أجل التفاهم بينهم دون تفريق.
وصف العاهل السعودي لبنان بأنه حالة فريدة من نوعها في العالم ولا يمكن فهم لبنان إلا بالتواصل مع الأطراف.
ثانياً: تدعم السعودية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في سعيها الى وفاق وطني. ولا ترى في المواجهة الحاصلة حالياً أي خير للبنان. تكرّر اسما سعد الحريري والرئيس السنيورة مرات فما كان من موفدي الحزب إلا أن بادرا بالتركيز في حديثهما على وليد جنبلاط وسمير جعجع.
ثالثاً: لا مفر من الحوار بين الأطراف اللبنانية. ولا مصلحة للحزب بتمثيله السياسي مقاطعة جهات لبنانية ذات تمثيل واسع. أي تدخل من الخارج يجب أن يكون في هذا السبيل وليس غير هذا السبيل. حتى يؤدي الحوار في البداية الى تحقيق نتائج فورية. إذ أن البديل هو حالة من التأزم تصيب الجميع دون استثناء. وقد شهد لبنان حالاً واسعة من الانفراج أثناء جلسات الحوار التي عقدت برئاسة الرئيس نبيه بري.
ثالثاً: في موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي، أكد السعوديون على أنها قرار دولي لا عودة عنه. لكن هذا لا يعني أن الباب مقفل على أية تعديلات تطمئن لبنانيين وتحقق الوفاق حولها. نحن لم نسمع أن سوريا تعارض المحكمة، هل سمعتم أنتم؟ .
***
أكد موفدا الحزب أن أمر المحكمة لا يخلو من التعديل. ولسوريا جدول أعمالها الخاص الذي لا نتدخل فيه.
عندها انبرى الأمير سعود الفيصل للقول: ما دام رئيس الحكومة حاضراً للتعديل علناً وأنتم تريدون التعديل فلماذا لا تجتمعون معه وتشرحون له ما تريدون من تعديلات. في السياسة يجتمع الإنسان بعدوه. فكيف بخصمه إذا جاز الخصام؟ .
بالطبع سرد موفدا الحزب النص السياسي المعتمد لديهم البادئ بالحلف الرباعي في الانتخابات النيابية وصولاً الى الاعتصام في ساحة رياض الصلح. شارحين خيبات الأمل التي عانوها من حلفائهم السابقين.
انتهى الاجتماع وظهرت نتيجته في البيان السياسي الذي صدر عن الحزب بعد عودة الشيخ نعيم قاسم والوزير المستقيل محمد فنيش وفيه شيء من لغة التصعيد رغم محاولات نائب الأمين العام تلطيف ما ورد في البيان في اليوم التالي لصدوره، بكلامه عن إيجابية الزيارة الى السعودية. إذ تبيّن أن هذه الإيجابية تنحصر في الاجتماع ولا تندرج على السياسة الداخلية اللبنانية للحزب.
***
ما لم يقله المسؤولون السعوديون ولا تناوله موفدا الحزب الى جدة هو الحديث عن الدور الإيراني، المؤثر والفعال في هلال الأزمات. لم يقل المسؤولون السعوديون إنهم لا يقرّون بمبدأ التفاوض مع الجانب الإيراني على الوضع اللبناني او الفلسطيني تحديداً. لأنه ليس لإيران حدود طبيعية او سياسية مع البلدين كما هو الحال الإيراني في العراق، والسوري مع لبنان وفلسطين. يعتبر السعوديون أن الدور الإيراني في العراق مبّرر وواقعي بصرف النظر عن ميزان القوى الحالي الذاهب في اتجاه التدمير. لكنه لن يستمر وحين سيكون هناك طاولة للبحث في الوضع العراقي فإن الكرسي السعودي جاهز كما هو الكرسي الإيراني.
هذا ما يفسّر استمرار التواصل الإيراني السعودي عبر أمين سر مجلس الأمن الوطني الإيراني علي لاريجاني.
كذلك الأمر بالنسبة الى سوريا في لبنان وفلسطين، فكلاهما مجاور لسوريا وهناك تداخل جغرافي وسياسي وأمني لا بد من أخذه في الاعتبار بصرف النظر عن العلاقات المنقطعة حالياً.
إذاً لا السعودي يفاوض الإيراني في لبنان ولا موفدا الحزب تحدثا عن هذا الأمر الحيوي للاستقرار فما العمل؟
***
لرئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان قراءة مختلفة عن الوضع في المنطقة. فالرجل المهاب وصاحب الشعبية الأكبر في بلده يعلم أن دور بلاده في المنطقة محفوظ وأن لا احد يستطيع إلغاءه فكيف إذا كانت أكبر الازمات مشتعلة على حدوده في العراق.
الرئيس اردوغان الذي زار لبنان في الأسبوع الأول من السنة الجديدة وتفقد قوات بلاده المشاركة في قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان. هذا الرئيس الذي ينظر إليه جنرالات بلاده بعين الشك للصورة الحديثة التي يضفيها على سياسته وتصرفه. هو نفسه يبسط الأمور ويستغرب التردد في التواصل مع سوريا وإيران. ويعد الرئيس السنيورة انه سيتولى مباشرة الاتصال بطهران ودمشق وجدة وواشنطن لإيجاد صيغة تعيد الاستقرار الى لبنان.
اردوغان قام ببعض هذه الاتصالات من قبل. وهو الوحيد الذي استطاع الحصول على تعديلات لمشروع إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي من الرئيس بشار الأسد، فالرئيس السوري يعلم ان المصالح السورية التركية تبدأ بالمياه عصب الحياة وبالأمن عصب الدولة ولا تنتهي.
مع العلم أن اردوغان اعلن ان دولته العضو في الحلف لن تسمح باستعمال قاعدة انجيرليك العسكرية الأميركية لضرب سوريا إذا ما قررت الولايات المتحدة ذلك.
من هنا يبدي اردوغان تفاؤلاً بقدرته على التقدم في مسعاه. في السياق نفسه استقبل اردوغان في بيروت النائب محمد رعد رئيس كتلة الوفاء للمقاومة في اتصال هو الاول من نوعه بين الدولة التركية وبين حزب الله .
لا يرتبك اردوغان في الدعوة الى الحوار مع الإيرانيين. وقد نصح الرئيس السنيورة بأولوية إيران على سوريا في مجال الحوار. وهو وإن كان لا يرى اي تقسيم للعراق يعترف بالدور الإيراني هناك ويستغربه في الوقت نفسه. يعترف به لأسباب جغرافية وتاريخية ايضاً، إذ لا يمكن للإيرانيين ان ينسوا ان النظام السابق شن حرباً عليهم استمرت ثماني سنوات.
إلا أن لكل كلام عنواناً واحداً وهو ان السياسة الاميركية الخاطئة هي التي اوصلت المنطقة الى هذا الكم من الازمات. وليست مسؤولية السياسة الايرانية انها استفادت من الأخطاء الأميركية.
***
المفاجأة الثالثة هي الاتصال الاول من نوعه بين الدولة المصرية والأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله. حمل حسين ضرار السفير المصري في بيروت كفاءته في الحوار وشجاعته في التعبير ومباشرته في التصويب. حمل رسالة من قيادة بلده الى السيد نصر الله تؤكد اولاً وقبل شيء على التحذير من الفتنة بين المسلمين. داعياً الحزب الى الانفتاح على الحوار مع كل القوى في الداخل. مقترحاً تسمية مسؤول عن كل جهة سياسية مهمته الحوار في كل الظروف ومهما بلغت القطيعة بين القيادات الأولى لهذه الجهات.
اهم ما في الرسالة ان المنطقة ستشهد مزيداً من الازمات ولا يمكن للبنان مواجهتها بالصورة السائدة حالياً.
أما اهم ما اجابه السيد نصر الله قوله: إننا موحدون جميعاً في الخطأ، بعد استعراض مطوّل للنص السياسي المعتمد لدى الحزب منذ اغتيال الرئيس الحريري.
إذا كان الجميع مخطئاً، فماذا عن الإصلاح؟
الرئيس السنيورة يعتبر انه تقدم مع القوى السياسية التي يمثلها بثلاثة تنازلات اساسية:
الاول هو إعلان الأمين العام لجامعة الدول العربية من على باب القصر الجمهوري في بعبدا ان الرئيس اميل لحود باقٍ حتى نهاية ولايته. وهذا امر لا يمكن ان يتم دون تشاور الأمين العام للجامعة مع الاطراف المطالبة بإقالة الرئيس لحود.
التنازل الثاني هو الموافقة على حرمان قوى الرابع عشر من آذار من أكثرية الثلثين مقابل حجب الثلث المعطل عن قوى الثامن من آذار.
التنازل الثالث هو ما عبّر عنه مراراً وزير العدل شارل رزق من ان جهات قضائية قد انهت تعديل البندين المقترح تعديلهما. وقد اجتمع مع قياديين من حزب الله في منزل صديق مشترك وأبلغهم بما فعل، بمعرفة غير معلنة من رئيس الحكومة.
يستطيع السيد نصر الله والعماد عون ان يقولا إنهما حققا جزءاً كبيراً من مطالبهما المعلنة. إذا كان ما اعلن هو الحقيقي والنهائي من المطالبات.
أما إذا كان هناك جدول اعمال آخر فمن الواضح للسيد نصر الله وللعماد عون ان ميزان القوى الحالي لا يسمح بانتصارات كاملة لأي من الطرفين. فما العمل؟
***
تستطيع قيادة الحزب ان تقول إنها بدأت تقطف النتائج الرسمية العربية والاسلامية لحرب تموز، فليس أمراً عادياً أن تنفتح على الحزب وتعترف به ثلاث دول هي الأهم في العالمين العربي والإسلامي. وليس صدفة ان هذه الدول هي الدول الرموز لأهل السنة في العالم.
تركيا الساعية نحو اوروبا حداثة والأقوى تسليحاً بسبب عضويتها في الحلف الاطلسي والحقيقة التاريخية والجغرافية التي لا فكاك منها لا للعرب ولا للمسلمين.
السعودية أرض الحرمين الشريفين الأكثر إنتاجاً للنفط في العالم الإسلامي والأكثر رعاية عاقلة لأحوال العرب.
مصر الدولة ذات الدور التاريخي وإن كان يتعثر هذه الايام، الدولة العربية الأكبر ومقر الأزهر الشريف.
كيف يمكن تجاوز انفتاح بهذا الحجم وتجاهل مطالبات هذه الدول بالوفاق الوطني؟
لا يمكن تصور عمل سياسي راشد وعاقل ومتماسك يعرف قراءة المستقبل ان يعتبر ان ما حصل عليه الحزب سياسياً هو حقه وبالتالي لا مجال للتفاوض حول الشأن الداخلي اللبناني.
هذه قراءة تبسيطية خطرة لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في حال استمرار الوضع السياسي على ما هو عليه.
من السذاجة السياسية ايضاً القول إن سوريا لا توافق وإن إيران لا تدعم. لأن الجواب بكل بساطة أن على من يستفيد مباشرة من استقراره في بحر الاعتدال المتاح له ان يقنع هذين الطرفين الاقليميين ان الاعتدال صار ضرورة. بل واجباً دينياً.
ألم يقرأوا الأحكام السلطانية للماوردي حين قال: الإمامة موضوعة لحراسة الدين… وسياسة الدنيا… وليس العكس…